يحاول هذا الكتاب الصادر في خضم فورة ثورات الربيع العربي (2012م) أن يجيب على أسئلة شائكة متعلقة بالإسلام ونظرته للسياسية من ناحية، والإسلاميين ومحصلة أفكارهم عن الواقع السياسي في البلدان العربية من ناحية أخرى، ليعالج بصراحة ووضوح، ومن منطلق خلفية مقاصدية واسعة يتمتع بها المؤلف – حفظه الله – أسئلة الثورات وما بعدها بإجابات مختصرة وصريحة تواكب حال الثورات، تصوب الأفكار، وتوجه المسار، وتراعي الأولويات، وتسعف الثائرين أينما وجدت آذانًا صاغية.
يؤكد المؤلف في البداية أن “فقهنا وتراثنا السياسي، بمعظم مفرداته وقضاياه ومؤلفاته، يرجع إلى ما بين القرنين الخامس والثامن الهجريين، وأننا الآن في القرن الخامس عشر، وإذا استحضرنا أن ما يفصلنا عن ذلك الفقه ليس مجرد مدة زمنية طويلة تعد بمئات السنين، بل تفصلنا عنه أيضًا التطورات النوعية الهائلة التي عرفتها مجتمعاتنا والعالم من حولنا، في كافة المجالات والأصعدة: السياسية والتشريعية والاجتماعية والمالية والاقتصادية والإدارية والعلمية والثقافية والصناعية والتواصلية، أفليس هذا وحده موجبًا للمراجعة والتجديد والملاءمة، على نطاق واسع؟
ماهية المراجعات المطلوبة
يبين المؤلف أن “الفقه السياسي على وجه الخصوص، يشتغل ويجتهد في مساحات وأقضية هي دومًا متحركة متغيرة، ثم هو يخضع لمؤثرات إضافية، وهي مؤثرات أشد وطأة مما في المجالات الفقهية الأخرى (ص12)، فالنصوص والأحكام المتعلقة بهذا المجال قليلة، وأكثرها يتسم بالعموم والكلية، ويلحق بهذه النصوص ما استخلصه العلماء من مقاصد وقواعد شرعية يجب على الولاة حفظها والعمل بمقتضاها مثل: حفظ الضروريات الخمس، وقاعدة التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، والأحكام والمتطلبات التفصيلية في هذا المجال متروكة – بنسبة كبيرة جدًا – للاجتهاد والتجربة والشورى والتعارف، ومن ثم يؤكد المؤلف على أن تكون المراجعة الدائمة والاجتهاد المتجدد للفقه السياسي أمرًا واجبًا، وليس فقط سائغًا ومقبولاً (ص12-13)، مشددا على أن “الفقه الدستوري هو أكثر أهمية وخطورة، وأجدر بالعناية والمبادرة” لما له من صلة عميقة بإنتاج نظام سياسي كفء وراشد يحقق الحياة الطيبة للمجتمع (ص18).
ومن هنا يؤكد المؤلف أن المراجعات المطلوبة (لفقهنا وتراثنا السياسي) لا بد وأن تكون عميقة وشاملة، ولا تستثني إلا ما كان شرعًا منصوصًا، صحيحًا صريحًا (ص17-18)، فالفصل بين الشريعة ومكوناتها من جهة، والتاريخ ومكوناته من جهة أخرى، يريحنا ويرفع عنا الحرج في مبدأ المراجعة والغربلة لتراثنا في الفقه السياسي وغيره، ويريحنا ويرفع عنا الحرج حين نأتي إلى عديد من المقولات والمقررات في هذا الفقه فننزع عنها صفة الحجية واللزوم، أو صفة القداسة كما يقال (ص17).
