بحسب منظمة اليونيسيف؛ يعيش اليوم 230 مليون طفل في مناطق متأثرة بالحروب والنزاعات المسلحة حول العالم، ملايين من الأطفال بلا مدارس وتعليم، آلاف منهم مجندون في جيوش ومليشيات وعصابات مسلحة، وآلاف آخرون من الأيتام والمشردين في دور الرعاية والشوارع، تظن وأنت تقرأ هذا الكلام أن “آثار الحرب” بعيدة عن طفلك، فقد انتقلت لدولة مجاورة، وأسرتك الصغيرة في منزل آمن، يُكمل طفلك تعليمه في مدرسة جيدة وكل شيء على ما يرام، لكن هل طفلك بخير حقًا؟
كونك انتقلت لمدينة أخرى آمنة – لا حرب فيها – لا يعني بالضرورة أن طفلك بعيد عن الحرب؛ فللحرب آثار نفسية عميقة على الجميع وعلى الأطفال بالأخص، بينما يحرص جميع الآباء على توفير السكن والمأكل والتعليم وكافة الاحتياجات المادية للطفل، ينسى الغالبية الاهتمام بالجانب النفسي.
يواجه الأطفال صعوبة في التعبير عن مشاعرهم، المشاعر السلبية خاصة، لاسيما في السنوات الست الأولى من عمرهم، عدم حديثهم عن الحرب بشكل مباشر أو نقل مخاوفهم منها لا يعني أنهم لا يفكرون فيها أو أنهم غير مدركين لما يحدث، كما يتصور معظم الأهالي.
أثبتت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين سبق وعاشوا في منطقة حرب قد خاضوا بالأغلب تجارب سببت لهم صدمات كالانفصال عن أحد الوالدين أو كلاهما أو عن أحد الأشخاص المقربين منهم، أو معايشتهم لأحداث عنف أو عمليات تخريب بشكل مباشر أو حتى مشاهدتها في التلفاز، أو الانقطاع عن الدراسة والاحتجاز في البيت، وإن كثرت الصدمات في أوقات متقاربة من شأنه أن يسبب اعتلالات خطيرة للطفل تستمر معه في مرحلة النضج.
لا يتكلم الأطفال عن مخاوفهم من الحرب أو الصدمات التي تعرضوا لها، إلا أن وقع الصدمة يبدأ بالظهور في سلوك الطفل؛ فترى سلوكيات متغيرة بشكل ملحوظ، لا يعرف الأهل غالبًا سببها، القلق، الكوابيس، التعلق الزائد بالأهل، حالات العصبية والقلق، أو سلوكيات معاكسة تتمثل بالتصرفات الآلية والبرود الشديد، فقدان الاهتمام باللعب، وعدم الاكتراث بكل ما يجري.
هذه هي علامات “ما بعد الصدمة” التي تظهر على المدى القريب، أما العلامات الأكثر وضوحًا والتي نراها على المدى البعيد، فيمكن أن تتمثل بأن يبدأ الطفل بسرد وقائع حدث معين بأدق التفاصيل التي يمكن أن يكون الآخرون قد نسوها، أو يمكن نرى أن الطفل بدأ بتقليد ما جرى في ألعابه أو رسومه، أو أن يتكلم الطفل ببساطة عن الموضوع وقد مضى عليه وقت طويل، إضافة لتغيرات في الشخصية عند النضج، كاعتلال الميزان الأخلاقي من ناحية الصواب والخطأ، أو حتى الإصابة ببعض الأمراض الفسيولوجية.
ما هو الحل؟
– تحديد ما يعرفه الأطفال وما يحتاجون لمعرفته: أهم ما يمكن أن يفعله الأهل وأول خطوة هي محاولة معرفة كمية ما يعرفه الاطفال بالضبط عن الحرب، يمكن مبادرتهم بالسؤال عن معنى الحرب بالنسبة لهم وما رأيهم فيما يجري، ومن خلال إجابتهم يمكن تحديد حالة الطفل وإذا ما كانت ردود فعله طبيعية أم لا.
تعابير وجهه مهمة، طريقة كلامه، نبرة صوته، المفردات التي يستخدمها في الإجابة، كللها من شأنها أن تبين ما يعتمل داخل نفس الطفل وتحدد طبيعة مخاوفه، وبالتالي النقاط التي يجب على الأهل أن يراعوها في تعاملهم معه.
مثلاً قد يختصر الطفل الحديث عن الحرب بحادثة واحدة فقط أو جانب واحد، فقد تعني الحرب له الابتعاد عن المنزل ببساطة؛ مما يبين أن مشكلة الطفل هي عدم إحساسه بالأمان أو الألفة في البيت الجديد، أو قد يتحدث الطفل عن غياب أحد أفراد العائلة أو الأشخاص الذين كانوا موجودين في حياته قبل الحرب، فتكون مشكلته خوفه من الفراق وفقدان المزيد من الأشخاص المحببين له، وقد يتلافى الطفل الحديث عن الموضوع ويستخدم أجوبة مقتضبة تضم كلمات وعبارات مثل دم، موت، وقصف، من الواضح هنا أن الطفل قد تأثر بالحرب بشكل أكبر وأن الكثير من جلسات الكلام لازمة لمساعدته.
