سمعنا كثيرًا عن لعنات المدن الكبرى في العالم؛ فلكل مدينة أساطيرها الخاصة وكثيرًا ما تنعكس إحدى تفسيراتها على زائريها لتُبقي لهم ذكرى لا ينسوها أبدًا ويحدثون بها من يسألهم عن زيارتهم لتلك المدينة.
إسطنبول التي كانت أكبر مدن العالم في القرون الوسطى، وتعتبر ثاني أكبر مدينة من حيث عدد السكان في العصر الحديث بعد شنغهاي الصينية من تلك المدن التي لها لعناتها الخاصة تضيفها على ذاكرة من يزورها حتى ولو ليوم واحد فقط، فالمرور من هذه المدينة دون أن يحدث معك صدفة أو موقف ما يشتت تفكيرك أمر بعيد عن الاحتمال، فالعجب محتمل على يد أهلها أو أحد السياح الكثر الذين يجولونها يوميًا، فلو كان هذا يحدث مع من يزورها لأيامٍ فماذا تصنع هذه المدينة بمن يسكنها؟
أصابتني إسطنبول بلعنات مختلفة منذ سكنتها قبل عام ونصف بعد الخروج من غزة لاستكمال الدراسة الجامعية في جامعة من أقدم جامعات المدينة في قسمها الأوروبي.
لعنة ثقافية غيرت طريقة تفكيري بشكل جذري لخصها صديقي مرة بقوله “إنت طلعت من بير النعجة لقيت حالك في شارع الاستقلال”، و”بئر النعجة” هي حارتنا الواقعة على أطراف مخيم جباليا شمال غزة أمّا شارع الاستقلال فيعتبر أشهر شوارع إسطنبول ويزوره قرابة ثلاثة مليون سائح يوميًا وكان نقطة الانطلاق لمشروع تغريب تركيا الذي بدأ في عهد السلطان العثماني عبد المجيد الأول، فالأشياء التي كانت مقيدة بضوابط اجتماعية وأخرى دينية أصبحت بعد أن هبطت الطائرة في إسطنبول حرّة، تُصارع العقل للتكيف معها يومًا بعد يوم.
لعنة لغوية يعاني منها كل من يزور تركيا بشكل عام، إذ إن أهلها لا يتحدثون – بغالبيتهم – سوى اللغة التركية حتى في المطارات والأماكن السياحية المشهورة ولا يجد التركي حرجًا في أن يستمر بالحديث والشرح بلغته مستخدمًا الإشارات، ولا يُبالي إن فهمت أو لا المهم أنه “برّأ ذمّته”.
فكنت كما يقولون “مجبرٌ أخاك لا بطل” مضطرًا لإصلاح الأعطاب التي حاقت بعلاقتي مع اللغات منذ نعومة المدرسة الابتدائية، وبدأت بتدشين الجسور الودية بيني وبين اللغتين التركية والإنجليزية حتى يتسنى لي التعايش مع المجتمع بلغتهم ولاستكمال الدراسة الجامعية.
يقال بأن “اللغة التركية لا تقبل المزاحمة في بلدها” لدرجة أنني في أول أيامي هنا زاحمت كل الشوارع وتهت فيها لساعات “مثل الأطرش بالزفة” لعدم فهمي أي لافتة أو نظام مروري فيها، وبالطبع لم أعثر على أحد يتحدث العربية لهدايتي فكانت الإشارات التي لا تعرف لغةً هي الحل.
ومن الأمور الغريبة التي قابلتها في الجامعة، أن مسؤول ملف الطلاب الأجانب في جامعتنا والذي يفترض منه أن يتولى شؤون كل الطلاب غير الأتراك لا يتحدث سوى اللغة التركية، ويعود تمسك الأتراك بالتركية إلى انتماءات قومية مرتبطة بالدولة العثمانية، ونمّاها لاحقًا اهتمام أتاتورك باللغة التركية وتحويل حروفها من العربية إلى اللاتينية، إضافةً إلى ذلك أن مخارج الحروف في التركية تختلف عن غيرها من اللغات الدارجة مما يجعلهم لا يتذوقون التحدث بلغة أخرى.
