قُدر لي أن أدخل عالم الأغنياء ردحًا من الزمن، هذا العالم الفريد بمظاهره الخفية التي لا تبدو عيانًا لأول وهلة، كما أنه يحكمه العديد من البروتوكولات والعادات، خاصة في بلد مثل مصر التي يقع أكثر من نصف سكانها – البالغ تعدادهم تسعين مليون نسمة – تحت خط الفقر.
وحين نكشف خفايا وأجواء هذا العالم لا نقف طويلاً حول المظهر الأنيق والسيارة الفارهة والطعام الشهي أو حتى نوادي التنزه وحفلات السهر والرحلات الممتعة لشرم الشيخ أو الساحل الشمالي أو أي من المنتجعات، فتلك المظاهر التقليدية للثراء توجد في كل أمصار الدنيا، كما أن التلفاز لم يأل جهدًا في عرضها عبر أفلامه ومسلسلاته وإعلاناته، في محاولة لترطيب الأجواء النفسية للفقراء والمعدمين الذين يجدون نوعًا من البهجة النسبية في مطالعة الجمال من خضرة وقصور فيلات وفاتنات، عبر الشاشات، فضلاً على أن المادة الإعلامية دومًا تتجنب أن تكون قاتمة ومسهبة في عرض الأزمات المعيشية كي لا ينفر المشاهد المثقل بهموم الحياة والمعيشة طيلة النهار، فالمحبذ أن يجد في الشاشة نوعًا من المتعة مع الاسترخاء الذي لا يكلفه شيئًا بالمقارنة بالجلوس في نادي أو حتى مقهى شعبي.
وأول ما يشد انتباهك في عالم الأغنياء بمصر أنه لا يقتصر – كما يعتقد الناس – على طبقة الموهوبين والمتميزين والمثقفين، بالعكس تمامًا، فإن هذه الشريحة تمثل نذرًا يسيرًا من التركيبة الاجتماعية لهذا النادي، نعم قد تجد طبيبًا بارعًا، ومستثمرًا ناجحًا، ومهندسًا متألقًا، ومعلمًا جهبذًا، لكن الكثرة تنحصر في نمطين، إما شريحة من الأفاقين أو الوصوليين أو ذوي المناصب الإدارية المرموقة أو أصحاب الاستثمارات المشبوهة، وإما جيل من أبناء لأسر ثرية، الذين يقال عنهم إنهم ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب.
ونقول مرارًا وتكرارًا إن معادلة “من جد وجد ومن زرع حصد” هي معادلة غير موزونة على الإطلاق في مصر، في ظل أجواء الفساد الإداري والفهلوة ودهاليز المصالح الخاصة، التي ينفذ منها من باعوا ضمائرهم وصولاً إلى عالم الثراء.
المحظوظون في مصر لهم أيضًا نصيبًا في نادي الأغنياء، فقد يكون بعضهم من حملة شهادة الثانوية العامة بتقدير 50% لكنه بالمحسوبية ينخرط في سلك القضاء أو الشرطة أو الجيش ويتدرج لمكانة مرموقة يحسده عليها خريجي كليات القمة من طب وهندسة.
والمهرجون كذلك شريحة لا يستهان بها في نادي الأغنياء، وهم ثلة لا تجيد غير الرقص والقبلات والأحضان والغراميات وكافة أشكال الإسفاف التي تجعله النجم الكبير والفنان القدير، لكنه يفترق عن باقي أعضاء النادي بأنه يحوز على الثروة والشهرة!!
هموم ومشاكل أعضاء نادي الأغنياء تختلف جذريًا عن هموم سائر المصريين الكادحين، بالطبع في كل غرفة – مثلاً – مكيف، وفاتورة الكهرباء تأتي فلكية شهريًا، لكنها لا تلفت أنظارهم كما هي حديث القاصي والداني من العوام.
وبالطبع لا يحبذون تناول الأسماك في البيت بسبب رائحتها النفاذة، ويفضلون تناولها في المطاعم الخارجية، حيث الأسماك البحرية المتميزة، بعكس البسطاء الذين إن وجدوا السمك فهو تربية المزارع والله أعلم كم النفايات والهرمونات التي تناولها.
