ترتبط الهجرة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ وحاضر المنطقة العربية، فعلى الرغم من تنوع آليات التحول الاجتماعي الكبير في المنطقة، تبقى الهجرة آلية شديدة المحورية في رسم واقع بلاد المنطقة؛ فالهجرة في هذا السياق لا تعني مجرد انتقال الأفراد عبر الحدود إلى دول أخرى، وإنما كل ما يرتبط بذلك الانتقال من حركة للثقافات والأفكار ورؤوس الأموال.
هنا نحاول الحديث بشكل عابر وسريع عن عدد من ظواهر الهجرة التي تركت -وستترك- أثرًا عميقًا على شكل وواقع المنطقة التي نعيش بها، وغالبًا سيكون عدد كبير من قراء هذا المقال أفراد ممن شاركوا في هذه الظواهر بشكل مباشر، وهؤلاء تحديدًا قد يكون لهم القدرة على سرد خبرات وحقائق تتعلق بهذه الظواهر بشكل أكبر مما قد نستطيع أبدًا، ولأننا لا نهدف إلى أكثر من فتح مجال للحوار، يبقى العبء الحقيقي على القراء الأعزاء لمشاركة هذه الخبرات بشكل فعال.
هجرة العمالة إلى الخليج العربي
مع نهاية عام 1973 وصل سعر برميل النفط إلى 4 أضعاف ما كان عليه قبل بداية حرب أكتوبر وبدء تطبيق منع تصدير النفط العربي إلى الولايات المتحدة وحلفاؤها، احتلت دول الخليج العربي خمسة مقاعد من أصل 12 مقعدًا في المنظمة بواقع أكثر من 60% من إجمالي احتياطي دول المنظمة من النفط.
بدأت عوائد النفط في الانهيال على دول المنظمة عمومًا؛ ودول الخليج العربي خصوصًا، مليارات من الدولارات تتحرك باتجاه مجموعة من الدول الفقيرة سكانيًا، أصبح البدء في التنمية المجتمعية والسكانية لا بد منه، فرض سيل الأموال البدء في تقديم الخدمات كالتعليم والرعاية الصحية؛ كما فرض البدء في الاستثمار التجاري، إلا أن مثل هذه التنمية كانت تحتاج إلى رأس مال بشري لم يتوافر لهذه البلدان، فكان لا بد من البدء في استيراد العمالة من البلدان المجاورة.
بدأت العمالة الأجنبية في التدفق إلى بلدان الخليج والعراق مع النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، أصبح سوق العمالة في هذه البلدان يعتمد بشكل رئيسي على العمالة الأجنبية من بلدان المنطقة كمصر وسوريا ولبنان واليمن، وبلدان أخرى كالهند وباكستان.
اليوم يمثل تعداد العمالة الأجنبية في دولة كالسعودية قرابة 20% من التعداد السكاني الكلي، ووصل عدد المصريين العاملين بالسعودية إلى مليون شخص، يتلوهم اليمنيون بواقع 800 ألف.
لا تختلف النسب كثيرًا في بلدان كالكويت والبحرين وقطر، إلا أنها تزيد كثيرًا في الإمارات؛ إذ لا يمثل الاماراتيون أكثر من 13% من التعداد الكلي لسكان البلد.
فرضت ظاهرة الهجرة هذه مجموعة من التطورات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية العنيفة على مجموعة البلاد التي قامت بتصدير المهاجرين إلى بلدان الخليج، بداية من التحويلات النقدية العملاقة التي تتجه إلى بلدان كمصر والأردن وتمثل ركن ركينًا من اقتصادها حاليًا، وليس نهاية بخلق طبقات اجتماعية كاملة تستمد جزء كبير من ثقافتها وأنماط حياتها من بلدان المهجر، وتبقى حالة الأجيال المولودة في هذه البلدان كنموذج شديد الأهمية على خلق مزيج ثقافي لأجيال بأكملها، أجيال تنتمي أصلًا إلى بلدان المصدر كمصر أو سوريا؛ إلا إنها تنتمي ثقافيًا وفعليًا إلى بلدان الخليج التي قضوا أغلب حياتهم بها.
اللجوء العراقي الكبير
مع بداية الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 بدأت أفواج اللاجئين العراقيين في التدفق إلى عدد من البلدان العربية، انتهى الحال بالعراقيين الأكثر حظًا إلى مصر، بينما اتجهت الغالبية العظمى إلى سوريا وتركيا.
تمثل حالة اللجوء العراقي إلى سوريا تحديدًا حالة شديدة الخصوصية، إذ تصل التقديرات إلى وصول أكثر من مليون عراقي إلى سوريا وحدها، جدير بالذكر أن النزوح العراقي بلغ ذروته مع تنامي العنف الطائفي في البلاد، وكان أغلب النازحين العراقيين من السنة الذين تعرضوا لعمليات من العنف المنهجي من قبل الميليشيات العراقية المتقدمة نحو المناطق ذات الأغلبية السنية في غرب وجنوب غرب البلاد.
