خُطَى كثيرة خطاها الزعيم السوفيتي الشهير جوزيف ستالين، غير أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم تسير على واحدة منها بالتحديد تتعلق برؤية استراتيجية وجيوسياسية معيّنة تهدف إيران لتحقيقها بوضوح مستخدمة تكتيكات “روسية” اتبعها ستالين سابقًا بعد الحرب العالمية الثانية في شرق أوروبا، بيد أن سياسات ستالين قصيرة النظر أدت بعد عقود طويلة ربما إلى عكس مرادها، تمامًا كما يتوقع كاتب هذا المقال أن تؤول له نتائج السياسات الإيرانية في المستقبل، وربما القريب جدًا.
روسيا والعُمق الاستراتيجي الأوروبي
تُعَد الجغرافيا الروسية فريدة من نوعها بين كافة القوى الكبرى، فقد مُنِحَت مساحة شاسعة لتتمدد في شمال آسيا حيث تواجدت مجتمعات أصلية إما قليلة أو ضعيفة بشكل لم يسمح لها بمقاومة التمدد الروسي التاريخي فيها، وفي نفس الوقت حُرِمَت من الوصول المباشر للبحار والمحيطات الرئيسية، خاصة في الغرب، فالمحيط القطبي في الشمال الذي تطل عليه روسيا متجمد في معظم أيام السنة، في حين يُعَد المحيط الهادي الذي تطل عليه في آسيا عبر ولاياتها الشرقية أقل أهمية مقارنة بتمركزها التاريخي في القارة الأوروبية.
في الغرب، يمتلك الروس عبر مدينة سانت بطرسبرغ إطلالة على خليج فنلندا الموصِّل ببحر البلطيق، والذي يمكن للناظر لأي خريطة أن يدرك أنها ليست كافية أبدًا للتواجد في شمال أوروبا ويمكن تهديد موسكو بإغلاقها بسهولة، وهو ما يفسر قرار الروس بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية الحصول على مقاطعة كونيغسبرغ، أو المعروفة بكاليننجراد الآن، الواقعة بين بولندا وليتوانيا، والتي تطل على البحر مباشرة، وتتيح لروسيا بالطبع تمركزًا جيدًا بوجه ألمانيا ودول إسكندنافيا.
في نفس الوقت، تُطل روسيا بصعوبة على البحر الأسود عبر ساحلها الجنوبي بمُدن مثل سوتشي ونوفوروسيسك، إلا أن البحر الصغير والذي ينتهي بمضيق البوسفور ليس ذا أهمية في حد ذاته، فالإمبراطوريات المتحكمة فيه فقط لا تشكل قوة بحرية بقدر البلدان المهيمنة في البحر المتوسط والتي عُرفَت بقوتها البحرية الضاربة على غرار اليونانيين قديمًا والرومان والعثمانيين، وهو ما يعني أنه على غرار خليج فنلندا، يهم الروس لإثبات قوتهم ولكن ليس كهدف بحد ذاته، بل لتأمين الوصول للبحر المتوسط.
بالنظر لوجود بلدان أخرى مثل تركيا وجيورجيا ورومانيا وبلغاريا وأوكرانيا تُطل على البحر الأسود، وهي معظمها دول في التحالف الغربي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية (باستثناء تركيا حليف الناتو قبل ذلك بعقود)، ليس غريبًا إذن ما رأيناه من خطوات روسية في السنوات الأخيرة مستخدمة القوة العسكرية الصِرف لتأكيد هيمنتها في البحر بل وانتزاع أراض بشكل مباشر من جيرانها، بدءًا من الاستحواذ على ولاية أبخازيا من جيورجيا عام 2008، وحتى الاستحواذ على شبه جزيرة القرم ذات الموقع المركزي في البحر عام 2014 بشكل أخرج أوكرانيا بشكل شبه نهائي من معادلات القوة في البحر الأسود.
الهيمنة على البحار ليست كل شيء بطبيعة الأحوال، وهو ما أدركه ستالين مبكرًا، فإن لم يمتلك الروس ظهيرًا اجتماعيًا كافيًا في الأراضي المحيطة بالبحر الأسود وبحر البلطيق، ستكون مكتسباتهم البحرية أيًا كانت في مهب الريح، وهو ما دفع بستالين، في ظل معمعة الحرب العالمية الثانية والسياسات العنصرية النازية، إلى انتهاج سياسات عنصرية مماثلة لم ينتبه لها كثيرون أنذاك في خضم الحشد ضد النازيين، فمع تقدم الروس شرقًا نحو أوكرانيا وبولندا لمواجهة النازيين، قام الروس في الحقيقة بسياسات تطهير عرقي واضحة عُرِفَت لاحقًا دفعت البولنديين للاتجاه غربًا، وإحلال الروس والأوكرانيين والبيلاروس محلهم باعتبارهم الشعوب الأقرب لروسيا أنذاك، والتي تمثل ظهيرًا لها إن جاز القول، ليفقد البولنديون مساحات شاسعة من أراضيهم في شرق أوروبا أصبحت اليوم جزءًا من ليتوانيا وبيلاروسيا بعد تصفية أكثر من 150 ألف بولندي وتهجير أكثر من مليون منهم ناحية ألمانيا، والتي حصل البولنديون بعد هزيمتها على قطعة من أراضيها الشرقية.
