عزمنا منذ البداية على دراسة تاريخ الفكر الاقتصادي عبر الأزمنة الغابرة حتى نصل إلى الفكر الاقتصادي اليوم، وقد تناولنا في مقالات سابقة كيف كان الاقتصاد في الحضارات القديمة، متحدثين عن الحضارات الشرقية واليونان وروما، وبحثنا ما قاله شخصيات ذلك الزمان من قبيل أفلاطون وأرسطو، وبعدها تطرقنا إلى العصور الوسطى في أوروبا وشخصية توما الأكويني، وكيف كان الفكر الاقتصادي عند المسلمين في العصور الوسطى، ودرسنا دراسة مستفيضة للفكر الاقتصادي عند ابن خلدون، وفي المقالة الأخيرة تباحثنا الفكر الاقتصادي ما قبل التقليديين؛ الذين أسسوا أول نظرية اقتصادية بدراسة منهجية منضبطة رائدها آدم سميث، وأول مدرسة ما قبل التقليديين هي مدرسة التجاريين وفي هذه المقالة نسكتمل ما بدأناه عنهم حول مذهبهم الاقتصادي حول الصادرات والرقابة على الصرف والميزان التجاري.
احتكار الصاردات
حبّذ التجاريون احتكار الصادرات مستندين إلى الفوائد العملية التي يمكن أن تجنيها الدولة من احتكار الصادرات، وذلك أن الاحتكار في حالة التجارة الخارجية يختلف عنه في التجارة الداخلية؛ ففي التجارة الخارجية ينجم عن الاحتكار نفع خالص للدولة وإن كان ذلك على حساب الدول الأخرى، في حين أن الاحتكار في السوق الداخلية يترتب عليه نقص في الرفاهية الاقتصادية بفرض أسعار أعلى من تكلفة الانتاج على المستهلك.
الرقابة على الصرف
أخضع التجاريون التجارة الخارجية لرقابة الدولة ما أدى لاتباع نظام أقرب لنظم الرقابة على الصرف في وقتنا الحالي، ويبرر هذه السياسة تحقيق مصلحة الدولة على حساب الدول الأخرى، أو ما بات يُعرف باقتصاد الحرب، وعليه فإنه ينبغي وضع كل نشاط اقتصادي تحت رقابة الدولة وتوجيهه فيما يحقق مصلحة الدولة والنصر، وتطبيقًا لهذه الفكرة فإن التجاريين أوصوا بإخضاع الصرف لرقابة الدولة وتمكينها من استخدام حصيلة التجارة الخارجية فيما يعود عليها بالقوة والنفع.
الجدير بالذكر أن هذه السياسات لم تستند لتحليل نظري وإنما هي مجرد توصيات عملية، ولعل المحاولة النظرية الوحيدة للتجاريين تعود إلى “مالينز” سنة 1586 – 1641، حيث قام بتحليل العلاقة بين الصرف من ناحية والتوازن في العلاقات الدولية من ناحية أخرى، ولاحظ أن وجود فائض في الدولة يترتب عليه دخول المعدن النفيس مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وبالتالي ارتفاع الأسعار الداخلية.
الميزان التجاري
سادت فكرة لدى التجاريين مفادها ضرورة تكوين فائض تجاري عن طريق زيادة الصادارت على الواردات، ولا شك أن هذه السياسة تتماهى مع ظروفهم في البحث عن قوة الدولة، ويجدر الملاحظة أن الخوض في فكرة الميزان التجاري وفكرة الفائض التجاري تمثل تقدمًا على مستوى التحليل النظري، ذلك أن هذه الفكرة تعتبر تقدمًا عمليًا؛ لأن الميزان التجاري يعتبر أداة تحليل مجردة وليس مجرد ظاهرة مادية.
وأشار التجاريون كذلك إلى الحجج التي تقال في شأن تقييد التجارة الدولية، فنجد حجة الصناعة الوليدة وحمايتها عند الكلام عن حماية صناعة الصوف الإنجليزي، ووجد لديهم أيضًا الحجة العسكرية، الصناعات الأساسية، حجة الاكتفاء الذاتي، وحجة العمالة، إلا أنها جميعها ذكرت دون تحليل عميق، فهي مجرد إشارات عابرة دون دراسة تحليلية لبيان أثر كل من هذه الحجج على الاقتصاد القومي.
تطرق التجاريون إلى تحليل الظواهر النقدية وبصفة خاصة “جان بودان” 1570 – 1620، الذي كان أول من لاحظ العلاقة بين كمية النقود ومستوى الأسعار، وبذلك قدم صورة بدائية للنظرية الكمية للنقود، وقد حاول بعض التجاريين التوفيق بين هذه النظرية الكمية وضرورة تكوين فائض من المعدن النفيس عن طريق الإشارة إلى علاقة النقود بالإنتاج، كما جاء كتاب “الاقتصاد السياسي” – وهي أول مرة يستخدم فيها مصطلح الاقتصاد السياسي – لمونكريستيان سنة 1615، والذي أهداه إلى لويس الثالث عشر قائلًا له “ليس الذهب والفضة وكميات الأحجار الكريمة والماس هي التي تنشئ ثروة البلد، ولكن هذه الثروة ترجع إلى توافر السلع الضرورية للحياة، مما يؤدي إلى زيادة الحصيلة من الذهب والفضة”، وبهذا نلاحظ أن التجاريين أوجدوا العلاقة بين النقود والإنتاج، فزيادة الإنتاج والرخاء تؤدي إلى زيادة الثروة من المعدن النفيس.
في المقالة القادمة سنبدأ ببوادر التفكير العلمي والبحث عن قوانين الطبيعة في القرن الثامن عشر، ونتدارس ما جاء به المفكرون أمثال وليم بتي وكوندياك وكانتيون.