تم استخدام كلمة التضخم في الأصل للإشارة إلى كمية النقود، ومعناها أن مقدار النقود قد تضخم وزاد عن حدّه الطبيعي، وفي هذا أشار ميلتون فريدمان في “النظرية النقدية” أن التضخم هو: “دائما وأينما وُجد، ظاهرة نقدية بالنظر إلى أنه ينتُج عن زيادة في كمية النقود تفوق زيادة الإنتاج، وأنه لا يمكن أن يكون نتيجة لغير ذلك”، وهناك جملة مشهورة له “التضخم دائمًا وفي كل الأحوال ظاهرة نقدية”.
وعليه فإذا زادت النقود زيادة مكافئة لزيادة الثروة (سلع وخدمات) فلا وجود للتضخم، لأن تطور حالة الثروة في المجتمع تقتضي تلك الزيادة في النقود، أما إن زادت النقود دون زيادة للثروة فإن التضخم سيرتفع.
كمية النقود يجب أن تتناسب طرديًا مع الحاجات المختلفة للأفراد بدون زيادة أو نقصان، فإن كثُر مقدار النقود في المجتمع أصبح الناس يمتلكون ما يفوق حاجتهم فيبذلون نقودًا أكثر لشراء السلع فيؤدي إلى ارتفاع أسعارها.
وللتضخم أسباب عديدة منها ما هو ناجم عن ارتفاع الطلب أو ارتفاع النفقات أو التكاليف أو الناشئ عن الحصار الاقتصادي، أما أنواعه فهي:
– التضخم الطليق أو المكشوف: يتسم بارتفاع في الأسعار دون تدخل من قِبل الدولة للحد من هذا الارتفاع ما يؤدي إلى تراكم الارتفاعات في الأسعار بنسبة أكبر من المتداول من النقود.
– التضخم المقيد أو المكبوت: تقوم الدولة بإجراءات مثل تجميد الأسعار والرقابة على الصرف وتثبيت أسعار الفائدة كي لا تتعدى الأسعار الحد الأقصى المسموح به للارتفاع من قِبل الدولة.
– التضخم الزاحف: يتميز بارتفاع بطيء في الأسعار ويحدث عندما يزداد الطلب الكلي زيادة بسيطة ومستمرة في حدود 2% سنويًا دون أن يقابله زيادة في العرض الكلي.
– التضخم الجامح: هو أشد أنواع التضخم ضررًا على الاقتصاد، ويحدث جراء ارتفاعات كبيرة ومستمرة في الأسعار خلال فترة زمنية قصيرة قد تصل إلى 50% شهريًا، فتفقد النقود قوتها الشرائية وقيمتها كوسيط للتبادل ومخزن للقيمة ويؤدي في النهاية إلى انهيارها.
ويعد النوع الجامح الأخطر على الإطلاق وقد تكرر 55 مرة في العالم في القرن الماضي ويؤدي إلى انهيار القوة الشرائية للنقد ويقضي على رأس المال في الاقتصاد وإلى انخفاض شديد في معدلات الإنتاج، وقد عانت الدول المتقدمة كما الدول النامية من هذا المرض العضال في الاقتصاد مثل الصين وألمانيا وفرنسا، وتعد السياسة النقدية والمالية التي تتبعها الدولة سببًا في رفع معدلات التضخم وتدهور المؤشرات الرئيسية في الاقتصاد، وقد تكون الحرب وعدم الاستقرار السياسي أحد أبرز الأسباب التي تودي إلى تكبيد الاقتصاد خسائر فادحة قد ينتج عنها انهيار في بعض الحالات.
ولعل تناول هذا الموضوع الآن يحمل أهمية نوعًا ما، لما تعاني منه بعض العملات العربية اليوم بسبب الحرب وعدم الاستقرار وما يرافقه من تخبط في السياسة النقدية والمالية كما يحدث لليرة السورية في سوريا، وللجنيه المصري في مصر، وللريال اليمني في اليمن، وكما حدث في السابق مع الليرة اللبنانية بعد الحرب الأهلية في عام 1982 وللدينار العراقي بعد حرب الخليج 1990، وفيما يلي عرض لأشد حالات التضخم الجامح في العالم في القرن الماضي:
المجر: أغسطس 1945 – يوليو 1946
معدل التضخم اليومي 207% تضاعفت الأسعار كل 15 ساعة، ويعود السبب إلى تحول اقتصاد المجر إلى اقتصاد حرب يخدم الألة العسكرية؛ حيث تم تكثيف الإنتاج لدعم ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية عبر قروض، ولكن ألمانيا لم تسدد ثمن البضائع، وبسبب الحرب تم تدمير نحو 40% من رأس المال المجري، وبعد انتهاء الحرب وتوقيع اتفاق السلام في عام 1945 أقرت الاتفاقية دفع المجر تعويضات للسوفييت تمثل 25-50% من ميزانية المجر، ومن أجل تسديد الفواتير تم طبع النقود على الرغم من تحذير محافظي البنوك المركزية المجرية من هذا الإجراء ولكن السوفييت كانوا يهيمنون على لجنة مراقبة الحلفاء فلم يكترثوا لتلك التحذيرات التي أودت في النهاية إلى ارتفاع معدل التضخم إلى تلك المعدلات العالية.
