انطلقت الثورة السورية في بداية سنة 2011، وتوسعت تدريجيًا في مدن مختلفة خلال الأشهر الموالية لتشمل العديد من المدن، ومن أبرزها مدينة حلب التي تعتبر العاصمة الثانية بعد دمشق، والعاصمة الاقتصادية الأولى للبلاد، وقد انخرطت حلب في مسار الثورة السورية منذ الأشهر الأولى، ولكنها لم تتبن الثورة بمفهومها الشامل إلا في الأشهر الأولى من سنة 2012، وتحديدًا في شهر أيار/ مايو الذي شهد العديد من التحركات الشعبية.
إذا كانت كل الأحياء في حلب قد تبنت مبادئ الثورة منذ اندلاعها، فإن الجامعات مثّلت الرحم الذي خرجت منه أولى المظاهرات الشعبية التي رددت شعارات الربيع العربي على أنغام الدبكة السورية التقليدية؛ على غرار شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وتعالت الأصوات التي رفعت علم الثورة السورية في الجامعات، مطالبة بسقوط النظام يوم 17 أيار/ مايو.
تعرضت المظاهرات الشعبية في حلب خلال الأشهر الأولى لاضطهاد القوات النظامية وقوات الشبيحة، التي عملت على انتهاج كل أساليب القمع في التصدي للمتظاهرين الشبان، ولاحقتهم إلى مساكنهم الجامعية التي أمطرتها بقنابل الغاز المسيل للدموع.
وكانت عناصر الشبيحة الذين اندسوا بين طلاب الجامعات السورية يعتقدون أن أساليبهم القمعية قادرة على إخماد الثورة، التي لم يكن هناك شيء قادر على إيقافها مهما كان تعنته، بعد أن أدرك الشباب المتعطش للحرية أن المعركة التي يخوضها ستحدد مستقبل بلادهم.
مثلت بداية التحركات الطلابية في الجامعات منعرجًا حاسمًا في مسار الثورة في حلب، لكنها لم تتخذ شكلها المسلح العنيف إلا في شهر تموز/ يوليو، عندما توسعت قوات “لواء التوحيد” بقيادة عبد القادر صلاح في المناطق الريفية من المدينة، وسيطرت على جزئها الشرقي.
تمكنت المعارضة من تحقيق انتصار إستراتيجي على القوات النظامية منذ بداية الثورة في مدينة حلب، لكنها اليوم تكافح للمحافظة على هذه الانتصارات في الوقت الذي توسعت فيه القوات النظامية تدريجيًا، وكسبت العديد من المعارك في المناطق الغربية والمدن الداخلية بعد أن استفادت في الأشهر الأخيرة من الدعم الجوي للطائرات الروسية، ومن ناحية أخرى ساهمت الانتهاكات التي تقوم بها بعض أطياف المعارضة في إضعاف شعبيتها ودعم موقف القوات النظامية.
خسرت المعارضة السورية نفوذها في مدينة حلب بعدما نجح النظام السوري في عزلها عن بقية مناطق المدينة، وأجبر عناصرها على البقاء في المناطق المحررة والاندماج داخل المدنيين، ولذلك أقرّ أحمد غباش، أحد الناشطين في التحركات الطلابية في حلب، بأن “دخول المعارضة المسلحة للمدينة كان خطأ إستراتيجيًا فادحًا في ذلك الوقت، وهو ما عملت قوات النظام على استغلاله لصالحها”.
وأدرك نظام بشار الأسد منذ بداية الثورة السورية أن سقوط الجزء الغربي من حلب في أيدي المعارضة السورية يعني سيطرتها على بقية المناطق، وهو ما بدا واضحًا منذ بداية الثورة، عندما قامت مجموعة من الناشطين في المجتمع المدني متكونة من أطباء، محامين، صحفيين، ورجال أعمال بتوقيع عريضة تظلم يوم 11 نيسان/ أبريل 2011، وقد تضمنت هذه العريضة التي تعكس انخراط حلب في الثورة السورية منذ بدايتها والتزامها بالمبادئ لازالت رغم مرور سنوات تعكس التوجه الواقعي للثورة، مطالب تمثلت في رفع حالة الطوارئ، إطلاق سراح السجناء السياسيين، وإرساء سيادة القانون وتنظيم انتخابات حرة.
مثلت هذه العريضة خطوة جريئة في ذلك الوقت، ولذلك قال محمد بذنجكي، أحد الموقعين عليها إن “البعض شعروا بالخوف في الليلة التي وقعوا فيها على العريضة”، لكن النظام السوري حاول إخماد الثورة منذ بدايتها في مدينة حلب، واختار انتهاج سياسة مختلفة عن السياسات التي تعامل بها مع بقية المدن والقرى، حيث عمل على استمالة البرجوازيين من الطائفة السنية، التي كان يرى فيها خلاصه من وصول حلب إلى نقطة اللاعودة في المسار الثوري، وتعارضت هذه السياسة التي انتهجها بشار الأسد في حلب مع السياسة التي اعتمدها والده حافظ الأسد، عندما حاول معاقبة المدينة بعدما احتضنت جماعة الإخوان المسلمين سنتي 1979 و1980.
