في نوفمبر عام 2003 سألت الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الاسلامية السودانية، عن رأيه في الانقلابات العسكرية، بعدما لعب دورا بارزا في انقلاب 1989 الذي سمي لاحقا “ثورة الانقاذ”، فقال إنه “ضد الانقلابات العسكرية لأنها في نهاية الأمر تتحول ضد التيار الإسلامي”.
وأكد على “عدم وجود طريق أمام الحركات الإسلامية للوصول إلى السلطة سوى طريق الثورة الشعبية”، محذرا من اللجوء مرة أخرى للاستعانة بالعسكريين في محاولة لوصول التيار الإسلامي للسلطة، لأن “تركيبتهم الذهنية تبتعد عن المنهج الديمقراطي في التفكير”، بحسب تعبيره.
ما قاله المفكر والمعارض في عهد نميري، ثم رجل الدولة والمعارض معا في عهد البشير، جاء بعدما أوجع قلبه تهميش دور جناحه في الحركة الاسلامية بعدما لعب دورا في وصول البشير للسلطة ثم انقلب عليه البشير ومعه فريق من تلاميذ الترابي، ليعود في نهاية حياته السياسية، كما بدأها “معارضا شرسا” وصاحب أفكار تتصادم مع الجميع.
وفاة حسن الترابي “رئيس حزب المؤتمر الشعبي السوداني” المعارض، عن عمر يناهز 84 عامًا، بعد أن تم نقله لأحد المستشفيات بالخرطوم، عقب تدهور حالته الصحية 5 مارس 2016، طرح سؤالا عن الفراغ الكبير الذي تركه في السودان كمفكر ذي أراء تتصادم مع كثير من العلماء أحيانا، ولكن صاحب تاريخ ورقم هام في الحركة الاسلامية السودانية، ومن يحل محله.
البداية دكتور السوربون
ولد الترابي في عام 1932، ودرس الحقوق، في جامعة الخرطوم منذ عام 1951 حتى 1955، وحصل على الماجستير من جامعة أكسفورد عام 1957، ثم دكتوراه الدولة من جامعة السوربون، بباريس عام 1964، ما مكنه من إتقان أربع لغات بفصاحة وهم العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية.
وبعد عودته من فرنسا عمل المفكر السوداني أستاذاً للقانون في جامعة الخرطوم، وسرعان ما لمع نجمه بلعبه دوراً محورياً في تعبئة طلاب الجامعة للإطاحة بالحاكم العسكري وقتها “إبراهيم عبود”، حيث كان الترابي في صدارة الثورة الشعبية التي أطاحت بالحكم العسكري في أكتوبر عام 1964، إلى جانب قوى سياسية أخرى، وهو ما سهل لاحقاً انتخابه زعيماً لتنظيم الإخوان المسلمين في السودان.
واستفاد الترابي من الحقبة الديمقراطية التي تلت إسقاط نظام عبود، لبناء تنظيمه، لكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث نفّذ الشيوعيون (الخصم التقليدي للإسلاميين) انقلاباً عسكرياً عبر عناصرهم بالجيش في 1969.
بعدها تحالف الإسلاميون مع أكبر حزبين في البلاد وهما “حزب الأمة القومي” و”الحزب الاتحادي الديمقراطي”، لمواجهة الحكومة العسكرية الجديدة.
وكان الترابي أستاذًا في جامعة الخرطوم، ثم عُين عميدًا لكلية الحقوق بها، ومن ثم وزيرًا للعدل في السودان، وفي عام 1988 عُين وزيرًا للخارجية السودانية، كما اختير رئيسًا للبرلمان السوداني عام 1996، ولاحقا عين أمينًا عامًا لحزب المؤتمر الوطني “الحاكم” بالسودان عام 1998.
تشكيل أول حزب إسلامي
حاز الترابي، على عضوية “جبهة الميثاق الإسلامية”، والتي تمثل أول حزب أسسته الحركة الإسلامية السودانية، والتي تحمل فكر جماعة الإخوان المسلمين.