– الحديث عن الحرب: بعد فهم أو تحديد مقدار ما يعرفه الأطفال عن الحرب وانطباعهم المباشر عنها، يمكن أن يبدأ الأهل بالحديث عن الحرب ومحاولة الإجابة عن أسئلة الأطفال بخصوصها، أو أثارت الأسئلة لدى الأطفال ودفعهم لمناقشتها، فمن أهم العوامل التي تساهم في تفاقم مشاكل الطفل النفسية، هي عدم فهمه لكثير من الحقائق التي تعتبر “بديهية” لدى البالغين.
نتيجة لعدم فهمه للأخبار التي يراها والصور المربكة التي تعرض فيها، وخياله الخصب، سيمتزج الواقع بالخيال، ويمكن أن يتوهم الطفل أضعاف ما يحدث ويبالغ بمدى تقدير الخطر؛ مما سيضاعف عدم إحساسه بالأمان والخوف وسيادة مشاعر القلق على سلوكه.
– الحفاظ على روتين ما قبل الحرب: فيما يتعلق بالصدمات التي تعرض لها الطفل أثناء أوقات الحروب ومن ضمن أكبر المشاكل التي تواجه الطفولة في العالم هي النزوح أو اللجوء أو تغيير مكان السكن والانتقال المتكرر لمساكن جديدة أو مدن ودول أخرى.
أفادت معظم الدراسات أن تغيير مكان السكن في فترة الحرب حتى ولو كان لمكان أفضل، له أثر سلبي على الطفل من ناحية زيادة إحساس عدم الاستقرار والأمان، لذا من المهم أن تستعيد العائلة روتين حياتها السابق للحرب أو نمط يشبهه، حتى تقل نسبة الاختلاف بين الماضي والحاضر ويبقى قدر الإمكان المتغير الوحيد هو “المكان” تغيير جزء، لا المكان والحالة والطقوس اليومية وبالتالي تغير الكل.
– تقنين مشاهدة الأطفال للمحطات الإخبارية: من المهم أن يحدد الأهل مدى مشاهدة الأطفال للمحطات الإخبارية، حيث يبقى التلفاز في أغلب الأحيان على إحدى المحطات الإخبارية، حتى ولو لم يكن هناك من يتابعه، وبالتالي فقد يكون الطفل يلعب أو يدرس بالجوار مع استمرار سماعه للأخبار.
– كن قدوة حسنة لطفلك: من النقاط المهمة أيضًا هي أن الاطفال الذين يلاحظ في سلوكهم القلق والعصبية المبالغ فيهما، يلاحظ أنها صفة موجودة في أحد الأبوين وقد انتقلت للطفل، لذا فإظهار القلق والانفعال أثناء الحديث عن الحرب وبشكل متكرر من شأنه أن ينتقل للطفل ويصبح سلوكه العام انفعالي ومتوتر.
يمكن أن يكون الأهل أكثر حرصًا على عدم نقل مشاكلهم إلى الأطفال؛ بالابتعاد بدورهم عن مصادر القلق المستمر، ومحاولة التركيز على الوقائع أكثر من الإشاعات التي تبث في الإعلام.
– التركيز على الإيجابيات: يمكن البدء بتوعية الطفل بالنواحي الإيجابية التي حدثت مؤخرًا في حياته وحياة الأسرة كتعرف الطفل على أصدقاء جدد مثلاً، أو زيارة مدينة جديدة .. إلخ، مما سيساعد الطفل على التأقلم بشكل أسرع مع التغيرات التي ستصادفه مستقبلاً، بالانتباه إلى محاسنها.
– تجنب تشويش الطفل: يقع الكثير من الأهالي في أخطاء عند الحديث مع أطفالهم عن الحرب، يقوم البعض بالكذب في الإجابة لأسباب مختلفة مما يولد لدى الأطفال مزيدًا من الإرباك والتشويش، يجب ببساطة الإجابة بصدق.
يتخذ بعض الأهالي دور الواعظ، فيبدأ بتبرير الحرب – إذا كانوا من الفئة المعتدية – بأسباب دينية أو عرقية أو مادية حتى، فتكون الرسالة للطفل أنه لا بأس من الحرب ما دام الطرف الآخر مخالفًا لنا، مما يسيء للطفل ويقلب موازين الصواب والخطأ والعدل والميزان الأخلاقية لديه، فالدمار والأهوال التي شهدها لا يمكن أن تكون مبررة.
“الحرب خطأ، لا يمكن تبرير الانتهاكات، الحرب ستنتهي”، و”نحن نحبك، سنكون معك، وسنحميك” هذا كل ما يحتاجه الطفل في كثير من الأحيان، إحساس بالطمأنينة والحب والدعم، من الملفت أن الأطفال أكثر قابلية للتأقلم على الظروف الصعبة، وأسرع في الاعتياد من البالغين لذا؛ فجلسات حوار في أوقات مناسبة والاصغاء لحاجة الطفل وإظهار الدعم والحب ومحاولة الفهم، هي كل ما يتطلبه الأمر ليكون طفلك بخير حقًا، وبمنأى عن “آثار الحرب”، في ظل هذه الظروف العصيبة الأزلية في الشرق الأوسط .