لعنةٌ أخرى هي لعنةُ الغربة الدائمة، وكأن المسافة التي قطعتها حتى أكون هنا لا تكفي للشعور بالبُعد، ولكن بالنسبة لطالب قادم من غزة هي مضاعفة، فعدد كبير من الطلاب الغزيين الذين خاطروا بالذهاب إلى غزة لقضاء إجازة لم يستطيعوا العودة بسبب الإغلاق الدائم لمعبر رفح في وجوههم، فنجبر على قضاء الإجازات وحدنا عندما يعود أصدقاؤنا إلى أوطانهم المختلفة، فتصبح دانة الدُنيا إسطنبول ضيقة في وجوهنا حتى يبدأ الفصل الدراسي وننخرط في الجامعة مرة أخرى، ولكن هذا ليس كافيًا فتصرّ إسطنبول على أن تذيقنا فراق من نوع آخر لكثير من الأقارب والأصدقاء الذين يأتونها سياحةً أو في رحلة عمل قصيرة تتيحها لنا إسطنبول، فنراهم لوهلةٍ ثم تقصيهم بعيدًا وكأنها سرعان ما غيرت رأيها تاركةً لنا حسراتٍ مصبوبة على عتبات المقاهي التي شربنا فيها شايًا تركيًا معًا وعلى طاولات المطاعم التي تناولنا فيها المشاوي التركية أو بعض المطاعم العربية التي غزت إسطنبول وتقدم أطباقًا عربية متنوعة، وما أكثر مقاهي إسطنبول ومطاعمها الزاخرة بحسرات العابرين الذين جمعتهم لحظة هنا وفرقتهم بعدها سنين.
وعند الحديث عن إسطنبول لا يجب أن ننسى لعنة الازدحام والمسافات الطويلة لإنجاز المشاوير والذهاب إلى الجامعة داخل المدينة الحائزة على لقب أكثر المدن ازدحامًا في العالم لسنة 2014، إذ إن مدة الرحلات داخلها تكون عادة أطول بمعدل 58% خلال فترات الاختناق المروري مقارنة مع المدة التي تستغرقها هذه الرحلات عندما تكون حركة السير طبيعية، كما أن هذه الزيادة في المدة قد تصل إلى 109% في ساعات الذروة في المساء (وفق دراسة لشركة “توم توم” المصنعة لأنظمة التموضع العالمي “جي بي إس”).
وكما يبدو فإن لعنة الازدحام تلاحقني في الوطن وخارجه من أكثر مدن العالم ازدحامًا بالسكان (غزة) إلى أعلى مدن العالم ازدحامًا مروريًا (إسطنبول).
وما يواسيني بأن لعنات مدينة التلال السبعة تطال الجميع دون تمييز فقد لحقت لعناتها بالقادة السياسيين الذين يزورونها أيضًا، إذ سقط أمين عام (الناتو) أندريس فوغ راسموسين عن دراجته في نوفمبر 2011 في إسطنبول وأصيب بكسر في يده، كما أصيب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بكسر في رسغه الأيسر بعد سقوطه عن درج فندق خلال زيارة رسمية إلى إسطنبول عام 2012 برفقة الرئيس فلاديمير بوتين، وفي أبريل 2013 أصيب الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي بكسر في يده بعد أن سقط عن دراجة هوائية أيضًا.
وربما أن عدلها في توزيع اللعنات بالتساوي على كل من يطئها يجعل من لعناتها أمرًا محتملاً بشكل ما، فكما تقول ستي “الموت مع الجماعة رحمة”، وعليه فإنني أتمنى أن تعمّ فلسفة العدل الإسطنبولية كل مدننا العربية فتعدل بين أبنائها في كيل اللعنات وصبّها عليهم بالتساوي دون تمييز، أو أن ينعم الجميع بها بسلام وأمن.