كانت هواية الطيف الأوسع من الناشطين في الفترة ما بعد وصول فريق الرئيس حسن شيخ محمود للرئاسة في الصومال عام 2012 – بما فيهم كاتب هذه السطور – انتقاد الحكومة وشخوص قياداتها على التعثر المطرد للعملية السياسية والوضع الأمني، وافتقار مسارات بناء هياكل “الدولة” المختلفة ووحدات بنائها للحد الأدنى من السلاسة المطلوبة، وأخيرًا وليس آخرًا تقارير فضائح الفساد الحكومية الموسمية الصادرة عن المؤسسات الدولية.
وبطبيعة الحال لن يجادل أحد عن واقعية الصورة المأساوية أعلاه، حتى لدى من هم في السلطة على الأرجح، لكن الذي يظهر بشكل جلي أنه فات الجميع تقريبًا – في موجات الانتقاد ونوبات الجلد – تبيُّن جذور المشكلة الأولية، في دوران مفرغ حول الأعراض والهوامش.
يمكننا اعتماد مسألة انحناء الرئيس لنصب قتلى معركة عيل عدي – التي سحقت فيها سرية كاملة للجيش الكيني على يد حركة الشباب – كنموذج لحالة تشتت التركيز الجمعي الموصوفة أعلاه، والتي تتخذ عدة أوجه؛ ابتداءً من سوء تناول الواقعة نفسها من قِبل النقاد، وانتهاءً بالعجز عن التوصل من خلالها للب الإشكال.
الانحناء في مناسبات التأبين تحول اليوم إلى طقس عالمي دبلوماسي إن صح التعبير، لا يجد أكثر الرؤساء غضاضة في فعله، فهو لا يختلف عن السلام الجمهوري للمسؤولين الرفيعي المستوى أو وضع باقات الزهور أو حتى عرف السجادة الحمراء، وكل ذلك لا يثير مشكلة لدى أحد.
ما سبق لا يفسر حتمًا كمية الغضب والاحتجاج الذي ملأ ساحة وسائل التواصل الاجتماعي، الذي وقع في جله بمغالطة التجاوز بهذا العمل من طبيعته العرفية، ورفضه باعتباره كـ “سجود أو ركوع” محذورًا شرعيًا عقديًا.
هنا عجز المحتجون عن التسبيب لغضبتهم من صورة الانحناء بسبب منطقي، فما وراء الانحناء كان الأهم منه، وكان بالتالي الدافع الباطني لتلك الغضبة التي لم يحسن أصحابها ربطها به.
مسؤولية شخص “الرئيس”
الحقيقة التي لا تحتاج إلى بيان هي أن “الدولة” الصومالية حاليًا هي عبارة عن هيكل هش لمشروع استيلاد دولة غربي/ إقليمي متقاطع مع مشاريع مجموعات مصالح فئوية محلية، في ظل غياب مشروع وطني حقيقي وجاد، ونتج عن ذلك بُعد هذا الهيكل – خصوصا في شقه المركزي – عن أي شكل من أشكال السيادة، إلى جانب افتقاره إلى الفعالية لأسباب ذاتية وموضوعية.
وعلى هذا الأساس، يكون من البديهي أن فردًا أو مجموعة أفراد لن يمكنهم إنجاز الكثير داخل نظام معطوب الجوهر (هذا على افتراض بذلهم الوسع للتغيير للأفضل) فكل داخلٍ للنظام أو مستدخلٍ فيه يتحول لترس في ألة، أو إلى مجرد جزء من ذلك الكل المريض، وبالتالي لن تكون المناقشة حول تفاصيل الفشل السياسي في ملف ما ذات فائدة، بقدر مناقشة جدوى دخول غمار نسق جارف بمشاريع سياسية هشة، وهذه ليست دعوة لتجاهل السقطات التي كان يمكن تفاديها، أو الخطوات التي لم تتخذ وكان يسمح هامش الحركة بها، بل دعوة للتركيز أكثر على الجوهر بدل الهامش.
