ترجمة وتحرير نون بوست
لعقود طويلة، تمحورت السياسة الإيرانية حول الرؤى المتنافسة التي تضع الإصلاحيين الديمقراطيين بمواجهة رجال الدين المتشددين، وفي عهد الرئيس حسن روحاني، فُسح المجال لتقدم هذه الثنائية السياسية، حيث أظهرت نتائج انتخابات الأسبوع الماضي حركة متسقة تتجه نحو وسطية الطيف السياسي الإيراني.
لا يقتصر هذا الاتجاه على عكس هيمنة فصيل السيد روحاني على الوسطية السياسية، الذي لا تتمثل أولوياته بتمكين المجتمع المدني وحقوق الإنسان بقدر ما تهدف إلى الإصلاح الدبلوماسي والاقتصادي وإعادة الارتباط مع العالم، بل تتعدى ذلك لتعكس تحولًا داخل المعسكر الاصلاحي؛ فالإصلاحيون اليوم هم الجناح الأيسر لائتلاف صامت، ويُبحرون اليوم في عالم من التوقعات المتدنية، كما ينخرطون بلعبة تتطلب قواعدها رباطة الجأش والصبر.
كان الإصلاح يمثل بالماضي حركة متعقلة تهدف للتنمية الديمقراطية؛ فمن خلال اعتماده على العقول النابغة والموثوقة للأشخاص المبرّزين والإستراتيجيين، عقد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي أول انتخابات مباشرة في البلاد للحكم المحلي في عام 1999، وجعل المؤسسة الأمنية مسؤولة عن بعض الانتهاكات الصارخة التي تمارسها ضد حقوق الإنسان، ولكن حركته حوصرت منذ البداية، ومن ثمّ أُحبطت، وفي وقت لاحق تم تجريمها باعتبارها مؤامرة تثير الفتنة، ولكن السيد خاتمي بقي ربما أكثر الشخصيات شعبية في فلك السياسة الإيرانية.
عندما حل موعد الانتخابات في الأسبوع الماضي، كانت وسائل الإعلام الإيرانية ممنوعة من نشر صورة السيد خاتمي أو من اقتباس كلماته، ولكنه مع ذلك تمكّن من نشر مقطع فيديو على وسائل الإعلام الاجتماعية، حيث أيّد الإصلاحيون والوسطيون قوائمًا لمرشحي البرلمان ومجلس الخبراء، الهيئة الدينية المنوطة باختيار المرشد الأعلى الإيراني المقبل، وفي مقطع الفيديو، نقل السيد خاتمي رسالة بسيطة: أي شخص يهتم بالإصلاح يجب أن يصوّت لصالح جميع الأسماء في كلا القائمتين، “أكرر” قال خاتمي، وتابع: “كل اسم في كلا القائمتين”، وفعلًا اعتنق المصوتون رسالة خاتمي على محمل الجد، وحققت قوائم الإصلاحيين/الوسطيين انتصارًا مذهلًا في انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء.
ضمن مناخ الوسطية السياسية اليوم، لم يقدم السيد خاتمي أي وعود أو أي رؤى، بل تمثل ما قدمه بالطابع الإستراتيجي، “كل اسم في كلا القائمتين”، كان على خاتمي أن يكرر، لأن القوائم التي تم دعمها شملت بعض الشخصيات البغيضة، مثل وزير الاستخبارات السابق محمد ري شهري، والمعروف شعبيًا باسم “آية الله المخيف”، لأن اسمه مرتبط بالإعدامات السياسية التي مورست في حقبة ثمانينيات القرن المنصرم، ولكن تبين بأن التصويت للجميع في كلا القائمتين كان الخيار الأفضل، وربما الطريقة الوحيدة لهزيمة أعتى المتشددين الذين يعارضون أجندة السيد روحاني.
جاءت هزيمة هؤلاء المتشددين، الذين يرتبط بعضهم بشكل وثيق مع المرشد الأعلى، كتوبيخ للذين وقفوا منهم في طريق الاتفاق النووي، نعتوا حلفاء الرئيس الشعبي بالعمالة، وتوعدوا بمنع وصول الاستثمارات الأجنبية إلى اقتصاد البلاد المنفتح حديثًا، وللمرة الأولى منذ ثماني سنوات على الأقل، تشكّل برلمان جديد بجوهره، لا يحوز أغلبية واضحة ولا يتمتع بخطوط حزبية ثابتة.
