ننهي في هذا المقال حديثنا عن الثلاثي المقدس لعلم الاجتماع؛ أو المؤسسين الثلاثة الأهم في تاريخ العلم، في المقالين السابقين في السلسلة تحدثنا عن كل من كارل ماركس وإيميل دوركايم، وفي هذا المقال نتحدث عن أصغر الثلاثة سنًا وأكثرهم تخصصًا وتركيزًا ربما، الألماني “ماكس فيبر”.
من الثلاثة؛ قد يكون فيبر الأصعب في تناوله، ربما ينبع هذا إلى تناقض أصيل على أعمال فيبر، تناقض بين تخصصها الشديد وتنوعها الواسع، تخصص ينبع من انغماس شديد في التحليل الاجتماعي لأي ظاهرة؛ إذ كان يؤمن تمامًا أن أي ظاهرة مهما كانت يمكن إرجاعها لأسباب اجتماعية، وتنوع ينبع من استخدامه لهذا الأسلوب في تفسير عدد لا متناهي من الظواهر التي قد تبدو غير مترابطة لوهلة، إذ يبدأ من الدين ليمر بالبيروقراطية ولا ينتهي عند الكاريزما والسلطة.
يختلف علماء الاجتماع كثيرًا عن صعوبة تصنيف فيبر، إذ يرى الكثير أن دراساته قد يكون من الأنسب تصنيفها تحت النظرية السياسية؛ إذ كان السؤال الأهم دائمًا عند فيبر هو سؤال السلطة، كيف تنمو السلطة في المجتمع لتتحكم فيه وكيف يتقبلها أفراد المجتمع، وفي هذا المجال تحديدًا قام فيبر بتناول الكثير والكثير من المواضيع؛ إذ بدأ بدراسة دور الدين وأفكاره ومنطلقاته في تشكيل أفق المجتمع وأنماط السلطة فيه؛ واتجه من هنا لدراسة البيروقراطية وأسلوبها في توزيع وتركيز السلطة في المجتمع، وليتمكن من فهم وتفسير هذا بشكل أوضح بدأ في تشكيل فهمه عن الفرد وموقعه في المجتمع كجزء من الطبقات الاجتماعية.
إلا أن واقع الأمر يكشف أن بالرغم من البعد السياسي لدراسات ماكس فيبر؛ يبقى جوهر عمله أقرب للدراسات الاجتماعية منه للسياسية، خصيصًا مع واقع مبارحة فيبر وأسلوبه للبحثي لتراث طويل من الدراسات الفكرية والفلسفية السياسية في أوروبا في هذا العصر، لم يشغل فيبر نفسه بأسئلة كالديموقراطية والشعب والسلطة في شكلها الرسمي، وإنما انشغل في واقع الأمر بالسلطة كواقع حقيقي يتغلغل المجتمع ويسيطر عليه؛ لا كشيء منطوق ورمزي يتم تداوله في قاعات البرلمانات وأروقة الحكومات.
نحاول في السطور التالية تتبع عدد محدود من إسهامات فيبر العلمية في المجال، وكالمعتاد في كل مقال يجب أن نعود للتنويه إلى أن هذا التتبع مختصر بشكل مخل، لأن أي محاولة لتجزئة وشرح كلية أعمال فيبر وبنيانه النظرية في مثل هذا المجال لن تكون كافية، ولذلك سنكتفي بتقدمة سريعة لأهم ما شغل باله من الإشكاليات، ونسعى إلى أن تكون هذه التقدمة مجرد بوابة للقارئ المهتم لتتبع أعمال فيبر المختلفة؛ ونحاول أن نساعد على ذلك بتوفير قائمة من أعماله وأعمال نشرت عنه في نهاية المقال للقارئ الذي قد يرغب في التوسع بعد ذلك.
العقلنة والبيروقراطية، أو كيف تحول العالم إلى قفص حديدي
بشكل عام؛ دائمًا ما تمحورت جهود علماء الاجتماع الأوروبيين في تلك الفترة حول الإجابة عن السؤال التالي: “لماذا حدث التنوير والثورة العلمية في أوروبا؟ ولماذا هذا الوقت تحديدًا؟”، تناولنا هذا السؤال بشيء من الاختصار في المقال التقديمي إلى السلسلة؛ كما يمكن للقارئ أن يلاحظ أصداء السؤال ذاته في المقالين السابقين عن ماركس ودوركايم.
كانت إجابة فيبر عن السؤال السابق مرتبطة إلى حد كبير بثنائية قديمة قدم الفلسفة واللاهوت الغربي ذاتهما، إذ دائمًا ما رأى الأخيران العالم عبر ثنائية “المقدس\الدنس” المسيحية، إذ تنطلق تلك النظرة من الإيمان المسيحي بأن الرب لم يخلق كل الأشياء متساوية، أي أنه قد خلق أشياء تتصف بصفاته وترتبط به وهي ما يعرف بالمقدس، وعلى الجانب الآخر هناك ما خلقه الرب من صفات ومكونات الأرض فحسب؛ هذه هي الأشياء التي توصف بالدنس، أشياء لا تليق بالرب وعلى عباد الرب التخلي عنها في سبيلهم إليه.
