تاريخيًا لا تتوج إمبراطوريات جديدة إلا على أنقاض نظم قديمة، هذا ما تفعله روسيا اليوم عبر إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتقابلها إيطاليا وفرنسا في ليبيا، مع سكون أمريكي مقلق.. فهل ستشهد المنطقة نظام دولي جديد، أدواته حروب أهلية وخراب ودمار؟
التساؤل الحالي يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، التي يبدو أنها ممهدة تمامًا لما يمكن توصيفه بالحرب العالمية الجديدة؛ فروسيا تعمل عبر إيران وأذرعها الشيعية بالمنطقة سواء نظام الأسد العلوي بسوريا، أو حوثييها باليمن، وحزب الله بلبنان، ونظام العبادي بالعراق، على إعادة تشكيل المنطقة طائفيًا بما يضمن استمرار اشتعالها، فيما تسعى الإمبراطوريتان القديمتان فرنسا وإيطاليا، لاستعادة مجديهما القديم بليبيا، وسط تخاذل أمريكي مريب، يعني أن الحرب بين الكبيرتين روسيا وأمريكا، ومحاولات الهيمنة والأحادية، فشلت في تتويج أي منهما بانتصار بالمنطقة، وانتقلا من مرحلة المواجهة لحالة المشاركة، ليستعيدا من جديد فكرة التسوية الاستعمارية القديمة، القائمة على نموذج تسوية ويستفاليا القديمة في أربعينات القرن السابع عشر، بعد حروب أوروبا الكبيرة، التي لم يتمكن وقتها الغرماء من حسمها لصالح أي منهما.
مبادئ وودرو ويلسون
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدا أن القاموس السياسي القديم في طريقه للتغيير، عبر استحداث فكرة الشرق الأوسط الجديد، القائمة على مبادئ وودرو ويلسون الأربعة عشر، التي أسست فيما بعد للحقبة العالمية الجديدة.
واليوم يبدو أن الإمبراطوريات القديمة تسعى لموطئ قدم جديدة لها بمنطقة الشرق الأوسط، مستغلة فوضى الربيع العربي بعدة مناطق، فمنذ خمسينات القرن الماضي، مثلت منطقة الشرق الأوسط أرضًا خصبة لبسط النفوذ وإحكام الهيمنة الإقليمية، وهو ما جعلها منطقة ساخنة وخاضعة للتغيرات والتحولات الدولية مع بداية العشرية الثانية من القرن الحالي، بداية من ثورة الياسمين في تونس، مرورًا بثورة يناير في مصر، وفبراير بليبيا، ثم سوريا، وصولاً لليمن، تلك الثورات التي ساهمت بكثرة التجاذبات والطائفية بها، في انهيار الزعامة السياسية للدول العربية في المنطقة، ولم تظهر أيّة دولة عربية أو إقليمية قادرة على قيادة المنطقة، ما مهد الطريق لدخول الإمبراطوريات القديمة، سواء روسيا وأمريكا بكل من سوريا والعراق واليمن، أو إيطاليا وفرنسا بليبيا، الأمر الذي ساهم في تغييرات بالأوضاع الجيوسياسية الإقليمية، ودفعت بالقوى العظمى إلى الصراع من أجل إعادة التشكيل الإستراتيجي فيها؛ لإقامة توازنات إقليمية جديدة تغير معالم المنطقة من جديد.
مواءمات وبراجماتية
بقراءة متأنية للدور الأمريكي الحالي الخانع أمام المحاولات الاستعمارية الجديدة لكل من روسيا وإيران وإيطاليا وفرنسا، نجد أن الولايات المتحدة نفسها تمسك بتلابيب وملامح التغيير في الخريطة السياسية الكونية منذ تفردها بالقرار الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال السنوات العشر الأولى من القرن الحالي تمددت الإمبراطورية الأمريكية وأصبحت قواعدها العسكرية تنتشر على امتداد القارات، قابلها في ذلك محاولات أوروبية لتدعيم الشراكة الساسية والعسكرية معها، وهو ما وضح جليًا بدور حلف الناتو في ليبيا، ما يعني انتهاء مرحلة سياسة الإزاحة، والانتقال إلى مرحلة الشراكة، ما يؤسس لمرحلة الإمبراطوريات الحديثة.