نتيجة هذه الانتخابات لا تمثل انتصارًا للإصلاح بحد ذاته، لأن الإصلاح لم يكن على بطاقات الاقتراع، رغم أن بعض الإصلاحيين ترشحوا ضمنها، فحتى لو نجح جميع الإصلاحيين، لن يتمكنوا من إحداث تغيير بالرؤية كونهم يشكلون أقلية في البرلمان، ولكن من خلال انتخابهم “لجميع الأسماء في القائمة”، خرج الناخبون المؤيدون للإصلاح من عنق الزجاجة على نحو فعال؛ فتمامًا كالانتخابات التي أوصلت السيد روحاني للرئاسة في عام 2013، كان هذا التصويت انتصارًا للبراغماتية باعتبارها فصيلًا سياسيًا، والأهم بأنه كان انتصارًا للبراغماتية باعتبارها مزاجًا فكريًا عامًا.
خَلَفَ محمود أحمدي نجاد، وهو متشدد مشاكس، السيد خاتمي رئيسًا للبلاد، ويوضح التباين القائم بين الشخصيتين الحدود التطرفية القصوى الممكنة في ظل الجمهورية الإسلامية في إيران، على الرغم من أن إصلاحيي السيد خاتمي لم يتطرفوا لمناصرة جانب معين، حيث دعوا إلى التغيير الداخلي التدريجي، إلى التطور لا الثورة، وإلى المزيد من التعددية في الفكر والسياسة وحتى بالدين.
ولكن رؤيتهم هذه تحدت المعتقدات الثابتة التي يتمسك بها المتشددون بقوة حول الطبيعة الأساسية للدولة الإسلامية، ولهذا السبب، من بين أمور أخرى، تجابه المشروع الإصلاحي مع المؤسسة الأمنية؛ فتحت حكم أحمدي نجاد، وخاصة في فترة ولايته الثانية، حُكمت إيران بيد فصيل يتمتع بيد حديدية ثقيلة، يتواءم مع الأجهزة الأمنية، وينخرط بصراع مفتوح مع المجتمع المدني، ولكن كلا الرئاستين شهدتا منافسة صفرية المحصلة فيما يخص البقاء السياسي.
الوسطيون البراغماتيون في إيران يقدمون وسيلة للخروج من هذا المأزق، حيث يسعون للاستفادة من شعبية الإصلاحيين للتغلغل في السلطة المؤسساتية للمحافظين، وتحديد مصلحة وطنية يمكن أن يتفق عليها أغلب العناصر المعتدلة من كلا المعسكرين، وهذا النهج يحمل أملًا واعدًا بتحقيق سياسة بنّاءة وشاملة، وتحسّن حقيقي في الظروف المادية لإيران ولمكانتها بين الأمم، ولكنه يحمل المخاطر في طياته أيضًا، فالوسطية السياسية ستميل على نحو متزايد نحو اليمينية، كما كان الحال عليه طوال حياة الجمهورية الإسلامية، وأولويات الإصلاحيين الهامة والمثيرة للجدل، كحقوق الإنسان والسياسة التمثيلية وسيادة القانون، ستقبع خلف النهج الشاحب للنفعية السياسية، وهنا يجد الإصلاحيون نفسهم بين خطر التضحية بهويتهم إن انخرطوا بهذا التحالف، أو التضحية بأهميتهم في الحياة السياسية إن ظلوا خارجه.
الثورة الإيرانية هي عمل مستمر، وأبطالها وتحالفاتها الفئوية متلونة بشكل دائم؛ فمتشددو أمس هم براغماتيو اليوم، وإصلاحيو اليوم كانوا يتسمون بصفة أخرى بالأمس، كما أن الطريقة التي يصوّت بها الإيرانيون، سواء أكانوا يرون التصويت باعتباره تعبيرًا عن الدعم للنظام، مطلبًا لإعادة المراجعة الشاملة، ممارسة ملموسة لخيار سياسي، أو أداة إستراتيجية، هي في تغير مستمر ودائم، ومطلب الاندماج صاخب، مستمر، ويضج بالحياة؛ لذا يتوجب على الوسطيين ألّا يستخفوا بالأمور، لأنهم مدينون بكامل قوتهم لفكرة الاندماج السياسي.
المصدر: نيويورك تايمز