على ما يبدو أن فلسطين موعودة بكرة ثلج كبيرة، تحرك الركود وتحدث وتؤسس لمراحل جديدة قادمة من الثقافة البصرية والعمل السينمائي.
أقصد هذه الفعاليات واللقاءات المتتالية والمبادرات الشبابية المهتمة بالأفلام سواء المنفردة أو الجماعية جميعها تدعو للتفاؤل والإيجابية، لا يخفى على أحد تعطش جيل الشباب والمراهقين الفلسطينيين للسينما والثقافة البصرية، فهم لم يعاصروا أو يشاهدوا دور السينما فيما مضى وإن كانت لا تتجاوز في أعدادها أصابع اليد الواحدة في زمن الإدارة المصرية لغزة بعد نكسة 67، سينما النصر وسينما السامر في شارع عمر المختار – أهم شوارع مدينة غزة – لم يعتادوا رؤية دور العرض أو حتى شراء التذاكر والجلوس لساعات أمام شاشة في قاعة معتمة.
المطلع بشكل جيد يعلم أن ما تحمله كرة الثلج هذه لا يكفي لنطلق عليه أعمال سينمائية، هي في الحقيقة مقدمات وإرهاصات هامة لا بد من تواجدها لتطور وتدرج السينما الفلسطينية.
ربما تتساءل عزيزي القارئ عن أسباب ضعف أو غياب السينما في فلسطين، في المجمل لا تختلف كثيرًا في أسباب تراجعها عن بعض الدول العربية، ولكن للتجربة الفلسطينية خصوصيتها المتمثلة بوجود الاحتلال، سأؤجل الحديث عنه لأنه لا ينبغي أن يكون شماعة تعلق عليها كل مشاكلنا بلا حلٍ، هذا الضعف يعود لقلة الإمكانات والمعدات وأدوات التصوير والإستديوهات المختصة، وفقر المجال للأشخاص والكوادر البشرية المؤهلة المتخصصة بشكل احترافي، وانعدام الدعم الحكومي أو الرسمي وغياب دور وزارة الثقافة، وكذلك غياب الاستثمار المستقل والتمويل للمشاريع السينمائية، كما أن السينما ليست من أولويات العامة هنا فمازالت ترتبط في أذهان الناس باللاجدوى أو ما يسمى “مسخرة”.
وكما أن الفقر – يلعب دورًا كبيرًا – وانخفاض مستوى الدخل الذي يحصر الإنفاقات في الحَاجيات الأساسية يمنع الناس من التفكير في الكماليات أو الترفيه خاصة في غزة، أما فيما يتعلق ببنية الفيلم نجد أسلوب كتابة القصة أو الحبكة والسيناريو ركيك يتشابه والمسرحية، وهذا عائد لأن انطلاق كثير من العاملين بمجال الأفلام كان من المسرح، أما أهمها فالعمل السينمائي والأفلام بمختلف أنواعها كان موجهًا لغير الفلسطينيين سواء طويلة روائية أو وثائقية أو تسجيلية كانت لقنوات إخبارية أو مشاريع مؤسساتية صنعتْ للأرشيف لا العرض للعامة، هي لا تخاطبهم، كثير منها خاطبت الأجانب والغرب كجزء من دور الأفلام المقاوم في القضية الفلسطينية وعمل المؤسسات والقنوات الإخبارية.
لا يمكننا أن نتغافل عن دور الاحتلال الإسرائيلي التجهيلي الذي يحاصرك ويقيدك ويمنعك عن التحرك والسفر إلى الخارج والداخل معًا، ويمنع عليك فرص الانطلاق والتنوع وتبادل الخبرات والمشاركة في المهرجانات الدولية والمحلية ذات الصلة.
كل هذه الأسباب وغيرها تجعل من هذه المحاولات ربما كزوبعة داخل قارورة، هذه الحراكات هي الزوبعة والقارورة الخانقة الاحتلال الإسرائيلي، من نجح وأفلت بأعجوبة انطلق وكانت له أبواب المهرجانات مُشرعة.