زيمبابواي: مارس 2007 – نوفمبر 2008
معدل التضخم اليومي 98%، تضاعفت الأسعار كل 25 ساعة، الإصلاحات الاشتراكية التي قام بها روبرت موغابي والدخول في الحرب الأهلية في الكونغو أدت إلى عجز في الميزانية الحكومية بشكل كبير وهروب الأهالي من زيمبابواي، فعملت الحكومة على خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي وسداد العجز الحكومي عن طريق طباعة النقود أو تسييل المدخرات الموجودة لدى البنك المركزي، وهذا أدى إلى ارتفاع معدلت التضخم إلى معدلات مرتفعة جدًا.
ألمانيا: أغسطس 1922 – ديسمبر 1923
معدل التضخم اليومي بلغ 21% حيث تضاعفت الأسعار كل 3 أيام و17 ساعة، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى شهدت في عشرينات القرن الماضي تضخمًا كبيرًا حيث فرض على ألمانيا بعد الحرب أن تدفع تعويضات مالية بغير المارك الألماني للمنتصرين كتعويض عن التكاليف التي تكبدتها الدول المنتصرة، علمًا أن المارك ضعف كثيرًا خلال الحرب ما دفع ألمانيا لتمويل المجهود الحربي من خلال أموال مقترضة.
وفي عام 1923 قامت فرنسا وبلجيكا وإيطاليا باحتلال وادي الرور الألماني الصناعي وفرضت حصارًا اقتصاديًا على ألمانيا لإلزامها بدفع تعويضات الحرب العالمية الأولى التي بلغت 123 بليون مارك ألماني ذهبي، وقام العمال بالإضراب لسوء الأحوال المعيشية فعمدت الحكومة إلى طباعة نقود بدون رصيد من أجل دفع التزاماتها والتكاليف المترتبة عليها وهذا ساهم في ارتفاع معدل التضخم لأرقام عالية بلغ في نهاية 1923، كل دولار 4 ترليون مارك.
وكان العمال يأخذون أجرهم في اليوم مرتين، في عام 1920 كان ثمن رغيف الخبز 1.2 ماركا وفي بداية 1923 بلغ سعر الرغيف 700 مارك وفي نوفمبر 1923 أصبح سعر الرغيف 3 بليون مارك، وفي 15 نوفمبر من نفس العام بلغ سعرالرغيف 80 بليون مارك، وذكر أن النسوة كانت تفضل وضع النقود ذات الفئة الصغيرة على الحططب لأن النار تدوم أكثر من دوام الخشب وقد صدرت ورقة ترليون مارك.
فرنسا: مايو 1795 – نوفمبر 1796
بلغ معدل التضخم اليومي 5% وتضاعفت الأسعار كل 15 يومًا وساعتين، ظهر التضخم بعد الثورة الفرنسية 1789- 1799، حيث تكبدت فرنسا ديونًا كبيرة بسبب خوض الحروب بما فيها الحرب الأمريكية للاستقلال عن بريطانيا العظمى، وقد اتبعت فرنسا سياسة مالية بعد الثورة الفرنسية تقتضي تأميم الأراضي المملوكة للكنيسة الكاثوليكية ما نزع عنها نفوذها السياسي.
ومن ثم أصدرت الجمعية الوطنية في فرنسا نقودًا ورقية للجمهور بعد مصادرة ممتلكات الكنيسة وهي عبارة عن صكوك مدعومة بقيمة الأرض التي كان من المفترض أن تكون قابلة للاسترداد في موعد لاحق، إلا أن تلك النقود بدأت تنخفض مع توقف الحكومة عن إصدار الصكوك واستمرت النقود بالانخفاض حتى أصبح جامحًا.
يوغوسلافيا: أبريل 1992 – يناير 1994
بلغ معدل التضخم اليومي 65% وتضاعفت الأسعار كل 34 ساعة.
اليونان: مايو 1941- ديسمبر 1945
التضخم اليومي 18% وتضاعف الأسعار كل 4 أيام و6 ساعات.
الصين: أكتوبر 1947 – مايو 1949
التضخم اليومي 14% وتضاعف الأسعار كل 5 أيام و8 ساعات.
البيرو: يوليو 1990 – أغسطس
معدل التضخم اليومي 5% وتضاعفت الأسعار كل 13 يومًا وساعتين.
نيكاراغوا: يونيو 1986 – مارس 1991
التضخم اليومي 4% وتضاعفت الأسعار كل 16 يومًا و10 ساعات.