يمكن للمرء أن يتحدث عن آثار هذا النزوح الثقافية والاقتصادية الشاسعة على سوريا، فكثير من بلدان شمال وشرق سوريا أصبحت مكانًا لضواحي وأحياء عراقية بالكامل، كما لعب العراقيون دورًا محوريًا في تشكيل التوجهات عدد كبير من التوجهات الثقافية اليومية؛ كالأثر العراقي الواضح على تطور الموسيقى الشعبية في سوريا بعد عام 2004 على سبيل المثال.
إلا أن الأمر يمتد لما هو أكثر من ذلك، فواقع انتشار عدد كبير من العراقيين السنة على طول البلاد السورية لابد وأنه كان له دورًا محوريًا في تغلغل تنظيمات كتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي نمى أصلًا في العراق على طول السنوات الحرب للأراضي السورية بشكل سريع وحاسم كما حدث على طول العام الماضي.
ولم يتوقف دور هذا النزوح عند سوريا، إذا يمكن لكل من يزور مدن كإسطنبول والقاهرة أن يرى أثر تواجد عدد كبير من النازحين العراقيين على الحياة اليومية لهذه المدن، فالشركات والمطاعم والمحال العراقية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الواقع اليومي للمدينة القديمة في إسطنبول بلافتاتها العربية وإعلانات النقل والسفر إلى العراق المنتشرة هناك.
كما لا يمكن نسيان الدور الحاسم للمهاجرين العراقيين في تشكيل الواقع العمراني لمدينة العراقية بتوطنهم لضواحي القاهرة المعزولة سابقًا كمدينة السادس من أكتوبر، ويمكن حتى يومنا اعزاء الفضل في تحول تلك المدينة إلى مركز حضري في القاهرة إلى توطن المهاجرين العراقيين المتزايد لها في أعوام 2004 و2005، وهو ما أدى إلى رفع الأسعار بها وتسارع وصول الخدمات إليها.
الهجرة العربية الكبيرة إلى إسطنبول
من بين كافة الظواهر السابقة، قد تكون هذه الظاهرة الأكثر استمرارية وامتدادًا، إذ يمكن تتبع بدايتها إلى الفترة الأخيرة من حكم صدام حسين للعراق؛ إذ بدأ العراقيين في السفر بشكل منهجي إلى تركيا عمومًا وإسطنبول خصوصًا هربًا من القمع السياسي للنظام العراقي، ووصلت تلك الظاهرة إلى ذروتها مع بدء الحرب الأمريكية على العراق بتدفق مئات الآلاف من اللاجئين الذين بدأوا حياتهم من جديد في تركيا.
بدأت الموجة الثانية والأكبر حجمًا من التدفق العربي على إسطنبول مع بدء النظام السوري في قمع التظاهرات والمدن المناهضة له عام 2011، إذ وصلت نتائج هذه الموجة إلى تدفق أكثر من مليوني ونصف لاجئ سوري إلى تركيا وحدها بحلول عام 2015، ووصل عدد كبير من هؤلاء إلى إسطنبول ليبدأوا حيواتهم من جديد هناك، أصبح التواجد السوري في المدينة التركية واقعًا لا ينكر؛ مع سماعك للغة العربية واللهجة السورية بشكل يومي في أنحاء إسطنبول، كما قام عدد ضخم للغاية منهم بدمج أنفسهم في المجتمع بشكل كبير عبر تعلم اللغة التركية والعمل في شراكات كبيرة مع أصحاب الأعمال الأتراك.
يمكن ملاحظة بداية موجة ثالثة ذات صفات مختلفة مع بداية تدفق أعداد كبيرة من المصريين والليبيين إلى المدينة التركية العملاقة، ففي الحالة المصرية يمكن ملاحظات أن الآلاف من مناهضي الانقلاب العسكري في مصر قد بدأوا في التدفق على المدينة وتكوين مجتمعات شديدة الاتصال؛ فعلى سبيل المثال تبقى إسطنبول عاصمة لبث القنوات الفضائية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين والمناهضة للانقلاب العسكري، وقد لاحظت الدولة المصرية ذلك لينتهي بها الأمر فارضة تصريحًا أمنيًا على أغلب المسافرين إلى تركيا بشكل عام لمنع تدفق هذه الفئة خارج سيطرتها نحو دولة ذات توجهات مناهضة لها بشكل واضح.
أما في الحالة الليبية، فإن الأمر أقل وضوحًا، إلا أن من السهل الزعم بأن استمرار العنف وانعدام الاستقرار السياسي في ليبيا قد دفع عدد كبير من المواطنين الليبيين ميسوري الحال إلى السفر إلى إسطنبول للبدء في حياة أكثر أمن واستقرارًا من تلك في ليبيا المتقاتلة، كما تحولت إسطنبول وأنقرة إلى عواصم اللقاءات السياسية والتفاوضية بين الأطراف المتنازعة في ليبيا.