لكن ما دور ثورات الربيع العربي في ذلك وكيف استثمرتها الدول الغربية؟
الإجابة على هذا التساؤل توضح إلى مدى بعيد فكرة الإمبراطوريات الجديدة، فبداية من ثورة تونس، بدأت ملامح البراجماتية الغربية في الظهور، بسرعة استجابة الغرب للثورة التونسية والطلب من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بالرحيل باعتبار تونس ورقة لعب عادية وجندي غير ذي قيمة برقعة الشطرنج الدولية، لذلك سمحت الدول الغربية ومعها أمريكا وروسيا للثورة بالتمدد وإسقاط نظام بن علي في أيام قليلة، لأن ولادة نظام ديمقراطي جديد بتلك الدولة لا يعني الغرب من قريب أو بعيد، ولن يغير في موازين القوى العالمية، مع مراعاة ملفات اللاجئين والهجرة غير الشرعية والكيانات المتطرفة بالطبع، وهو ما ساهم في استقرار تونس سريعًا، بغض النظر عن لعبة الكراسي الموسيقية بين حزب النهضة الإسلامي، وحزب نداء تونس العلماني هناك.
مفاجأة مبارك والحلفاء
وفي مصر، شكلت المفاجأة في تحركات الشباب الرافض لأكثر من ثلاثين عامًا من حكم ديكتاتوري، صدمة لدول الغرب، حتى على المستوى الداخلي كانت حركة الأحزاب والقوى المعارضة أبطأ من تحركات الشارع.
هذه الصدمة والمفاجأة دفعت بالولايات المتحدة – مجبرة – إلى تأييد التحركات الرافضة لمبارك، لتبدو الراعي الرسمي للتغيير المنشود عربيًا، وبالتالي تضمن التوافق في وجهات النظر مع الإدارات اللاحقة للبلاد، حول الموقف من دولة إسرائيل ومصالحها وأمنها، وهو ما وضح جليًا في سرعة زيارة هيلاري كلينتون للمشير طنطاوي، بعدما تولى المجلس العسكري الحكم المؤقت بالبلاد، والتحركات الروسية الداعمة للموقف المصري بعد ثورة 30 يونيو، وغيرها من المواءمات الدولية المبنية على البراجماتية الصرفة.
وفي ليبيا، كان الموقف مختلفًا بعض الشيء، وإن كان لم يخرج عن إطار النظرة النفعية الغربية للأمور، فبعد تحول الثورة ضد نظام العقيد معمر القذافي إلى احتجاج مسلح، سارعت الدول الغربية خصوصًا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، إلى التدخل عسكريًا لاحتواء الموقف، والإسراع برحيل القذافي قبل أن ينسب الفضل في رحيله لأي من القوى الثورية، وبالتالي تضمن تلك الدول موطئ قدم لها بليبيا، لحماية آبار النفط والغاز.
رقعة الشطرنج
أما في الحالة السورية فتبدو فكرة الهيمنة والنفعية جلية للجميع، فدمشق تعتبر حجر الزاوية الأساسي بملفات الشرق الأوسط، وتشكل أرضها مساحة ولا أروع للعب الأدوار المختلفة لكل المطامع الاستعمارية، لتشكل انطلاقة لإقلاق باقي الدول الناجحة بالمنطقة خصوصًا تركيا ودول الخليج.
بنظرة متعمقة للأمور نجد أن سوريا هي المحرك الرئيس لعدد من القضايا المقلقة لتركيا ودول الخليج، ناهيك عن حدودها مع العراق التي تهيمن عليها إيران بتوافق أمريكي روسي وتقسيم للأدوار بينهما، فالقضية الكردية وملف علاقات العراق بإيران، ودعم حركة حماس والمقاومة، تشكل جميعًا حالة خاصة لسوريا، جعلتها رقعة ممتازة للتدخل البراجماتي الغربي، خصوصًا في غياب قيادة موحدة للمعارضة ضد النظام الدموي لبشار الأسد، ودخول “داعش” كلاعب فاعل في الأزمة.
وبناءً على ذلك حرصت الدول الغربية حتى الآن خصوصًا روسيا عبر إيران، على عدم إحداث أي تغيير في قواعد اللعبة بدمشق، مع اعتراف أمريكي ضمني بأن وجود بشار في الحكم على الرغم من كوارثه، أفضل للجميع – والمقصود هنا الغرب وليس الشعب السوري – أفضل من المجهول، المتمثل في تولي قيادة إسلامية لمقاليد الحكم هناك.
ما يدعم هذا التوجه تصريحات رئيس وزراء دولة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول الموقف في سوريا وموقف إسرائيل مما يحدث حينما قال “أي جواب سأعطيه لن يكون في مصلحة إسرائيل”.