كما أن “الهزة السياسية الكبرى الناتجة عن الثورات العربية كشفت عن وجوه مؤسفة من الضعف والقصور والتخلف والخلل في الفقه السياسي لدى الكثير من العلماء الشرعيين، ومن القادة الإسلاميين، فانضاف هذا العامل إلى العوامل الأخرى الموجبة للمراجعة الشاملة والعميقة للفقه السياسي الإسلامي، بل الموجبة لإعادة بنائه وصياغته وتحيينه، فإما أن نبادر، وإما أن تتحول تلك العوامل نفسها إلى عوامل داعية لإقصائه والاستغناء عنه” (ص18).
مراجعة شاملة لاجتهادنا الفقهي
المؤلف في سياق حديثه المخصص لمراجعة الفقه السياسي يذكرنا بأن “المنتوج الفقهي الاجتهادي” عمومًا يحتاج إلى مراجعات مستمرة، سواء في حينه وأوانه أو في الأزمنة اللاحقة، وهو آكد وأحرى، وقد نص الأصوليون على أن المجتهد إذا اجتهد في نازلة، ثم بعد مدة عرضت عليه نازلة مماثلة، فعليه أن يجدد الاجتهاد لها ولا يكتفي باجتهاده السابق (ص12)، بل إن المراجعة تشمل حتى ما هو صحيح في نفسه، صالح لزمانه، ولكنه فقط لم يعد مطابقًا لواقعنا، أو لم يعد كافيًا لزماننا ومتطلبات أحوالنا (14).
إمامة المتغلب بين نظرية الوكالة ونظرية الولاية
يتناول المؤلف نظريتي الولاية والوكالة في الفقه الإسلامي في علاقتهما وتصورهما لإمامة المتغلب؛ فنظرية الولاية، التي تذهب أن الحاكم يحكم بمقتضى الولاية المستحقة له عند توليه الحكم، ولايته كولاية الأب على أبنائه القاصرين لا ينخلع منها (ص19-20)، مشددة على الولاية الإلزامية من طرف واحد (الحاكم)، وأن ليس للطرف الآخر (الأمة) إلا أن يذعن ويطيع، هي نظرية دخيلة طارئة على الثقافة الإسلامية والفقه الإسلامي، وليس لها من سند سوى الأمر الواقع وضغطه وإيحائه، وإن كانت تتماشى مع مذهب الشيعة في الإمامة، وتتماشى أكثر مع نظرية الحكم الثيوقراطي، الذي يستمد أصحابه سلطتهم وصلاحيتهم من الله تعالى (ص 21 ).
و(أن) الاتكاء على هذه النظرية فتح الباب واسعًا لشرعنة إمامة المتغلب وسلطته المطلقة، حتى جعلت مساوية للولاية الشرعية القائمة على الشورى والتعاقد الرضائي، بل حتى تفوقت عليها بعدة أمور، منها استحالة العزل لأن الأب لا يمكن أن يعزل نفسه عن ولايته على أبنائه، وبفضل نظرية الولاية هذه أتت على المسلمين عهود كثيرة وليس فيهم سوى الحكام المتغلبين، فالحاصل أن إمامة المتغلب في الأصل ولاية باطلة، وهي إذا لم يكن لها إلا غلبة القوة والسلاح، لا تعدو أن تكون نوعًا من أنواع الغصب والقرصنة (ص22).
ثم تناول المؤلف نظرية الوكالة مؤكدًا أن القول بتوكيل الحاكم، هو الأصل الأصيل البين في القرآن والسنة وعمل الصحابة، فهو مقتضى قوله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم”، وهو المقتضى الحتمي لفكرة البيعة، التي تعني الاختيار والتعاقد الطوعي (ص20)، وينبني على هذا الأصل أن ولاية الحاكم وسلطته إنما تأتي وتستمد شرعيتها من توكيل الأمة وتفويضها، وأن الموكل له أن يقيد سلطة الوكيل، وله أن ينهي وكالته وسحبها من الوكيل، وله أن يجعلها إلى أجل مسمى، كما أن للوكيل أن يعزل نفسه ويستقيل من وكالته (ص21). (ف) الحاكم وكيل عن الأمة، فهي التي توكله وتوليه مباشرة أو بواسطة أهل الحل والعقد، وهو يستمد مشروعيته في الحكم وصلاحياته فيه ممن وكلوه، أي: من الأمة.
