وجهت حركة طالبان الأفغانية ضربة إلى الجهود الدولية الرامية لإحياء مباحاثات السلام مع الحكومة الأفغانية في كابول، بعد أن رفضت الجلوس على مائدة الحوار المباشر مع السلطات، فارضة شروطها على الجميع قبيل القبول بأي دعوة للحوار.
حيث أعلنت الحركة في بيان رسمي لها موقفها من المفاوضات الحالية بقولها: “نكرر موقفنا مرة أخرى بأنه طالما لم ينته الاحتلال الأجنبي ولم تسحب أسماء طالبان من القوائم السوداء العالمية ولم يطلق أسرانا، فإن هذه المفاوضات غير مجدية ومزيفة ولن تؤدي إلى أي نتيجة”.
حيث تقود الحكومة الأفغانية بمساعدة باكستان والولايات المتحدة والصين جهودًا لاستئناف المفاوضات مع الحركة لإنهاء كافة أعمال المواجهات المسلحة بين الطرفين التي دامت قرابة 14 سنة، وذلك بإطلاق محادثات ثنائية في إسلام آباد هذا الأسبوع.
هذا الموقف من الحركة يبدو أن وراءه مجموعة من الأسباب التي تدعمه أبرزها سلسلة الانتصارات العسكرية التي حققتها الحركة بعدما أنهى حلف شمال الأطلسي رسميًا عملياته القتالية في أفغانستان منذ أكثر من سنة.
تلك الانتصارات التي كان آخرها سيطرة حركة طالبان على قاعدة عسكرية في مديرية زرمت بولاية بكتيا بعد انسحاب قوات الجيش الأفغاني منها، ويعد هذا ثالث انسحاب للجيش الأفغاني من قواعد عسكرية خلال شهر واحد، حيث سبق أن أخلت قواته القاعدة الواقعة في جنوب شرق البلاد على إثر تصاعد هجمات طالبان عليها، وانقطاع الدعم اللوجستي والعسكري.
وقد كانت القوات الحكومية الأفغانية انسحبت من قواعد في مقاطعة موسى قلعة الإستراتيجية بمحافظة هلمند جنوب البلاد بعد شهور من الاشتباكات العنيفة مع مقاتلي طالبان بعد أن باتت غير قادرة على الصمود في وجه مقاتلي الحركة، رغم ادعاء غير ذلك وتبرير الانسحاب بوصفه تكتيكيًا.
تستخدم حركة طالبان هذه الانتصارات في تحسين موقفها التفاوضي وفرض شروطها على اللجنة الرباعية الدولية التي اجتمعت في كابول في أواخر شهر فبراير الماضي ضمن جولة رابعة من المحادثات الهادفة إلى إحياء عملية السلام الناشئة التي تعثرت الصيف الماضي بين الأطراف المتقاتلة.
حيث بدأ مقاتلو حركة طالبان الاستعداد لموسم جديد من القتال في الصيف بعد موسم ذوبان الجليد وهو ما تراه الحركة فرصة مواتية لتكبيد القوات الأفغانية مزيدًا من الخسائر لتجبرها على الرضوخ إلى شروطها في الحوار، في ظل تخوفات مسيطرة على الجيش الأفغاني تجعله لا يتجه إلى المبادرة بالقتال مفضلًا الدفاع عن المواقع الإستراتيجية في البلاد.
الجدير بالذكر أنه تقدر سيطرة حركة طالبان في أفغانستان بقرابة ثلث البلاد، حيث تسيطر بالكامل على أربع مناطق على الأقل، ورغم سيطرتها على مدينة قندوز الشمالية لفترة وجيزة العام الماضي فإنها لا تسيطر على أي عواصم إقليمية حتى الآن، وهو الهدف القادم من استئنافها للقتال أمام حكومة كابول.
وعلى هذا نفت الحركة في بيان نشر على موقعها الرسمي ما أسمتها “الشائعات” التي تفيد بأن موفدين من الحركة سيشاركون في الاجتماعات المقبلة مع الحكومة بإذن من الملا أختر منصور، خليفة الملا عمر في قيادة الحركة، وأكدت الحركة أن الملا منصور “لم يأذن لأحد بالمشاركة في هذه الاجتماعات، كما أن مجلس قيادة الإمارة الإسلامية لم يقرر أيضًا المشاركة”.
هذا وقد أكد المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد في وقت سابق أن حركته “ليست على علم” بالدعوة التي وجهتها الحكومة في كابول لاستئناف الحوار المباشر من أجل وضع حد للنزاع بين الجانبين، وذلك غداة اجتماع دولي يهدف لإعادة إطلاق عملية السلام.