وبالطبع مدارس الأولاد وجامعاتهم أجنبية، والخادمة ربما فلبينية، حتى المياه يفضلونها معدنية أو على الأقل مفلترة، والفاكهة والخضراوات أورجانيك، أما اللحوم والدجاج فهم لا يحبذون العظام إطلاقًا، ويفضلون البانيه والفيليه وسائر المنتجات الخالية من المنغصات (شاورما، هامبرجر، بسطرمة، لحوم مدخنة).
أما أزمات الأثرياء فهي دومًا مع الأقساط الشهرية لثمن الشاليه في أحد المنتجعات السياحية، أو دولرة العملة المحلية تحاشيًا لهبوط الجنيه المتواصل، أو مشاكل الأولاد مع مدرسين المواد الدراسية الذين يتوافدون على فيلاتهم، ليعطوا المحروس المدلل الدرس بمفرده.
وأعضاء نادي الأغنياء يتسمون عامة بهدوء النفس والصوت المنخفض والمناقشات الهادئة، فالتوتر في حياتهم شبه مختفٍ، وهذه ملاحظة جوهرية وسلوك محوري كاشف لخلفية الشخص المترف، حيث تخلو حياته من منغصات زحام المواصلات العامة، وطوابير الخبز والتموين المدعمة، وإهمال المستشفيات الحكومية، وحتى الخوف على مستقبل الأولاد في ظل بطالة طاحنة ودخول مادية متدنية، وكل هذه التوترات الحياتية للقاعدة المصرية العريضة لا شك أنها تستفز المشاعر وتأزم الانفعالات وتضيق الصدر، وتجعل البائس على حافة الانهيار العصبي عند أبسط احتكاك به.
والأغنياء يخافون على أنفسهم بدرجة لا يتصورها عقل، فعند المرض يكون الهلع الذي لا يقف في وجهه عائق التكلفة الباهظة للفحوصات والعلاجات، فبدل الأشعة الواحدة تؤخذ عدة إشاعات، وبدل التحليل الواحد يتم عمل تحليلات شاملة ومتخصصة، وفي أرقى المعامل، والمستشفيات لا بد أن تكون من مستوى الدولي أو التخصصي، وإذا لزم الأمر يطلب الدواء مستورد من أحد البلدان الأوروبية، أو الذهاب للخارج من أجل خدمة طبية وعلاجية متميزة.
أما أحاديثهم في جلسات السمر فيغلب عليها ضعف الثقافة العامة، وضحالة الفكر، لأن العلم في حد ذاته مضني في تحصيله، وهم بالطبع لا يحبون بذل الجهد، وغاية مصادر المعرفة لديهم شاشات التلفاز وهي بالطبع لا تهتم بالتوجيه التربوي والفكري أكثر من اهتمامها بتقديم المثير والغريب لجذب أكبر شريحة من المشاهدين من أجل إعلانات أوسع انتشارا وأكثر ربحا.
وطبيعة الأحاديث بينهم عن مستوى النادي الذي صار متدنيًا، والمعاناة في وجود سائق أمين وخادمة نظيفة، واكتشاف مطعم أو متنزه رائع في أجوائه وخدماته، أو القلق من تأخر شحنة تجارية في الميناء بسبب الجمارك والروتين، أو عن أسعار السيارات موديل السنة، وأمثالها من مشاكل عالم خاص ومغلق لا ينفتح في البوح والكلام إلا مع أقرانه الذين يؤمن شر حسدهم أو مصمصة شفاههم.
ومن معتقدات أعضاء نادي الأغنياء أنهم على قناعة تامة بحقد سائر الشعب المسكين عليهم، خاصة غير العصاميين منهم، هذا الشعب الذي حطمه الفقر والجهل، لذلك فهم يتحاشونهم في كافة أشكال المعاملة، ويتجنبونهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا خوفا من “الحسد” لا أكثر ولا أقل.