ومن هنا تصبح مسألة سلطة الحاكم ومصدرها، بمعنى: هل الحاكم حين يتمكن من السلطة، ويمارس الحكم على الأمة، هل يتولى ذلك بمقتضى الوكالة أم بمقتضى الولاية؟ من ضمن “المراجعات الضرورية المحتاجة إلى الحسم – لكونها ذات أهمية تأسيسية في فقهنا السياسي -“.
حل اضطراري
يشير المؤلف إلى أن هناك أسباب وسياقات وظروف جعلت الفقهاء يتعاملون مع إمامة المتغلب ويعترفون بها منها: سيادة التفكك والوهن في الدولة القائمة مع التعرض للخطر الخارجي، فيكون حكم المتغلب لابديل عنه – إزاحة المتغلب لحاكم أو نظام حكم بالغ في المظالم والمفاسد والدماء – أو يأتي بعد انقسام واقتتال داخلي يتغلب هو على الباقين وتكون له قاعدة شعبية مناصرة تعطيه قدرًا من الشرعية (ص22-23)، مؤكدًا أن الفقهاء الذين تعاملوا مع إمامة المتغلب، لا ينظرون إلى”التغلب” على أنه في ذاته يعطي شرعية الاستيلاء على الحكم، أو شرعية البقاء فيه، ولكنهم يعتبرونه حلاً اضطراريًا باعتباره أخف الضررين (ص23-24).
وينقل عن فتوى الأزهر الشريف في بيانه أثناء ثورة مصر أن “من قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المتغلب المستبد من الحكام حرصًا على سلامة الأمة من الفوضى والهرج والمرج، فقد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم، إذا تحققت القدرة على ذلك وانتفى احتمال الضرر والإضرار بسلامة الأمة مجتمعاتها” (ص29-30)، مؤكدًا اختيار الخليفة أو الإمام هو في الأصل من حق الأمة قاطبة، وهي تمارس هذا الحق بحسب الاستطاعة والإمكان لكل زمان ومكان، وعلى هذا مضت سنة الخلفاء الراشدين (ص28).
التغلب اليوم
يقرر المؤلف بأسى “نحن للأسف مازالت معظم دولنا لا يأتي حكامها إلا بواسطة القتل، ولا يبقون إلا بالقتل، ولا يذهبون إلا بالقتل أو الموت (ص26)، منبهًا أن كثيرًا من حكامنا المتغلبين اليوم، إنما تغلبوا على شعوبهم وعلى خصومهم بالقوة الخارجية والدعم الخارجي (ص23)، على أننا اليوم في زمن يتيح لنا – بتجاربه وتطوراته ووسائله – الخروج بصفة كاملة ونهائية من عهود الحكام المتغلبين، عبر الداستير، والتي تمكن الشعوب ومؤسساتها من حق إخراج الحاكم من منصبه، بدل الخروج عليه، يخرج الحاكم بسلام له ولشعبه.
دور الشعوب ومسألة أهل الحل والعقد
يشدد المؤلف على أن شرعية السلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية تعتمد على رضا الشعوب، واختيارها الحر، من خلال اقتراع علني يتم في نزاهة وشفافية ديموقراطية، باعتباره البديل العصري المنظم لما سبقت به تقاليد البيعة الإسلامية الرشيدة، وطبقًا لتطور نظم الحكم وإجراءاته في الدولة الحديثة والمعاصرة، وما استقر عليه العرف الدستوري من توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والفصل الحاسم بينها، ومن ضبط وسائل الرقابة والمساءلة والمحاسبة، بحيث تكون الأمة هي مصدر السلطات جميعًا، وهي مانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة.
سوء فهم متعمد
يتناول المؤلف ما درج كثير من الحكام عليه من تعزيز سلطتهم المطلقة متشبسين بسوء الفهم للآية القرآنية الكريمة {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} متجاهلين سياقها الشرطي المتمثل في قوله تعالى قبل ذلك في الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} مما يجعل الإخلال بشروط أمانة الحكم، وعدم إقامة العدل فيه مسوغًا لمطالبة الشعوب للحكام بإقامة العدل، ومقاومتها للظلم والاستبداد.