ففي حالة الفشل العام يكون من المجحف التركيز على فرد سيء الحظ جالس في سدة الحكم، خصوصًا أن اللوم الذي يستحقه يشاركه فيه كل الطيف السياسي بلا استثناء، وكل اللاعبين في حلبة العملية السياسية منذ بدئها وحتى اليوم، وحسب المثل الصومالي المشهور: gaal dil gartiisana sii!
ما وراء الانحناء
إذا كان الانحناء كما قدمنا ليس في ذاته مشكلة تذكر، خصوصًا مع كونه مجرد انحناء أولاً، وكونه عرفًا دبلوماسيًا يصعب التملص منه ثانيًا، فالاطلاع على سياقه السياسي والميداني ربما ينير لنا الطريق قليلاً في تلمس الإشكال الحقيقي وراءه.
اجتاح الجيش الكيني مناطق جوبا عام 2011م في غزو لم يتمتع بغطاء “الاستدعاء” الشكلي الذي تمتع به الإثيوبيون، ولا غطاء الشرعية الأممية التي يحارب على أساسها الأوغنديون والبورونديون وغيرهم، وبرزت بشكل واضح ومنذ الوهلة الأولى مخاوف من كون تدخل كينيا من جنس مثيله الإثيوبي الرامي لفرض أمر واقع سياسي في حديقتها الخلفية، يمكِّنها من إرساء نفوذها وهيمنتها في سياق اقتسام الكعكة الصومالية، لكن وثائق ويكيليكس أكدت هذه المخاوف، فقد أثبتت تضليل ساسة كينيا للرأي العام بادعاءات كون الغزو غير مخطط له وكونه ردًا على عمليات خطف في مناطق الساحل الكيني اتهمت بها حركة الشباب، إذ كانت كينيا تخطط منذ وقت طويل للغزو وسعت قبل أي أعمال خطف هنا وهناك لتوفير ظهير دولي وتمويل كافيين له.
ورغم استدخال قوات التدخل الكيني في بعثة الأميصوم، والذي من شأنه ألا يغير من حقيقة دوافعها شيئًا، إلا أن التدخل اتسم أيضًا بتلك الانتهاكات التي اتسمت بها عمليات القوات الأفريقية الأخرى – عدا عن جيبوتي – وتجاوز الأمر ذلك ليتم النظر للألة العسكرية الكينية من قبل جهات عدة كطرف في النزاعات العشائرية في كسمايو وباقي مناطق جوبا، ما راكم الكثير من المظلوميات.
وبعيدًا عن تلك الخلفية، فتفاصيل معركة عيل عدي وما لحقها من انتقام الجيش الكيني – الذي يذوق لأول مرة إهانة عسكرية بهذا الحجم – بحق الرحل وسكان القرى على حد سواء، من إعدامات ميدانية وقصف جوي عشوائي للتجمعات السكانية وقطعان الماشية، هذا كله أكد موضعة الوجود العسكري الكيني في تلك المناطق ضمن سياق احتلال عسكري وغزو خارجي؛ على الأقل بالنسبة لسكان تلك المناطق.
لهذا مثّل حضور رئيس الحكومة لمناسبة تأبين ضحايا تلك المعركة من الجيش الكيني – وإن كان عاديًا في ذاته – أمرًا حساسًا، بل وبمثابة خذلان للمجتمعات المتضررة من حملة العقاب الجماعي الدموية التي شنها رفاق أولئك الجنود الضحايا، خصوصًا مع برود الحكومة – المفهوم وغير المبرر في نفس الوقت – تجاه تلك الجرائم.
هذه الصورة السيئة التي رسمتها تلك الانحناءة في سياقها هذا، ليست أمرًا مستجدًا ولا صادمًا، فهي قديمة قدم مؤتمر امبغاتي وغزو إثيوبيا لجنوب الصومال قبل عقد، لكنها ربما نفضت غبار المكتسبات الوهمية عن واقع العملية السياسية، أو عكست للرأي العام صورة مستقبلية سيئة للدولة التي يتم استيلادها حاليًا للصومال.