حدود ألمانيا وبولندا قبل الحرب العالمية: يمكن ملاحظة الفرق بينها وبين الخريطة الحالية (أوكرانيا جزء من روسيا هنا ولا تظهر كبلد مستقل)
بعد نصف قرن ماذا كانت النتيجة إذن؟ في الحقيقة أثبت التاريخ أن النهج الستاليني كان قصير النظر لسببين، أولهما أن دفع كيان بولندا جغرافيًا وديمغرافيًا بالمعنى الحرفي ناحية الغرب لم يفسح المجال كما ينبغي للروس وأصدقائهم، وأفقد موسكو طرفًا لطالما اعتبر نفسه في منتصف الطريق بين الألمان والروس، فبولندا اليوم ببنيانها الاقتصادي مندمجة بشكل كبير جدًا في الاقتصاد الألماني، والألمان بدورهم لا يمكنهم تخيل دورهم القيادي والقوى في أوروبا بدون وجود بولندا في مدارهم سياسيًا واقتصاديًا، لا سيما وأنها أقرب جغرافيًا مما كان عليه الحال في السابق، وهو ما يعني أن خسارتها تهديد مباشر للألمان.
الروس إذن خسروا البولنديون للأبد على العكس مما كانوا يومًا ما كطرف محايد سياسيًا بينهم وبين الألمان، أما السبب الثاني فهو أن الشعوب التي اعتبرتها روسيا ظهيرًا لها يومًا ما وأتاحت لها التمدد مكان البولنديين، وهم الأوكرانيين والبيلاروس، لم تلبث حوادث التاريخ أن وضعت مصالحهم في تضاد مع الروس كما رأينا إبان انهيار الاتحاد السوفيتي ولا زلنا نرى إلى اليوم، فبيلاروسيا أولًا تحاول أن تمركز نفسها اليوم كوسيط بين الروس والغرب وليس بالضرورة كطرف تابع للروس، أما الأوكرانيين فقد انقلبت علاقاتهم بالروس بعد تدخلها الواضح في شرق البلاد واستحواذها على القرم إلى النقيض، ليعود الهاجس الروسي مرة أخرى بتأمين العُمق الاستراتيجي في شرق أوروبا، والذي لم يعد ينفع معه إلا التدخل المباشر تارة، والاعتماد على المواطنين الروس بأنفسهم ووجودهم في شرق أوكرانيا وغيرها تارة أخرى، وهو أمر صعب في زمن لم يعد ينفع فيه التطهير العرقي الفج على غرار ما قام به ستالين.
إيران أيضًا تريد الوصول للبحر المتوسط
على غرار الروس، تمتلك إيران جغرافيا مُغلقة نسبيًا مقارنة بتركيا ومصر، فهي تطل على بحر قزوين المغلق في الشمال، وهو ليس بحرًا رئيسيًا بطبيعة الحال، وعلى الخليج الفارسي في الجنوب وشريط قصير على البحر العربي، ومثلها مثل الروس، باعتبار تمركزها التاريخي ثقافيًا ودينيًا إلى غربها ناحية الشرق الأدني، وليس إلى شرقها حيث يقبع الصينيون والهنود، لطالما امتلكت إيران رغبة استراتيجية واضحة بالوصول للبحر المتوسط وما يمليه ذلك من بناء عُمق استراتيجي في المشرق العربي.
الإمبراطورية الفارسية ومعارك طويلة من أجل الوصول للبحر المتوسط حاربوا من أجلها اليونانيين كثيرًا في العصور السالفة
حتى وقت قريب، ارتكزت تلك السياسة الإيرانية إلى رصيدها كقوة مُمانعة، ووجودها كطرف وحيد معادي بوضوح لإسرائيل، مما جعل أي قوة عربية ممانعة ظهيرًا للقوة الإيرانية، بدءًا من حماس في غزة وحزب الله في جنوب لبنان، وحتى نظام الأسد في سوريا، علاوة على النظام الشيعي العراقي الجديد الذي نشأ بتنسيق أمريكي وإيراني وإن كان بعيدًا نسبيًا عن محور الممانعة، إلا أن إيران لم تسمح له بالسقوط في قبضة المحور “المعتدل” بقيادة الخليج.
مع اندلاع الربيع العربي وظهور السياسة الجديدة لحزب العدالة والتنمية في تركيا تبدلت الأوراق قليلًا، لا سيما مع الثورة السورية بالتحديد والتي هددت نظام الأسد بشكل واضح، والذي تعامل معها بالعنف المفرط لتتحول في غضون أشهر إلى حرب مفتوحة اختارت فيها إيران الدعم الواضح والشامل للنظام علويّ المذهب، بوجه الثورة التي اكتسبت طابعًا سنيًا من ناحية أخرى، لتنخرط لأول مرة في صراع ذي وجه طائفي مفتوح بهذا الشكل.