مصطلح اجتهادي شرعي/ تاريخي
يتناول المؤلف مصطلح أهل الحل والعقد مؤكدًا أنه مصطلح اجتهادي شرعي من جهة، وتاريخي من جهة أخرى، فالفكرة لا تعدم أصولاً شرعية يمكن تأسيسها عليها وتسويغها بها، لكنها ليست منصوصة لا باسمها ولا بهيئتها.
المشكل في فكرة “أهل الحل والعقد” يكمن في أمرين:
الأول: أنها بقيت محصورة في أذهان الفقهاء ومؤلفاتهم وتمنياتهم، ولم توضع موضع التنفيذ، ولم توضع لها صيغة تنفيذية ملزمة، وإن وجدوا (أهل الحل والعقد) يوجدهم السلطان، بمعنى أن الحل والعقد كله بيده لا بيدهم.
الثاني:أنها اتخذت وسيلة للإلغاء الفعلي لدور الأمة ومشورتها واستبعاد أي أثر لها في تدبير شؤونها (ص27-28).
لا بد منهم، لكنهم وكلاء لا أصلاء
يؤكد المؤلف أن أهل الحل العقد لا بد منهم ولا غنى عنهم، وهم إما أن يكونوا من علماء الشريعة المبينين لمقتضياتها الأمناء على أحكامها، أو من أهل المعارف والخبرات التي لا غنى عنها، وإما أن يختارهم الناس ليكونوا نوابًا عنهم إن كانوا من أهل الزعامة في المجتمع، وفي جميع أحوالهم فهم ليسوا مجرد أصداء أو أبواق أو عيون للحاكم، وهذا يقتضي ألا يكون له يد عليهم، لا في اختيارهم، ولا في رواتبهم، ولا في عملهم، وحتى إذا كان أهل الحل والعقد على هذا النحو، فإن وجودهم لا يلغي الأمة، ولا يلغي دورها وحقها في تقرير ما تريده من اختياراتها ومصالحها، متى أمكنها ذلك (ص30-31).
الثورة والفتنة
يستعرض المؤلف مفهوم الفتنة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأنها قد تكون بالخير والإنعام، وقد تكون فتنة مذمومة (ص33-34)، فليس كل نزاع أو اضطراب أو صراع أو قتال يعد فتنة، وإلا لبطل الجهاد، وبطل تغيير المنكر باليد، وحتى باللسان (ص34).
الفتنة الممنوعة
ثم يعدد المؤلف أنواع الفتنة المذمومة، مثل: الخروج المسلح على الجماعة والحكام الشرعيين – الاقتتال الطائفي أو القبلي أو العشائري أو الحزبي طلبًا للحكم والغلبة والعصبية – فتنة الحكام الظالمين المفسدين، ومن تبعهم من العلماء المتكسبين – الاقتتال على الأموال التي لم يتضح الحق فيها – الحروب والصراعات الغوغائية التي لا يتميز فيها حق من باطل، ولا محق من مبطل (ص39-40 ).
هل الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية فتنة؟
يؤكد المؤلف أن المظاهرات الشعبية المطالبة بحقوق الشعوب في الحياة الكريمة ليست من الفتنة في شيء، وأن مجمل الوسائل والأساليب المستعملة في هذه الحركات الشعبية يتمثل في تنظيم المظاهرات واعتصامات، وحمل لافتات وهتافات، هي من استعمال الشعوب للوسائل السلمية للوصول لحقوقها المغصوبة (ص40-44 ).
الفتنة الحقيقية
بينما الفتنة الحقيقية هي ما يقوم به الحكام الغاصبين لحقوق الشعوب من تقتيل وترويع وتخويف واختطاف واعتقال وتعذيب (ص44-45).