وبعد خمسة أعوام، أصبح لجبهة الميثاق الإسلامية دورًا سياسيًا أكثر أهمية، وشاركت في الانتخابات وفازت بثلاثة مقاعد، ثم تقلد الترابي الأمانة العامة بها عام 1964، وعمل في ظرف سياسي كان اللاعب الأساسي فيه طائفتا الأنصار والختمية، ذاتا الخلفية الصوفية، واللتان تدعمان حزبي الأمة والاتحادي ذوي الفكر العلماني.
وبقيت جبهة الميثاق الإسلامية حتى عام 1969، وعندما قام جعفر نميري بانقلابه العسكري، قام باعتقال أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية، وأمضى “الترابي” سبعة سنوات في السجن، قبل أن يتم إطلاق سراحه، بعد مصالحة الحركة الإسلامية السودانية مع النميري عام 1977.
وعندما أعلنت حكومة نميري، فرض قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983، وانقلبت مرة أخري على جبهة الميثاق الإسلامية، حليفتها في السلطة، خرجت مظاهرات شعبية لعبت الحركة الاسلامية دورا فيها ضد نميري وحل البرلمان السوداني، مما أدى إلى ثورة شعبيه ضد نميري في عام 1985.
بداية انقسام الحركة الاسلامية
كانت طموحات الترابي وأفكاره ذات الطابع المستقل، سببا في خلافات بينه وبين قادة آخرين في الحركة الإسلامية السودانية، خصوصاً عندما عمد إلى تبني منهج استقلالي عن جماعة الاخوان المسلمون الأم في مصر.
وتدريجيا انقسمت الحركة الاسلامية الي قسم سمي نفسه “الاخوان المسلمون” وقسم أخر أصبح يحمل اسم “الجبهة الاسلامية القومية” ونجح الترابي في تسويق فكرته قسم كبير من الجماعة، ولم يعد مرتبطاً تنظيمياً بالجماعة الأم في مصر، لكنه احتفظ بعلاقات جيدة معها.
بعد عام من الثورة ضد نميري، وفي عام 1986، أسس الترابي حزبه “الجبهة الإسلامية القومية”، ترشح للبرلمان ولكنه لم يفز، وأصبحت خلافات الترابي مع الجماعة الأم تنظيمية وفكرية معا بعدما طرح آراء مغايرة، لاسيما قضايا المرأة والحكم والأقليات.
تحالف الترابي – البشير
في يونيو عام 1989، شارك حزب الترابي في الانقلاب ضد حكومة المهدي المنتخبة وتحالف مع العسكريين وعمر حسن البشير الذي أصبح لاحقا رئيسًا لحكومة السودان.
واقتسم الطرفان السلطة بالسيطرة علي البرلمان والمناصب القيادية، وانخرطا في حرب مع جنوب السودان لعب فيها متطوعي الحركة الاسلامية دورا بارزا، في استعادة العديد من المدن في الجنوب من ايدي قوات الجنرال الراحل جون قرنق حينئذ.
وفي عام 1991، أسس الترابي “المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي”، الذي يضم ممثلين عن 45 دولة عربية وإسلامية، وتم انتخابه الأمين العام لهذا المؤتمر.
صراع البشير والترابي
اختلف الترابي، مع حكومة الإنقاذ التي شكلها البشير، حول قضايا أهمها الفساد والشورى والحريات، وحل البشير للبرلمان في أواخر عام 1999، وبعدها أصبح الترابي أشهر معارض للحكومة، وجري اعتقاله لاحقا.
وعقب انفصالهما، شكل حزبه المعارض “المؤتمر الشعبي” في 31 يونيو 2001، والذي ضم معظم قيادات ورموز من ثورة الإنقاذ الوطني، ومسئولين كبار في الحكومة، وعسكريين تخلوا عن مناصبهم آنذاك.