مؤخرا بعض الأمور آخذة بالتحول؛ إذْ نجح عدد من المخرجين بالحصول على تمويل فلسطيني ذاتي وأيضًا صناعة أعمال تخاطب الفلسطيني في الداخل والخارج وبمستوى من الاتقان مشهود لهُ.
حقيقة، أنا سعيدة جدًا بهذه التحركات والمبادرات، على سبيل الذكر لا الحصر ما تقوم به إحدى شركات الدعاية المحلية بعرض فيلم فلسطيني كل أسبوع في قاعة الهلال الأحمر الفلسطيني بغزة، جميل هذا التوافد والتواجد وفكرة شراء التذاكر، وأيضًا عدد من الورش والندوات واللقاءات الحوارية لتبادل الخبرات والتجارب بين المختصين والهواة، وما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الحديثة من فرص للقاء ذوي الخبرة من العرب والأجانب كأداة للتغلب على الحصار الفكري والجغرافي والحريات.
هذه التحركات سبقها أنشطة مشابهة ذات تأثير قوي على الصعيد المحلي والدولي مثل مهرجان السجادة الحمراء الأول والثاني الذي سينطلق في شهر مايو من غزة وفعالية أيام السينما الفلسطينية السنوية وما تحمله من أعمال فلسطينية وعربية وأجنبية تعرضها وتتناقش وصانعوها حولها، والتي تقام في كافة أنحاء فلسطين ولكَ أن تتخيل صعوبة ذلك خاصة في الأرض المحتلة داخل 48.
بعض مؤسسات المجتمع المدني المحلية تنبهت لضرورة تواجد السينما حيث نفذت عدد من المشاريع ذات الصلة كمؤسسة القطان ومركز شؤون المرأة ومركز بيرزيت للإعلام.
يُذكر أنه في زمن الانتفاضة الأولى كان كثير من المثقفين والمهتمين بهذا المجال يقومون بمبادرات فردية ذاتية، تقوم على عرض الأفلام السينمائية للطلبة والتلاميذ بهدف المساهمة في نشر هذه الثقافة وإيصال رسالة صمود وتحدٍ للاحتلال، فهم كانوا يؤمنوا أنها أداه مهمة وملحة في وجه غطرسة هذا الاحتلال.
أذكر جيدًا تجربتي الأولى برؤية فيلم فلسطيني في قاعة نادي خدمات جباليا، كنت في المرحلة الابتدائية وقتها، كان عرضًا منظمًا لتلاميذ المدارس، تجربة لم أستطع نسيانها حتى هذه اللحظة!
أؤمن أننا سنعيش السينما يومًا، للسينما كفن خصوصية جمالية وقدرة كبيرة على التأثير والإدهاش والمتعة، تثبت الأيام أهميتها وقوة تأثيرها فهي الأداة التي لا يقف أمامها حاجز لغة أو ثقافة أو أيديولوجيات، لا يمكنك أن تقف أمامها، أما إذا أردتَ فعليك فقط أن تحاربها بعمل آخر بمستوى أعلى من الاتقان والاحترافية والتأثير والإدهاش لتضمن تحيز المشاهد إليك أو تعاطفه معك أو مع القصة الأصلية الحقيقية، لا يهم صدق القصة من زيفها ما يهم هو طريقة العرضْ.
لهذا أشعر أنها ضرورة لنا نحن كفلسطينيين ولقضية الاحتلال وما نتج عنها من قضايا إنسانية أخرى، وأيضًا لكل الشعوب والأشخاص الذين لديهم قصة أو تجربة تستحق أنْ يشاركوها مع الآخرين.
يقول المخرج الفلسطيني نورس أبو صالح “لن يصنع أفلامنا إلا نحنْ”، وهذا هو أملي من تدحرج كرة الثلج المستمر منذ سنوات.