استثنائي هو بسنه الصغير نسبيًا، البالغ 39 عامًا فقط، وشعره البني الفاتح أو الأحمر الداكن، وجسده الضخم، واسمه الذي صار الأشهر في روسيا بعد قائدها فلاديمير بوتين، في بلد يقُص فيه الكرملين عادة أجنحة السياسيين الطموحين، وظهر فيه على استحياء لفترة رئاسية واحدة دمتري مدفديف الضعيف، ولكن رمضان قديروف قصة أخرى بتربعه على عرش الشيشان وقبضته الحديدية هناك، والتي يحار المحللون ما إذا كانت تُريح بوتين بقمعها لأي محاولات انفصالية في الشيشان، أم تُقلقه في الحقيقة بالنظر لقوة قديروف المتزايدة وحضوره مؤخرًا بقواته الخاصة على الأرض في أوكرانيا وسوريا وإن كان حاضرًا هناك لدعم الروس.
هو رجل بوتين في الشيشان، أو على الأرجح النسخة الشيشانية من بوتين كما قال أحد الصحافيين بالقوقاز، فقواعد حكمه الصلبة بالشيشان لا تختلف كثيرًا عن القاعدة العامة في روسيا إن لم تكن أسوأ، بدءًا من قتل المنافسين وتعذيبهم، وحتى الاعتماد على تشكيلات أمنية خارج نطاق القوات النظامية، وهي القوات المعروفة بـ”قادريوفتسي” نسبة لوالده أحمد قديروف، والبالغ قوامها على الأقل عشرة آلاف من الرجال الجاهزين لتلقى أوامر الكرملين لمواجهة أعداء روسيا في أي مكان كما قال قديروف نفسه ذات مرة حين حشدهم كافة في ستاد لكرة القدم.
الاستثناء الوحيد في قبضة قديروف هي اعتماده على الدين لاكتساب شرعيته بين مسلمي الشيشان مهما بدا ذلك زائفًا، ومهما أثار حفيظة التقدميين من الروس في موسكو، ففي بلد يحظر تعدد الزوجات يدافع قديروف علنًا عن حقه في اتخاذ أربعة زوجات، وإن ادعى أنه لم يجد امرأة جميلة بما يكفي فعليًا لتصبح زوجته الثانية، كما أنه أمر النساء بتغطية رؤوسهن، ومنع تداول الخمور، ويتفاخر عادة بابنه الحافظ للقرآن وهو لا يزال في السادسة من عمره.
قيصر الشيشان
قديروف يسير بين رجاله بعد حشد عشرات الآلاف من قوات “قديروفتسي” في ستاد بالعاصمة جروزني
أعلنت الشيشان استقلالها عام 1991 أسوة بجمهوريات آسيا الوسطى التي خرجت من عباءة السوفييت، إلا أن طريقها لم يكن سهلًا مثل نظيراتها بسبب موقعها الهام المتاخم لجبال القوقاز والذي يمنح موسكو تواجدًا قويًا في المنطقة قُرب جيورجيا وأذربيجان وحليفتها أرمنيا، لذا بدأت حرب الشيشان الأولى تحت حُكم بوريس يلتسين وشهدت مقتل أكثر من خمسة آلاف جندي روسي وخمسين ألف مدني شيشاني، وبعد تسوية سياسية قصيرة وبروز قوة المسلحين الإسلاميين شنت موسكو حملة عسكرية جديدة عام 1999 ونجحت في حيازة العاصمة جروزني، إلا أن حمام الدم لم يتوقف وصار مكلفًا للكرملين ورئيس الوزراء أنذاك بوتين، والذي أيقن حاجته لتغيير استراتيجيته حين وصل مسلحو الشيشان إلى قلب موسكو واتخذوا سبعمائة رهينة في إحدى المسارح.
ماذا كان الحل إذن؟ كان الحل هو سياسة “شّيْشنة” أو Chechenization كما عُرفَت، والتي قام الكرملين بمقتضاها بإيكال المهام السياسية والعسكرية لحلفائه الشيشان أنفسهم في جروزني، لتصبح المعركة شيشانية-شيشانية، وكان الطرف الشيشاني الموالي للروس بقيادة أحمد قديروف، والذي حارب مع المسلحين في حرب الشيشان الأولى، قبل أن ينتقل للمعسكر المضاد متيقنًا أنه لا طائل من الحرب، ولا فائدة إلا باتخاذ صف الروس لحماية أهل الشيشان.
لم تدُم حياة قديروف طويلًا بعد ذلك، حيث راح ضحية انفجار في ستاد جروزني بعد سبعة أشهر من تنصيبه رئيسًا لجمهورية الشيشان (الفيدرالية الروسية) عام 2003، ليحل ابنه رمضان منذئذ محله وهو لا يزال ابن السابعة والعشرين، والذي لم يمتلك أية اهتمامات أنذاك سوى الملاكمة والمصارعة، وبطبيعة الحال قيادة ميليشيا والده المدعومة من الكرملين.