وأُعتقل الترابي في 2001 لتوقيع حزبه مذكره تفاهم مع “الحركة الشعبية” الجنوبية بزعامة جون قرنق الذي كانت تعتبره الخرطوم عدوا، والمفارقة أن البشير عقد لاحقا اتفاق سلام كامل لا مجرد مذكرة تفاهم مع جون قرنق، اسفرت لاحقا عن استفتاء على انفصال الجنوب.
كما اعتقل الترابي عدة مرات أخري، حيث اعتقل في مارس 2004 بتهمة تنسيق حزبه لمحاولة قلب السلطة، ثم اعتقل عام 2009 بعد تأييده اتهامات المحكمة الجنائية الدولية للبشير بـ “ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية”، في إقليم دارفور غربي البلاد.
تقارب ضد الخطر الخارجي
وفي الأشهر الأخيرة، وقبل وفاته، تحسنت علاقة الترابي بالبشير عندما قبل دعوة للحوار الوطني، طرحها الرئيس البشير وقاطعتها غالبية فصائل المعارضة الرئيسية.
فسّر مراقبون التحول المفاجئ في قرار الترابي بعد خصومته الشرسة مع البشير بأن “الرجلين يطمحان إلى توحيد الحركة الإسلامية، التي تنازعا على ورثتها بسبب الهجمة التي يتعرض لها الإسلاميون في المنطقة”، فضلا عن مجابهة التدخل الخارجي في شئون السودان.
حيث اشتهر تاريخ الحركة الاسلامية في السودان بالتوحد في مواجهة الاخطار مع نبذ الخلافات الداخلية مؤقتا بين فصيلي الحركة وهما: “تيار التربية” الاقرب إلى نهج الإخوان الذي يدعو إلى التركيز على تزكية الأعضاء ووضع شروط تربوية قاسية للعضوية، و”التيار” السياسي الذي يميل إلى الاستكثار من الأنصار بحثا عن نتائج أسرع.
ولهذا عندما واجه السودان تحديات داخلية أو خارجية كان فصيلي الحركة الاسلامية اللذان تبلورا لاحقا في تياري: (الترابي) و(جماعة الاخوان) ثم انقسم تيار الترابي قسمان أخران بين مجموعتي الترابي والبشير، حدث تأجيل للخلافات أو توقف مؤقت للانشقاقات وتقارب الفصائل الاسلامية المشكلة للحركة الاسلامية ككل.
ففي اعقاب انفصال جنوب السودان وتعاظم المؤامرات الغربية على وحدة السودان وعلي هويته الاسلامية، واستغلال دولة الجنوب وكذا متمردي الحركة الشعبية (فرع الشمال) في إثارة المزيد من النزاعات المسلحة في دولة السودان المتبقية، بدأ يحدث نوع من تأجيل الخلافات والانشقاقات بين تياري البشير والترابي.
وعقد لقاء بين البشير والترابي (جناحي الفصيل المنشق من الحركة الاسلامية التي تضم أيضا الاخوان المسلمين) لأول مرة بعد 14 عاما من انفصال تيار الترابي (المؤتمر الشعبي) عن تيار البشير (المؤتمر الوطني)، وطرح البشير مبادرة لتوحيد الشمل بين كل السودانيين بما فيها أقطاب الحركة الاسلامية ككل للحفاظ علي الهوية الاسلامية للسودان.
وكانت هناك إشارة في المؤتمر الثامن للحركة الاسلامية السودانية (الذي يعقد كل أربع سنوات) في الخرطوم، يومي 16 و17 نوفمبر 2012 علي ضرورة إعادة الحياة لـ (الحركة الاسلامية) كإطار جامع للإسلاميين بعدما تشتتوا وتفتت الحركة وباتت حكومة تيار واحد (المؤتمر الوطني) هي التي تقود الحركة الاسلامية وتتحكم فيها، وليس العكس.