إذ صرح هاتفيًا لوكالة فرانس برس بأن الحركة ليست على علم بشيء، لذلك لا يستطيع قول أي شيء فيما يتعلق بهذه المحادثات، مضيفًا لم ينقل إلينا أي شيء رسمي، كل ما نعلمه سمعناه من وسائل الإعلام.
وقد توقف الحوار بين الحكومة الأفغانية وطالبان الصيف الماضي مع إعلان وفاة مؤسس الحركة الملا عمر، وفي الوقت نفسه اندلاع خلافات بعد وفاته بين مجلس قيادة الحركة بعد صعود الزعيم الثاني للحركة الملا أختر منصور إلى قيادتها، بينما تستمر دعوة الرباعية الدولية للحركة بكافة أجنحتها إلى الجلوس على طاولة المفاوضات للتوصل إلى حل سلمي يُنهي النزاع المسلح.
ودائمًا ما ردت الحركة بأنها ترفض الجلوس للحوار قبيل شطب أسماء قادتها من اللوائح السوداء للإرهاب الأمريكية والأممية، بالإضافة إلى انسحاب جنود حلف الأطلسي من أفغانستان، وقد اتهمت الحركة الولايات المتحدة مؤخرًا باعتماد سياسة الكيل بمكيالين، وقالت إن أميركا عززت عدد قواتها وزادت ضرباتها الجوية ومداهماتها الليلية ضدهم، بالتزامن مع ما يعلنونه من جهود لإحياء محادثات السلام.
لا يكمن السر وراء رفض الحوار حاليًا من جانب الحركة في مسألة مطالبها فقط، وإنما ثمة كلمة سر أخرى تقف خلف هذا الرفض في وجهة نظر محللين، ألا وهي “داعش” حيث يستمر التنافس والصراع الجهادي بين حركة طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على الأخذ بزمام القيادة الجهادية في هذه المنطقة.
توفر بيئة الفوضى في أفغانستان نموذجًا مثاليًا لنمو تنظيم داعش حيث إقليم “هلمند” الذي تنشط فيه عناصر التنظيم لتجنيد الشباب لصالح التنظيم عبر سحب البساط من تحت قدمي طالبان عبر المزايدات الجهادية، وهو ما يمثل تخوفًا لدى حركة طالبان في حالة قبولها للحوار مع الحكومة الأفغانية أن يزيد هذا الأمر من حالة الانقسام الداخلي الذي سيؤدي بمقاتلي الحركة في النهاية إلى يد داعش.
إذن تخشى طالبان من المزايدات الداعشية عليها وتفضل إنهاء صراعها على الريادة الجهادية في أفغانستان مع داعش أولًا قبيل الانخراط في أية مفاوضات.
حيث شهدت الساحة الأفغانية حالة من الصراع بين كل من حركة “طالبان”، صاحبة النفوذ التقليدي في أفغانستان، والتي حكمت البلاد من خلاله لمدة ست سنوات إلى أن أسقطت بيد قوات التحالف الدولي عام 2001 في غزو أفغانستان، وبين تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي أخذ يتمدد في مناطق نفوذ طالبان، مما أدى إلى وقوع اشتباكات مسلحة بين الطرفين فى عدد من هذه المناطق.
وذلك بالتزامن مع مبايعة عدد من القيادات المنشقة عن حركة طالبان لتنظيم داعش، وعلى رأسهم الملا عبد الرؤوف في العام 2015، والذي قتل بعد ذلك في غارة لطائرات دون طيار.
لذا تفضيل حركة طالبان لتأجيل أي حوارات مع الحكومة الأفغانية نابع من رؤيتها أنها صاحبة النفوذ التقليدي للجهاديين في البلاد، وحاملة لواء الجهاد والشريعة، وهو الأمر الذي على إثره ترفض بشدة أن ينافسها تنظيم داعش على هذا النفوذ.
في المقابل يتمدد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على حسابها، ويستقطب العديد من الرجال في أفغانستان، تحت تأثير جاذبية الفكر “الداعشي”، أو تحت تأثير الإغراء بالمال، وتولية المناصب، باستغلال حالة الشقاق الموجودة بين أبناء حركة طالبان خاصة بعد مقتل الملا عمر، وهو ما تنظر إليه طالبان بأنه معركة بقاء لا ترف فيها، بعد أن تنامت الأخبار عن تقديم بعض القوى الإقليمية المساعدة إلى داعش في مقابل تقليم أظافر حركة طالبان في أفغانستان.