الثورات ونظرية المؤامرة الخارجية
ثم يتناول المؤلف ما يشاع عن دور القوى الخارجية في إشعال فتيل الثورات العربية، مؤكدًا أنها دعوى وتخمين تحتاج إلى إثبات، أو هي ترويج متعمد لتشويه الثورات وتنفير الناس منها (ص49-53).
سرقة الثورات وسد الثغرات
يؤكد المؤلف أن “سرقة الثورات تحتاج غالبًا إلى تأزيم الحالة، وتهيأة ظروف التوتر والفوضى والخوف، وتأجيج الخلاف والانقسام في المجتمع وقواه السياسية المؤثرة، بما فيها قوى الثورة (ص57)، مشيرًا لضرورة التنبه إلى الأساليب المعهودة في سرقة الثورات مثل: تنظيم الانقلابات العسكرية -تحريك الانقلابات السياسية المدنية – استباق الثورة واستعجال سيرها قبل اكتمالها – اختراق الجماعات والتنظيمات المؤثرة في صنع الثورة وقيادتها (ص55-56)، وأن هذا الأمر يستلزم سد ثلاث ثغرات.
ثغرات ثلاث
يؤكد المؤلف أن هناك ثغرات ثلاث لا بد من سدها حتى لا تسرق الثورات هي:
الثغرة الأولى: غفلة الشعوب وعودتها إلى الاستقالة والاستكانة
الثغرة الثانية: التصارع والتصدع بين قوى الثورة وقياداتها
الثغرة الثالثة: التغلغل والاختراق الأجنبي (ص58-60).
دول ما بعد الثورة ومسألة تطبيق الشريعة
تناول المؤلف حيرة كثير من الإسلاميين الذين وصلوا أو قاربوا الوصول إلى سدة الحكم في بلادهم بعد الثورات، بين إرضاء الشرع وإرضاء الشعب، بسبب اعتقادهم بوجود هذا التعارض، مؤكدًا بحسم أن الإسلاميين “إذا أرضوا جمهورهم ولبوا حاجات شعوبهم، فقد طبقوا شريعتهم وأرضوا ربهم، وإذا أحسنوا تطبيق شريعتهم، فقد خدموا بذلك جمهورهم وأرضوا شعوبهم (ص68).
من صميم الشريعة
شدد المؤلف على أن كل عمل أو مجهود يرفع عن الناس الظلم والغصب والقهر والتسلط والاستبداد، فهو من صميم الشريعة (ص74).
إطلاق طاقات الأمة
والمؤلف يرى مصيبًا أن “أكبر خدمة يمكن للإسلاميين تقديمها للشريعة وتطبيق الشريعة، هي إطلاق الطاقات الإسلامية المعطلة أو المعاقة، طاقات المجتمعات، حيث يجب إطلاق طاقات الأمة ودعم مبادراتها وفاعليتها: بأفرادها وجماهيرها وهيئاتها وعلمائها ودعاتها ونسائها وشبابها وأغنيائها ومفكريها، فهذه الطاقات والفعاليات هي المعول عليها في تطبيق الجمهرة العظمى من الشريعة، وهي التي ستشكل الرافد والسند القوي الوفي، لكل المبادرات الحكومية والبرلمانية المندرجة في تطبيق الشريعة أو الرامية إلى ذلك (ص78).
النظام السياسي في الإسلام والخيار الديموقراطي
تناول المؤلف أسس النظام الإسلامي المتمثلة في: الشورى ابتداءً وانتهاءً -المرجعية العليا للشريعة – إقامة العدل بين الناس – تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، مؤكدًا أن ليس عندنا في الإسلام “نظام” سياسي معين ومفصل، لا باسمه ولا بهياكله الدستورية، ولا بترتيباته القانونية والإدارية (ص83 )، ثم ناقش مقولات الإسلاميين وتراوحها ما بين مؤيد ورافض للديموقراطية، مؤكدًا أن “ما ألغي وبطل ومنع من أحكام الشريعة في العالم الإسلامي، إنما تم – وفي جميع الحالات – بقرارات فردية أو حزبية، استبدادية تسلطية، ولم يتم أبدًا بواسطة الديموقراطية ص(96)، داعيًا الإسلاميين إلى تبني الديموقراطية الحقيقة لأنها الضمانة الفعلية للحفاظ على الشرع ومصالح الناس معًا.
