قبل أكثر من عام كتبت مقالاً عن استفادة النهضة من الدرس المصري وتجنب فشل الثورة وما استدعاه ذلك من تقديم ديموقراطية التوافق على ديموقراطية التنافس التي لم يحن وقتها بعد ووضع هدف إستراتيجي هو انتصار الثورة ولو استدعى ذلك تراجع النهضة خطوة أو أكثر للخلف وقد جنب ذلك تونس خطر الانقلاب والعودة إلى ما قبل الربيع العربي وحافظت النهضة على تموقعها في قلب السياسة التونسية كرقم هام وصعب فيما لا تزال المطالب الاجتماعية والوضع الاقتصادي والإرهاب على رأس التحديات التي تواجه تونس الثورة.
هذه المرة سأكتب بشكل معاكس عن احتمالية استفادة إسلاميي مصر وعلى رأسهم حركة الإخوان من الإنجاز الفكري الذي ترسم ملامحه الحركة الإسلامية التونسية بكافة مكوناتها خلال مؤتمرها العاشر والتاريخي بلا شك نتيجة قراراته المتوقعة بناء على كافة التصريحات والبيانات والمؤتمرات الجهوية وورقة المضمون التي تم نشرها وأبرزها التوجه الذي دار حوله نقاشات عديدة بين مؤيد ومعارض والخاص بالقطع مع شمولية الحركة إلى تخصصها في الشأن السياسي ما يعني كون النهضة حزب سياسي ديموقراطي يسعى للإصلاح السياسي والمجتمعي والثقافي من خلال الوصول إلى السلطة وبأدواتها مع التخلي عن مهامه الدعوية والمجتمعية وإسنادها إلى المجتمع المدني.
بالإضافة إلى نقاط النقد الذاتي المنشورة والتي تدور حول قلة الخبرة لدى الحركة في الحكم حينما استدعيت لذلك بعد الثورة مباشرة فأدركت تحديات الحكم الحقيقية بعيدًا عن المعارضة وأدواتها التقليدية والتي لا تحتاج لنفس الخبرة وكذا عدم النجاح في بناء تحالفات أوسع لإنجاح المرحلة الانتقالية وأيضا عدم الانتباه إلى تلبية المطالب الاجتماعية خاصة للمناطق الداخلية التي تعاني من التهميش والانشغال بالتحدي السياسي عن ذلك، هذه النقاط المذكورة هي ما أدت إلى الانتباه إلى أهمية تبني مشروع حقيقي وواقعي بعيدًا عن لغة الأيدولوجيا الشعاراتية وحدها، فضلاً عما أدركته الحركة من تحديات خارجية وكما أشرنا سابقًا كانت الرسالة المصرية قاسية لدرجة حسمت معها النهضة ما كانت تتردد فيه، هنا أدركت الحركة أن السياسة هي فن الواقع وأنه من المهم الوصول للحكم عندما تكون مستعدًا للنجاح فيه وأنه لا مجال للفشل إلا بدفع ضريبة باهظة، عرفت النهضة قدراتها الحقيقية وأدركت تحدياتها وتحديات تونس ورتبت أولوياتها بناء على ذلك.
لم تتنازل الحركة عن مرجعيتها الفكرية وإن تراجعت عما أسمته رؤيتها الأصولية التي أقرت في مؤتمر 1986 إلا أنها تؤكد على الالتزام بالمرجعية الإسلامية وإتباع منهجية الاجتهاد في الواقع المعاصر في إطار القيم والمقاصد الإسلامية وبعيدًا عن معاني التبعية.