إيران هي الأخرى لها واقع بسوريا لا تقبل بتغييره، يسمح لها بالتمدد عبر دمشق للعمق اللبناني، وبالتالي تهديد منطقة الخليج، في المقابل ترد الدول الخليجية بالاستعانة ببريطانيا عبر اتفاقات اقتصادية وعقود نفطية ومزايا، للحد من النفوذ الإيراني الروسي، بينما ترغب أمريكا في بقاء قواعد اللعبة السياسية – على الأقل في الوقت الحالي – كما هي، بالقياس على مبدأها الأهم وهو حفظ أمن إسرائيل واستقرارها، لاسيما بعد انهيار نظام مبارك في مصر الداعم الأكبر لأمن دولة الكيان، التي لا تنام خوفًا مما يحدث في سوريا.
أما اليمن فتشبه كثيرًا ما حدث بتونس بالنسبة للولايات المتحدة وبريطانيا، وباقي الدول الغربية، فالجميع يعلم أن التدخل الروسي باليمن ورقة ضغط فقط على دول الخليج وورائها الولايات المتحدة والغرب، للتخفيف على موسكو فيما يخص الأزمة السورية والوضع في أوكرانيا، ويسعى الجميع إلى تفويض المملكة العربية السعودية، تحت غطاء مجلس التعاون، في الأمر، مع مراعات ملفات القاعدة والممرات البحرية.
مصالح متناقضة
في المقابل، ماذا يمنع أي دولة بالمنطقة عن لعب دور القيادة ومواجهة محاولات الهيمنة الغربية؟
على مدى عقود طويلة فشلت الإمبراطوريات القديمة المتجددة في استغلال القوة العسكرية في الهيمنة على المنطقة، فلجأت للقوة الناعمة، فحاولت روسيا في سوريا ولبنان واليمن عبر إيران، لكن الدولة الفارسية فشلت بنظرتها الشيعية الطائفية في توسيع نفوذها وكسب الإسلاميين لصفوفها، إلى جانب معارضة دول الخليج.
أما تركيا، فعلى الرغم من أنها وفرت نموذجًا ديمقراطيًا فريدًا بالمنطقة، إلا أن ربط البعض لدور حزب العدالة والتنمية بالماضي العثماني، يؤثر في إمكانية نجاحها للقيادة الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط.
وفي إسرائيل، يستمر احتلالها لفلسطين في إعاقتها عن إقامة علاقات جيدة مع جيرانها في المنطقة، وبالتالي لعب دور فاعل بها، لكنها تعتمد على قوتها العسكرية وعلاقاتها مع النظام الدولي، لاستخدام “قوة المنع” لصياغة ما تريد بالمنطقة.
أما المملكة العربية السعودية وباقي الممالك الخليجية، فتمثل دولاراتها النفطية عامل حاسم في إمكانية نجاحها في دورها الإقليمي الجديد، لكن ردَّ فعلها تجاه الربيع العربي كان شديد التعقيد، وتَحدَّد بحاجتها إلى الحفاظ على الوضع الراهن في بعض القضايا أو تغيير الوضع في قضايا أخرى، ما أفشلها في تقديم رؤية شاملة جديدة لمواجهة التهديدات بالشرق الأوسط.
قطبية مستبعدة.. ودمار قريب
على أية حال، فإن ما يحكم سيناريوهات صعود أو هبوط أي قوى إقليمية يتحدد وفق مقومات القوى التي تمتلكها سواء جغرافيًا أو سياسيًا أو عسكريًا أو اقتصاديًا أو حتى دينيًا، ناهيك عن مدى القبول الإقليمي بالدور القيادي لكل دولة، وأخيرًا علاقاتها مع بعض القوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين.
وبالتالي فإن النمط القيادي الأكثر ترجيحًا في المنطقة هو صعوبة بروز دولة بمفردها تهيمن على الشرق الأوسط؛ بسبب عدم توافر أغلب مقومات القوة في دولة بعينها، لكن ما يخشاه المحللون في فشل التوافق الإقليمي حول القضايا الحالية، هو تأجيج الدول الاستعمارية للحروب الأهلية بصورة دموية، تجبر كل دول المنطقة وعلى رأسها المملكة وتركيا ومصر، للقبول بنظام عالمي جديد، أدواته روسيا في سوريا ولبنان واليمن، والولايات المتحدة بالعراق، وحدود إيران عبر أفغانستان وباكستان، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا بليبيا، وربما باقي دول المغرب العربي، وستكون الحروب الأهلية مدمرة بتلك الدول، تغرق المنطقة كلها بحمامات من دماء الشعوب المستضعفة.