عمل النظام السوري على إغراء الناشطين المدنيين، المحامين، الصحفيين ورجال الأعمال للتنازل عن مطالبهم والاصطفاف إلى جانب النظام، في الوقت الذي كانت فيه الثورة في أمسّ الحاجة لأبنائها من الشعب السوري، وقد وظفت كل الوسائل المتاحة لكسب رجال الأعمال إلى جانبها، وهو ما أكده محمد بذنجكي الذي ذكر أنهم تلقوا دعوة من رئيس غرفة الصناعات، فارس الشهابي، الذي يعتبر أبرز الموالين للنظام، لزيارة أحد مصانعه، وقد عهد النظام السوري في الأشهر الأولى من الثورة للمسؤولين أمثال الشهابي بإخماد الثورة السورية بالطرق الدبلوماسية، في الوقت الذي كانت فيه الشبيحة تعمل على قمعها في بعض المدن الأخرى.
استضاف الشهابي في مصنعه العديد من رجال الأعمال في حلب، وعرض عليهم تعويضات نتيجة الأضرار التي لحقت بمؤسساتهم، وكان يبدو أن الشهابي أراد أن يوفر لرجال الأعمال “فرصة أخيرة” لوضع أنفسهم في صف النظام السوري بالطريقة السهلة، قبل أن يلجأ للطريقة الصعبة التي تعتمد على التصفية الجسدية والعقاب الجماعي.
ولم تقتصر عمليات الاستقطاب التي اعتمد فيها النظام السوري على “القوة الناعمة” في إغراء المعارضين على توظيف سلطة المال، بل حاول أيضًا استقطابهم عن طريق تنظيم جلسات حوارية اكتسبت طابعًا شكليًا، حيث لم يتم تمثيل المعارضة السورية إلا ببعض الأشخاص الذين تبنوا مواقف أكثر اعتدالاً من نظام بشار الأسد، أما المعارضون الحقيقيون فقد تم إسكاتهم وتهميشهم، وهو ما أكده محمد بذنجكي الذي ذكر أنه كان من بين الحاضرين في الاجتماع الذي نظمه حاكم حلب، لكنه تفاجأ بحذف كلمته التي اعتبر فيها أن سوريا لا يمكن أن تكون حكرًا على عائلة الأسد وتمرير “أغاني وطنية” بدلاً عنها، رغم وعود حاكم المدينة ببث الاجتماع دون أي حذف أو تغيير، لكن يبدو أن النظام حريص على تلميع صورته أكثر من حرصه على الاستجابة للمطالب المشروعة.
وانخرطت الحركات اليسارية في حلب في مسار الثورة السورية في الأشهر الأولى لانطلاقها، لكن النظام أبدى صلابة وعنفًا أكبر في التعامل مع هذه التحركات التي رأى فيها تمهيدًا لتبني المطالب الثورية، وعمل على محاصرتها والتضييق على كل التحركات المدنية والمظاهرات التي اكتسحت شوارع حلب، بداية من شهر أذار/ مارس في سنة 2011.
بعد أقل من شهر تقريبًا من هذه المظاهرة، تواصلت التحركات الاجتماعية واتخذت وتيرة تصاعدية، وقد عملت قوات النظام السوري على كبح هذه التحركات بكل الوسائل، وكانت ردة فعلها أكثر قسوة عندما خرجت مظاهرات ضمت العديد من الطوائف السنية، الشيعية، العلوية، والإسلاميين، فقد اعتقد النظام السوري أن توحد كل هذه الطوائف، التي عمل دائمًا على زرع الفتنة بينها من خلال سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع كل واحدة منها، تهديدًا حقيقيًا لوجوده، خاصة إذا تعلق الأمر بالطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد.
شهد العمل المسلح للجماعات السورية في حلب نقلة نوعية بعد سنة من بداية الثورة، فقد أصبح الناشطون المدنيون يدركون جيدًا ضرورة التنسيق بين كل أطياف المجتمع السوري، وتجاوز الاختلافات الطائفية والدينية في مواجهة عدوهم الرئيسي، الذي صعّد في طريقة تعامله مع التحركات الاحتجاجية رغم أنها حافظت على طابعها السلمي، واستفادت تنسيقيات الثورة في حلب من الدعم السري الذي قدمته لها بعض العائلات الثرية لتوسيع نشاطها، لكنها كانت غالبًا ما تبدي تحفظها في دعم الثورة خوفًا من إعادة بشار الأسد لسيناريو والده حافظ الأسد عندما عاقب المدينة في السبعينات على نشاطاتها السياسية.
ثم دخل الصراع حول مدينة حلب منعرجًا خطيرًا في سنة 2012، عندما بلغت حالة الاستياء ذروتها بسبب تواصل السياسات القمعية للنظام السوري، الذي قام بتعقب وملاحقة الناشطين والمعارضين عن طريق جهاز المخابرات السوري، وتكثفت العمليات القتالية مع الدور المهم الذي تبنته المعارضة المسلحة في حلب، وهو ما جعل المدينة التي كانت سوريا تباهي بها مدن العالم، عبارة عن “مدينة أشباح” بسبب ما لحقها من خراب ودمار.
وفي الختام، يختزل الدمار الذي لحق حلب منذ بداية الثورة السورية سنوات من المعاناة التي طالت كل شيء في شوارع المدينة المنكوبة، ولذلك فإنه يمكن القول بأن مصير الثورة السورية يرتبط أساسًا بمصير هذه المدينة ودورها في رسم مسار الثورة خلال الفترة القادمة.