فور توليه المنصب نشأت صداقة قوية بينه وبين بوتين، والذي أعجبه منهج رمضان العنيف في قمع المعارضين والانفصاليين معتمدًا على قواته “قديروفتسي،” وهي قوات أنهت فعليًا أية آمال للانفصاليين بقدر ما أخرجت القوات الروسية الفيدرالية من اللعبة تمامًا لتصبح هي ظهير الكرملين في جروزني، وإن لم تكن أقل سوءًا من قوات الروس، بل ولعلها أسوأ بالنظر لتغلغلها بشكل أكبر، كما تشير تقارير حقوق الإنسان الصادرة عن منظمات عدة، والتي تتهم الميليشيا بعمليات اختطاف وتعذيب ضد المعارضين.
لا يبالي الكرملين بأي من تلك الانتقادات بطبيعة الحال مادامت الشيشان هادئة، لا سيما وأن قديروف يملأ صناديق الاقتراع أثناء الانتخابات الرئاسية بأصوات مؤيدة لحزب بوتين نتيجة الاستقرار في الشيشان، وفي المقابل فإن الكرملين يُغدق عليه من ميزانيته أموال وصلت لـ83 بالمائة من ميزانية الجمهورية الشيشانية العام الماضي، إضافة إلى المعونة التي تجاوزت 14 مليار دولار في عملية إعادة التعمير بعد الحرب العقد الماضي، وهي مليارات يمكن رؤيتها في سماء العاصمة جروزني التي امتلأت بالدخان والرصاص أيام الحرب، وأصبحت اليوم مساحة لجامع أحمد قديروف الكبير وأبراج مدينة جروزني الشهيرة.
رُغم كل ذلك لا يبدو أن الكرملين يرتاح بالكامل إلى السيطرة الشاملة لقديروف هناك، بيد أنه لا يملك بديلًا له وقواته، خاصة وأن تلك القوات تكن الولاء له هو شخصيًا لا لروسيا، بل وتصل قبضتها أحيانًا إلى خارج نطاق الشيشان، كما حدث مع الصحافية الروسية أنّا بوليتكوفسكايا، والتي لقت مصرعها كما يرجح كثيرون على يد أحد رجاله، بعد أن وصفته مرة بأنه “تنين صغير” أصبح “الكرملين في حاجة باستمرار إلى إطعامه، وإلا أطلق العنان لنيرانه.”
قُتِلت أنّا، ولكن الكرملين على ما يبدو بالفعل رهينة لمُعضلة قديروف في الشيشان.
خارج السيطرة؟
ضابط أمن روسي وخلفه الورود التي وضعها أنصار نِمتسوف في المكان الذي قُتل فيه أمام أسوار سباسكي الشهيرة بالكرملين
في فبراير من العام الماضي، وبينما كان بوريس نِمتسوف أحد معارضي النظام ماشيًا على جسر قُرب الكرملين، انطلقت رصاصة من الخلف أردته قتيلًا وفر صاحبها، وإن كان الكثيرون قد وجهوا سهامهم إلى الكرملين لذاته، فإن الأخبار القادمة من داخله توحي بأن طرفًا آخر كان مسؤولًا عن الجريمة، مطمئنًا أن النظام بالطبع سيصبح المتهم الرئيسي كالعادة في قتل معارضيه، فطبقًا لإحدى المصادر، وبعد أيام قليلة من مقتل نِمتسوف، كان بوتين مذهولًا من حدوث جريمة كتلك قُرب الكرملين مباشرة، “إذا أمكن لشخص أن يفعل ذلك خارج أسوار سباسكي –وهي أحد معالم الكرملين المعروفة- فإنه يمكن بسهولة أن يفعل ذلك داخلها أيضًا.”
بعد الجريمة انطلقت السلطات الروسية في اعتقال المشتبهين، وكانوا خمسة كلهم من الشيشانيين، أبرزهم زاور داداييف، نائب سابق في إحدى قوات قديروف، ومثير للريبة في الواقع بالنظر لتقديمه استقالته في ديسمبر 2014، وقبولها فقط يوم مقتل نمتسوف، وهو ما دفع عائلة الضحية إلى توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى قديروف باعتباره وكيلًا للنظام، غير أن ذلك لربما لم يكن صحيحًا بالكامل، بالنظر للتوتر القصير الذي أحدثته الجريمة في العلاقة بين الرجلين.