الدولة الدينية والدولة المدنية
ثم تناول المؤلف المعركة بين الإسلاميين وغيرهم من التيارات السياسية حول الدولة الدينية والدولة المدنية، مؤكدًا أنها معركة رمزية لا طائل تحتها من الناحية العملية، لأن هذا الشعار المجمل المبهم سيحتاج حتمًا إلى تفسير وتفصيل، فتكون العبرة في النهاية بالتفاصيل والنصوص الدستورية القانونية والعملية (ص100).
الإسلاميون والعلاقة مع الغرب
تناول المؤلف في خاتمة كتابه علاقة الإسلاميين مع الغرب ومآلاتها وما يثار حولها من لغط ما بين محذر ومنذر من قطيعة بينهم وبين الغرب، وربما حروب وصراعات (ص101)، مؤكدًا أن الغرب يعتبر الإسلاميين تحديًا أمامه، والإسلاميون يعدونه مصدر عداء وعدوان، مؤكدًا أن الثورات العربية غيرت من مواقع القوى، وجعلت الغرب يعيد النظر في علاقته بالإسلاميين على أسس مصالحه.
ويدعو المؤلف الإسلاميين للتعامل المصلحي الإيجابي مع الغرب ليصل الطرفان مع الوقت لفتح مرحلة جديدة من الحوار الجدي، داعيًا الدوائر الدينية ذات الفاعلية والمصداقية والتأثير في الجانبين الإسلامي والغربي، والمنظمات الحقوقية، والإعلاميين والأحزاب السياسية، والجامعة والجامعيين للإسهام في تحرير العلاقة بين الإسلاميين والغرب بشكل يسهم في تحقيق علاقات قائمة على المساواة والندية والخير العام لصالح الطرفين (ص102-11)
خاتمة
اجتهد الدكتور الريسوني في تحرير إجابات واضحة وصريحة لأسئلة شائكة ومزمنة، محاولاً تقديم النصح الخالص لقيادات الحركة الإسلامية في دول الربيع العربي، لكن للأسف ذهبت غالبية نصائحه أدراج الرياح، فلم يستفد منها غالب الإسلاميين شيئًا، هو أمر يعود إلى عوائق فكرية وتنظيمية تعاني منها غالب التيارات الإسلامية في عالمنا العربي، تجعل أصوات العلماء المجددين بعيدة عن آذان جماهير هذه التيارات وقياداتها، فتعيد الأخطاء المرة تلو الأخرى، وتفقد الأمة أعمارًا ودماءً وقدرات كانت هي أولى بها في مسعاها لبناء مستقبلها، والخروج من تيه حالها المزري الذي طال.
لكن تظل القضايا التي أثارها الكتاب بحاجة لتوسيع النظر فيها وتحويل الأفكار إلى مؤسسات، والتمنيات إلى حقائق، ولو أن هيئات الأمة وجماعاتها المختلفة اجتمعت فقط على سد الثغرات الثلاث التي أشار إليها المؤلف لحصلت الأمة خيرًا كثيرًا، فتنبيه الشعوب من غفلتها يحتاج مؤسسات وأعمار في كافة مجالات الحياة الدينية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، وابتداع علم ومؤسسات لتصفير المشكلات، وحل الصراعات بين قوى الثورة وقياداتها، واجتراح وسائل جديدة لمنع التغلغل والاختراق الأجنبي لمؤسساتنا وجماعاتنا، كل هذا يمثل خارطة طريق حقيقية لنهوض الأمة واكتسابها المنعة وتوحدها لتنجز ما تأخر طويلاً من غاياتها وأهدافها في حياة طيبة وشهود حضاري.