بالتزامن مع ما يجري في سوريا كانت الأوضاع تتغير في العراق بعد انسحاب الأمريكيين، والذين ضمنوا للسُنة العراقيين دورًا ولو ضئيل في السياسة العراقية، ليدشن المالكي مشروع تشييع كامل للجيش والدولة العراقية اعتمد فيه على الجيش بقدر ما اعتمد على حلفائه من الميليشيات الشيعية المدعومة من جانب إيران، وفي الوقت الذي انفصلت فيه فعليًا إدارة شمال العراق الكُردية، أصبحت إيران مرة أخرى بمثابة لاعب طائفي على الساحة العراقية بدعمها لنظام شيعي صِرف يتبع سياسات تهميش منهجية للسُنة.
خريطة المشرق حاليًا توضح هيمنة النظام العراقي في جنوب البلاد ونظام الأسد وحلفائه الشيعة في جنوب سوريا
بارتكازها حاليًا لمناطق ذات أغلبية شيعية بشكل واضح، تقوم إيران رويدًا بدفع حلفائها لتوسيعها بشكل واضح في خضم التركيز العالمي على وحشية داعش، تمامًا كما فعل ستالين سابقًا بينما كانت الأضواء منصبة على مجازر النازيين، فالمصادر متاحة لمن أراد أن يعرف عما يقوم به حزب الله في جنوب سوريا من تهجير لأهل بعض القرى السنية وتوطين شيعة لبنانيين فيها في محاولة لمد نطاق تواجد شيعة لبنان، وكذلك في العراق حيث تقوم الميليشيات الشيعية في بعض المدن مثل الرمادي بتهجير السنة هي الأخرى، وهي سياسة لا يمكن أن تهدف بها إيران إلا لمحاولة خلق حزام شيعي في جنوب العراق وسوريا بشكل يحفظ امتدادها بشكل مباشر في المشرق وباتجاه البحر المتوسط.
السؤال هنا الآن، هل ستنجح تلك السياسة الإيرانية أصلًا؟ في الحقيقة، ومقارنة بما كان عليه الحال خلال الإدارات الإيرانية السابقة التي التزمت بالخط التقليدي المعادي للغرب بشكل تام، تبدو إيران في طريقها لفقدان أي رصيد لها لدى العرب السنة في المنطقة، والذين تمتعت بينهم بشعبية واضحة حتى وقت قريب، فالسياسات الطائفية للإدارة الحالية، والتي تتسم بالبراجماتية أكثر من سواها على ما يبدو بقرارها الانفتاح على الغرب والاعتماد على الشيعة بالمنطقة دون غيرهم سيجعل من السُنة في العراق وسوريا مع الوقت ظهيرًا لتركيا في المقام الأول، والخليج بشكل غير مباشر، وما يجري بشمال سوريا تحديدًا وداخل تركيا يوضح بجلاء أن السنة عاجلًا أم أجلًا، بارتباطهم داخل تركيا بالاقتصاد التركي بعددهم الذي قارب على الثلاثة ملايين، وداخل الأراضي الواقعة تحت سيطرة المعارضة بشمال سوريا والمرتبطة بشكل كبير بالاقتصاد التركي هي الآخرى، سيشكلون مستقبلًا عمقًا استراتيجيًا للقوة التركية، كما حدث بين بولندا وألمانيا.
من ناحية أخرى، وكما جرى في شرق أوروبا أيضًا، لا يبدو أن اعتماد إيران على شيعة العراق تحديدًا مضمونًا للأبد، فالأوكرانيون حالما تخلصت أوروبا من خطر النازية تمامًا بدأوا في معارضة النظام السوفيتي حتى انفكوا منه عام 1990، وهو ما يتوقع أن يحدث لشيعة العراق الذين يعرف كثيرون الخلافات بينهم وبين أقرانهم من الإيرانيين على مستويات عدة، ليس أقلها أنهم ينتمون لقبائل عربية عريقة لن تناسبها الهيمنة الفارسية الصِرفة، علاوة على الخلافات السياسية داخل المذهب الشيعي نفسه بين الإيرانيين والعراقيين، والتباينات الواقعة بين القوى الشيعية العراقية التي لا تلتزم كلها بخط الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل ويمتلك بعضها رؤى قومية عربية.
يتحدث الجميع الآن عن انتصار مرحلي لإيران، ونجاح لمشروعها الصلب مقارنة بهشاشة المشروع التركي حاليًا، وتراجع المشروع الأمريكي بإرادته ربما أو رغمًا عنه، غير أن المستقبل القريب حالما تضع كل تلك الصراعات أوزارها هو الذي سيكشف لنا ما إن كان المشروع الإيراني صلب بالفعل، أم لا يعدو كونه عنيفًا وأعمى في الوقت ذاته، فالاعتماد على الشيعة العرب كظهير للجمهورية الإسلامية الفارسية لربما يكون خطوة قصيرة النظر على المدى البعيد، تُفقِد إيران حلفائها السنة تمامًا، كما حدث للروس مع بولندا، دون أن تغلق إمكانية نشوب خلافات عميقة بينها وبين الشيعة العرب، كما حدث للروس مع أوكرانيا.