أيضًا برز توجه الحركة إلى مزيد من الانفتاح على المجتمع بكافة تنوعاته واعتبار النهضة ملكًا لكل التونسيين وليس فقط لأعضائه أو لمليون تونسي صوت للحركة في الانتخابات واعتبار مشروعها جزءًا من المشروع الوطني التونسي وهو الأمر الذي يدل بوضوح على إدراك حقيقي للتحديات الوطنية الملحة والتي لا تفيدها رفع الشعارات الجوفاء وتناقض متوهم بين دوائر الانتماء الدينية والوطنية، بل يفيدها رؤية حقيقية لتحديات الديموقراطية والتنمية والأمن التي تواجه الدولة والمجتمع والعمل بمقاصد الإسلام في سبيل النجاح وتخطي تلك التحديات.
سيكون من الخطأ النظر إلى قرارات المؤتمر على أنها نتاج ظروف إقليمية أو محلية فقط أو أنها نوع من التقية السياسية أو حتى الاعتقاد أنها من نتاج زعيم الحركة وحده، لأنها في الحقيقة من نتاج كافة مكونات النهضة وهي تعبير حقيقي عن تراكم فكري وحركي يحاول الاشتباك مع تحديات الواقع على مدار سنوات طويلة قبل الثورة وبعدها وهي رؤية قوية ويتم طرحها بشجاعة ووضوح يؤكد ذلك، وهذا لا يلغي الدور البارز لقادة الحركة وفي مقدمتهم زعيمها راشد الغنوشي.
ما بين الشمولية والتخصص
إن كانت الحركة الإسلامية في مصر لها أبلغ التأثير على كافة الحركات الإسلامية الأخرى فلا عيب أن تستفيد اليوم منها كما أفادتها بالأمس، وإن كان كثير من نقاط المؤتمر العاشر للنهضة تصلح لحركة الإخوان في مصر أن يدرسوها ويستفيدوا منها رغم الظروف الصعبة التي تمر بها الحركة المصرية بل إنني أجد هذه الظروف تجعل من الأمر أكثر أهمية وأولوية.
وإن كان القطع مع شمولية الحركة يناسب النهضة فإن ذلك لا يعني أنه مناسب تمامًا لحالة الإخوان في مصر، لكن قبل الخوض في ذلك أذهب بعيدًا قليلاً حيث أوضح نظريتان معروفتان في علم بناء الهوية (branding) الأولى تفترض أن المؤسسة الأم لديها عدة مؤسسات أكثر تخصصية أو تعمل في مجالات مختلفة مع قدر كبير من الاستقلالية عن المؤسسة الأم وهذا الهيكل وإن كان أكثر تكلفة إلا أنه أضمن للحفاظ على باقي المؤسسات في حال فشل مؤسسة واحدة، ومثال معروف عن ذلك عندما واجهت إحدى الشركات العالمية مقاطعة شرسة لمنتجها في الشرق الأوسط بينما ظلت العديد من المنتجات الأخرى لنفس الشركة قيد الاستهلاك، والثانية تفترض طغيان المؤسسة الأم على المؤسسات الصغيرة وإن بدا ذلك أقل تكلفة ويرفع من قيمة المؤسسة الأم إلا أنه يواجه خطر السقوط بفشل إحدى مؤسساته، ماذا يعني ذلك؟
جماعة الإخوان اعتادت العمل بالنموذج الثاني، فهي دائمًا أكبر من الحزب وأقل من الدولة لديها حزب سياسي وجمعيات خيرية وعمل دعوي إلخ من مسارات العمل الشمولية التي تتبناها بتنظيم شديد المركزية بينما درجة استقلالية تلك المسارات عن المؤسسة الأم تكاد لا توجد، فعانت الجماعة مرارًا وتكرارًا من سلبية هذا النموذج ففور فشل المسار السياسي تحملت باقي المسارات النتيجة ودفعت هي الأخرى ثمنًا باهظًا كان يمكن تجنبه لو طبقت الجماعة النموذج الأول.
ختامًا على حركة الاخوان المسلمين المصرية أن تستفيد من إسهامات الحركات الإسلامية الأخرى وأن يظهر ذلك على خياراتها وممارساتها السياسية.