لو أن شخصًا غاب عن الوعي في نهاية مارس/ آذار 2011 واستيقظ بالأمس، فسيكون من المستحيل عليه تصديق أن جموع السوريين التي خرجت في تظاهرات الجمعة لا تزال قادرة على الاستمرار بعد 5 سنوات أليمة من القتل والتنكيل المستمر الذي يقوم به نظام بشار الأسد ضد مواطنيه لا يفرق في ذلك بين أحد منهم.
خرجت المظاهرات السورية أمس في أكثر من 104 نقطة تجمع، ربما هي ذات النقاط التي اجتمع فيها السوريون قبل 5 سنوات يرددون ذات الهتافات “يلعن روحك يا حافظ!”، و”مالنا غيرك يا الله!”، لكن أعداد المتظاهرين لم تكن كذلك حين بدأت الثورة، فحين بدأ الحراك لم يكن السوريون قد عرفوا بعد البراميل المتفجرة ولا غاز السارين ولا جنيف! حين بدأت الثورة لم يكن ثلث الشعب السوري مُهجّرًا في الشتات ليشكل أزمة – أخيرًا – عند العالم وليعرفهم باسم “اللاجئين”.
من تحدث أمس
من المتظاهرين عبر الهاتف أو عبر الرسائل القصيرة قالوا إنهم يؤكدون للعالم أنهم لا يزالون يواصلون مظاهراتهم حتى إسقاط نظام الديكتاتور، مستغلين في ذلك هدنة، جزئية، لم تمنع النظام وحلفاءه الروس من قصف أراض سورية أيضًا، إلا أن الهدوء النسبي كان مشجعًا للآلاف من السوريين أن يعيدوا على مسامع العالم أصواتهم.
لكن هؤلاء المتظاهرين الذين تحدثوا لصحف العالم وقنواته أمس، لم يكونوا وحدهم، فالمَشاهد التي نقلتها الكاميرات رصدت ملابس عسكرية وسط الحشود، لا يزال الأمر صعب التصديق، فلماذا يحمل الميكروفون رجلٌ بزي عسكري! بالنسبة للسوريين، الأمر بسيط، فالذي حمل السلاح لاحقًا بعد أشهر من القتل، كان متظاهرًا، ربما يحن لأن يعود متظاهرًا كما كان، وما حمله على حمل السلاح إلا أن خيار التظاهر لم يكن مُتاحًا أمام “الروسيات” أو طائرات النظام أو “الخبراء” الإيرانيين أو حتى مواطنيه من “الشبيحة”.
خمسة أعوام من الدم لم تفلح في كسر إرادة السوريين، المثير في الأمر أن الفيديوهات التي تبادلها السوريون على مواقع التواصل كانت تضم صورًا ومشاهد لرجال وشيوخ قد بلغوا من العمر مبلغه، يرقصون على أنغام متظاهر يسب الأسد أو يمدح صمود غوطة دمشق أو ريف الشام. هذه ليست ثورة الشباب، فلا البراميل المتفجرة كانت تعرف أعمار من تسقط على رؤوسهم، ولا قناصو حزب الله كانوا مستعدين لإنفاق وقتهم الثمين على تفحُص هويات ضحاياهم.
خرجت المظاهرات إذن من القسم الحر من سورية، لكن سورية لن تُقسم، هكذا قال المتظاهرون، فالشعب الواحد لن يفصل بينه حدّ، ولهجة “الحماصنة” وهتافاتهم في ميدان الساعة لم تختلف عن هتافات أهل دمشق، وأهل المدن لم يكونوا أعز على طائرات النظام من أهل الريف، ثورة السوريين لم تفرق بين مَن هو مِن “الدير”، أو من “معرة النعمان”، أو من هو من درعا، وكذلك حرب النظام لم تُفرق بينهم، ولا ينتظر أحد حلًا يفرق سوريا.
استخدمنا طويلًا لفظ “الربيع العربي”، وهو، على خفته، لفظ يحمل بين طياته نهايته، فالربيع لا يلبث إلا أن يُختم بصيف فخريف، لكن السوريين أثبتوا مرة أخرى أن ربيعهم مستمر، وأن ثورتهم عصية على الكسر، وأن الملوك ليسوا أبقى على الأرض من سكانها، وأن دماء الرجال الذين قضوا في حرب لم يريدوا لها أن تبدأ، لن تضيع سدى.
السوريون في مناطق النظام والمناطق التي تسيطر عليها داعش لم يخرجوا للتظاهر أمس، فالهدنة لا تنطبق على فروع المخابرات ولا أمن “الخلافة”، لكن الرسالة التي قرأناها من الأمس، أن السلاح لم يكن أبدًا أول الأمر ولن يكون منتهاه، ومعركة السوريين كانت في ميادين التظاهر وأمام مقرات المحافظات، استخدم السوريون فيها أصواتهم، كلماتهم، رسومهم وألوانهم في مقارعة النظام، وعندما رفعوا سلاحهم فلأنه لم يكن هناك طريق آخر، وإذا ما وُجد الطريق، فإن السلاح سيسقط، وسيظهر الميكروفون مرة أخرى في يد ضابط الجيش والعسكري.
مظاهرات السوريين أمس لم تكن ضد نظام الأسد فحسب؛ خرج الناس ضد أصدقاء نظام الأسد و”أصدقاء” الشعب السوري الذين لا يرون فيما يحدث إلا أزمة لاجئين على حدودهم، هي كذلك رسالة لمن يروون التاريخ، ما يحدث في سوريا ثورة، بدأت كذلك، وستظل كذلك، أما الحرب الأهلية فإنها لا توجد سوى في رؤوس من صنعوها.