يمكن وصف الإنسان بالاستثناء الوحيد للثنائية السابقة، إذ يجمع الإنسان في ذاته واقع خلقه من طين الأرض الدنس؛ إلا أنه يحمل في ذاته روح وصفات الرب التي تتجلى في قدرته على الاختيار وفي عقله.
رأى فيبر أن سر الإجابة على السؤال الأساسي يكمن في تخلي الإنسان والحضارة الغربية عن هذه الثنائية مع بداية عصر التنوير، إذ توقف الإنسان عن رؤية الواقع في صورتي المقدس والدنس، انطلقت رؤية جديدة من واقع أن كل الأشياء متساوية، كل الأشياء يمكن قياسها وحسبانها بالعقل.
وصف فيبر العملية السابقة بالعقلنة، أي إخضاع الوجود في كليته للعقل الإنساني، وبالتالي التأكيد على إمكانية التحكم فيه وإخضاعه للعقل والترشيد ليصبح في خدمة الإنسان في أفضل الصور.
يفرض السابق بالضرورة أن الإنسان في حد ذاته قد خرج من قائمة المقدس بالكلية، أي أنه قد تحول بالضرورة إلى شيء يمكن التحكم فيه وترشيده للوصول إلى أفضل النتائج، وما هو الشكل الذي يمكن الوصول إلى أفضل النتائج عبره؟ أجاب فيبر عن السؤال السابق بـ “الجهاز البيروقراطي”. هذا الجهاز الذي يتعامل مع العاملين به كمجموعة من الآلات الحاسبة؛ ومع المتعاملين معه من الأفراد كمجموعة من الموارد الممكن استخدامها في أفضل صورة ممكنة لتحقيق الغايات المطلوبة.
وفي واقع الأمر؛ من الصعب إغفال حقيقة أن ألمانيا التي ولد فيها فيبر وعاش فيها عمره كله قد تكون أفضل مثال على واقعية التحليل السابق، ففي غضون أقل من عشرين عامًا على وفاة فيبر كان الجهاز البيروقراطي النازي يمارس عمله في أكفأ الصور في مهمته للتخلص من أكبر عدد ممكن من اليهود الأوروبيين في أقصر وقت، وذلك لأن هذا الجهاز قد رأى أن هؤلاء الأفراد يمثلون “مستهلكين غير ذوي فائدة”، أي أنهم علقة على تقدم الشعب الألماني نحو التقدم والتطور.
مثلت هذه اللحظة قمة نزع القداسة عن الإنسان واعتباره مجرد مورد أو مادة خام يتم استخدامها على أنسب وجه، لم يرى المسؤولون عن القيام بتلك الإبادة أي مشكلة في القيام بها، لم يشعر أي منهم أنه يرتكب جريمة، فقط كان كل منهم يقوم بعمله، وقد عملت البيروقراطية على توزيع المهام بشكل كفء ومفصل، فينتهي الأمر بأحد الموظفين محضرًا قائمة بأرقام القطارات، وآخر يعمل على تعداد من يمكن نقلهم في هذه القطارات، وأخر يأمر بنقل اليهود بها، وينتهي الأمر بموت آلاف منهم في هذه القطارات دون أن يقوم أي فرد من السابقين باتخاذ قرار قتلهم بشكل مباشر.
خطت البشرية إلى ما سماه فيبر بـ “القفص الحديدي”، قفص يأسر حياة كل أفراد المجتمع، القانون الوحيد الحاكم لهذا القفص هو جدرانه الحديدية التي تحبس حيوات الأفراد والمجتمع وتشكلها في شكل معين، هذا الشكل هو الشكل الذي يرى أفراد معدودين من البيروقراطية الحاكمة فيه أفضل استخدام للمجتمع والأفراد، وفي حالة رأى هؤلاء أن من داخل القفص لا فائدة ترجى منهم؛ فلن يتوقف هذا القفص عن التقلص حتى ينهي حيوات هؤلاء للحفاظ على الموارد التي قد يستهلكوها.
في هذا القفص؛ لا تواجد حقيقي لمشاعر كالذنب أو التعاطف، أو حتى الكراهية والحقد، فقط حسابات عقلية جادة ومخلصة، إلا أنها حسابات لا ترى فرق بين الإنسان وأي شيء عداه، أي أن الإنسان في هذه الحالة ليس أكثر خصوصية من ختم يحمل شعار الدولة أو مكتب يجلس عليه الموظف الحكومي بأي حال من الأحوال