وكانت هناك توقعات أن يكون المؤتمر المقبل نوفمبر 2016 أكثر توحيدا للقوي الاسلامية بأجنحتها المختلفة خصوصا بعدما تعاظم التدخل الدولي وظهرت النوايا السلبية تجاه الصحوات الاسلامية (الربيع العربي) في العالم العربي، وظهرت ثورات مضادة في دول عربية (مصر) تعادي السودان وتوجهه الاسلامي أيضا وتحرض ضده، وقد تساعد وفاة الترابي في رأب الخلافات باعتبار انه كان الصوت المعارض.
مفكر إسلامي مثير للجدل
يعد الترابي، من أشهر قادة الإسلاميين في العالم، ومن أشهر المجتهدين على صعيد الفكر والفقه الإسلامي المعاصر، وله كتاب في تفسير القرآن، وكتاب في أصول الفقه، وكتب كثيرة أخرى في مجالات الإصلاح الإسلامي والسياسة.
ولكن له العديد من الرؤى الفقهية المتميزة والمثيرة للجدل، وآخر هذه الفتاوي هي فتواه بجواز إمامة المرأة للرجل في الصلاة، وفتوي تبيح زواج المرأة المسلمة من أهل الكتاب، وهو أمر خالف فيه المذاهب الإسلامية المتبعة.
حيث قال في مجلة الإرشاد اليمنية، محرم وصفر 1408هـ: (أمرُ الزواج بين المسلمين وأهل الكتاب: فيُعتبر جائزاً بنصِّ الكتاب المسلم من الكتابية، وعكسه، غالب الفقهاء على غيره خشية الفتنة على المسلمة، واعتبارات أُخرى تقديرية استُنبطت من النصوص، لكن لا يُوجد قطعي صريح).
وقال في جريدة الشرق الأوسط عدد 9994 في 11/3/1427هـ: (التخرُّصات والأباطيل التي تمنع زواج المرأة المسلمة من الكتابي لا أساسَ لها من الدين، ولا تقوم على ساق من الشرع الحنيف.. وما تلك إلاَّ مجرَّد أوهام، وتضليل، وتجهيل، وإغلاق، وتحنيط، وخدع للعقول، الإسلامُ منها براء).
ومن اجتهاداته التي اثارت حفيظة الكثيرين، ورفضها العديد من العلماء قوله بجواز ان يرتد المسلم، حيث قال في جريدة المحرر عدد 263 في 24/2/1415هـ: (في بلدي وأنا أدعو إلى حرية الحوار فإنني أترك للطرف الآخر أن يقول ما يشاء، بل إنني أقول: أنه حتى لو ارتدَّ المسلمُ تماماً وخرج من الإسلام ويُريد أن يبقى حيث هو فليبق حيث هو، لأنه: لا إكراه في الدين، وأنا أقول: ارتد، أو لا ترتد، فلك حريتك في أن تقول ما تشاء، بشرط أن لا تُفسد ما هو مشتركٌ بيننا من نظام) ثم يقول: (في إطار دولتنا الواحدة فإنه يجوزُ للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يُبدِّلَ دينه).
كذلك اعتبر الترابي أنَّ الحجاب واجبٌ على نساء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقط: وقال في كتابه (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) ص27: (أمَّا الحجاب المشهور فهو من الأوضاع التي اختصَّت بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّ حكمهنَّ ليس كأحد من النساء، وجزائهنَّ يُضاعف أجراً أو عقاباً… فقد قرَّرت آية الحجاب التي حكمت ألاَّ تظهر زوجة النبي صلى الله عليه وسلم للرجال ولو بوجهها وكفيها، مما يجوز بالطبع لسائر النساء المسلمات).
من مؤلفاته
كتب “قضايا الوحدة والحرية عام 1980، وتجديد أصول الفقه عام 1981، وتجديد الفكر الإسلامي عام 1982، والأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة عام 1982، وتجديد الدين عام 1984، ومنهجية التشريع عام 1987، والمصطلحات السياسية في الإسلام عام 2000.
نُشر الموضوع لأول مرة في إيوان 24