أنذاك، ظل بوتين لأيام رافضًا الرد على أية مكالمات من قديروف، وفقما قال الصحافي الشيشاني أورخان جمال صاحب الصلات القوية في الشيشان، حتى أن قديروف بدأ بالقلق، ومع عودة العلاقات بحذر لمجاريها بين الرجلين بعد ذلك، إلا أن هذا لم يمنع الكرملين من الاستمرار في القبض على أي مشتبه به في الضلوع بالجريمة من المقربين من دوائر قديروف في الشيشان، “لقد كانت هذه الاعتقالات انقلابًا، وإنجازًا كبيرًا للمحققين الروس، وضربة قاصمة لقديروف،” هكذا تقول الصحافية إلينا ميلاشينا مراسة صحيفة نوفايا جازيتا الروسية في الشيشان.
على الرُغم من ذلك، ومع بروز اسم رجل آخر من دوائر السلطة في الشيشان كمشتبه به، هو جيريمييف، والقريب جدًا من أحد رجال قديروف المباشرين، لم تفلح التحقيقات في إجبار السلطات الروسية على استصدار قرار بالقبض عليه، وهو ما حاول المحققون فعله مرتين، كما قيل أن جيريمييف سافر إلى الإمارات قبل أن يعود بهدوء إلى الشيشان، وإن كان الجميع يعلم أن بوتين بوسعه اعتقاله إن أراد، إلا أن اهتمامه باستقرار الشيشان على الأرجح يمنعه من ذلك.
على كل ذلك، لا تزال نظريات كثيرة تلوح في الأفق بشأن مقتل نمتسوف، بدءًا من مسؤولية الكرملين عنها مباشرة عبر التعاون مع بعض رجال قديروف لإحراج قديروف وإضعاف قوته في السياسة الروسية، وحتى قيام قديروف بها كنوع من إثبات حضوره وقوته وخدمته للكرملين، حتى أمام أبوابه، كنوع من تقديم الولاء، والتحذير في نفس الوقت من مغبة الاستغناء عن قديروف، وفي جميع الأحوال فإن النظريات كلها تصب في نفس الاستنتاج، وهو أن العلاقة بين بوتين وقديروف معقدة، وأبعد ما يكون عن الصداقة القوية التي نشاهدها في صور الرجلين معًا.
لعبة قديروف
أخيرًا، وفي أحدث تحركاته السياسية، أعلن رمضان قديروف أنه لن يترشح مجددًا لرئاسة الجمهورية الصغيرة بعد أن تنتهي ولايته في أبريل المقبل، وأنه يفضل تكريس ما تبقى من حياته لأسرته ودراساته الإسلامية، وهو تصريح أحدث ضجة في السياسة الروسية، لا سيما وأن أحدًا لا يتوقع بالفعل أن يتنحي قديروف عن سلطانه، وهو ما دفع بعض المحللين للقول بأن تصريحه مجرد محاولة لدفع بوتين إلى إثنائه عن ذلك، بشكل يُظهر مجددًا قوة قديروف وأهميته بالنسبة للكرملين، مما يعزز شرعيته هو داخل الشيشان، ويعزز في نفس الوقت هيمنته داخل الكرملين نفسه كخيار لا بديل عنه في الشيشان.
حتى الآن لم يُدلي بوتين بدلوه في هذه المسألة، إلا أن التوقعات تشي بأنه سيثني قديروف بالفعل، لا سيما وأنه لا يريد أية تقلبات في الشيشان الآن وهو مشغول بالمعارك في أوكرانيا وروسيا، بل ومتهم بالتعاون مع المشروع الإيراني “الشيعي” ضد القوى السنية بالمنطقة بشكل قد تستغله قوى الانفصاليين السنية بسهولة لإعادة إشعال المعركة، وهي معركة ستضطر موسكو لفتح جبهة ثالثة في وقت تنتشر فيه القوى السنية “المتطرفة” أكثر من أي وقت مضى، ويمكن فيه لداعش بسهولة أن تجد موطئ قدم داخل الشيشان ترد به على هجمات الروس في سوريا.
إجمالًا، يبدو وأن بوتين رهينة اعتماده الشديد على قديروف، فالرجل لا يملك فعليًا قوات تُبقي قبضة الكرملين على الشيشان، وكل رهانه هو على “قديروفتسي” بشكل لا يجعله قادرًا على دفع ثمن إقصاء صاحبها، والذي يلعب بدهاء هو الآخر مع الكرملين لترسيخ سلطانه في جروزني، بيد أن كل ذلك لا يمنع عدم شعور بوتين بالراحة حياله وإن لم يمتلك خيارًا غيره، لا سيما وأن قوات قديروف ربما أشد ولاءً له من ولاء القوات الروسية لبوتين، فكما قال بتروف رئيس مركز بحوث الجغرافيا السياسية ذات مرة، “يمتلك وزير الدفاع الروسي آلافًا مؤلفة تحت إمرته، ولكنهم إن تلقوا أمرًا باقتحام الكرملين مثلًا لا يمكن أن نضمن قيامهم جميعًا بتنفيذ الأوامر، أما رجال قديروف فإنهم لا يفكرون مرتين أبدًا قبل تنفيذ أوامره، وأوامره هو فقط.”