ترجمة وتحرير نون بوست
أثناء فتحه لباب الكنيسة العملاق، يلقي الحارس النيجيري نظرة حذر على الشارع المهجور أمامه، لقد كان ذلك في صباح أحد أيام الأحد في مدينة طرابلس القديمة، ولم يكن من المتوقع وصول سوى حفنة صغيرة من المصلين إلى الكنيسة الأنجليكانية التي ترجع إلى القرن الـ19، المطلة على الأزقة القديمة المتشابكة تحتها، كما يقول الحارس أوكي؛ فالمصلون، وأغلبهم من المهاجرين الأفارقة، يبقون بعيدًا عن الكنسية خوفًا من اعتقالهم من قِبل الميليشيات المفترسة التي تطوف شوارع العاصمة.
المهاجرون ينتظرون بترقب حلول الصيف لتهدأ أمواج البحر وتتاح أمامهم الفرصة لامتطاء قارب للوصول إلى أوروبا، والحارس أوكي ينتظر أيضًا لتسنح له الفرصة للتوجه إلى لندن، كما قال لنا، مصرًا على أنه يعتزم التقدم بطلب للحصول على تأشيرة دخول، “سوف أصل إلى هناك هذا العام” قال أوكي، وتابع: “أو ربما العام الذي يليه، آمل ذلك”.
الجميع يبدو في انتظار شيء معين في طرابلس، المدينة المتوترة والراكدة والمحاصرة بين فكي الحرب الغريبة في ليبيا؛ فمع احتدام الصراع في أماكن أخرى في البلاد، كمدينة بنغازي الشرقية التي دمرتها الحرب، أو في مدينة سرت التي تمارس ضمنها الدولة الإسلامية أساليبها الوحشية، يبدو النظام مستتبًا بشكل غريب في العاصمة؛ فالمهربون يتربصون في الميناء، المهاجرون ينتظرون، والميليشيات المدججة بالسلاح والسياسيين المتنازعين، المتحالفون ظاهريًا، يتنافسون بهدوء من أجل السيطرة.
لهذا كله، تتمتع طرابلس بقشرة واهنة من الهدوء والرقي، وحتى الازدهار، على خلاف صورة الدولة الليبية التي مزقتها الحرب.
يمر شارع مؤلف من 6 مسارب على نحو سلس منحدرًا عبر ضواحي طرابلس، وحركة المرور في ساعة الذروة ضمن هذا الشارع تبدو مفعمة للغاية بسبب الدعم السخي الذي جعل الوقود أرخص من عبوة المياه المعبأة، حيث يمكنك ملء خزان سيارة عادية بالوقود بسعر لا يتجاوز الـ2 دولار.
في الساحة المرصوفة بالحصى، تحت برج الساعة العثمانية، يستريح الرجال تحت الشمس ويتمتعون بأدوات ثقافة المقهى، الكرواسون، الهواتف الخلوية، السجائر، وأكواب القهوة الورقية، حيث يحتسون القهوة مع القليل من الحليب والقشدة.
أما في مناطق التسوق، بالقرب من المباني الإيطالية القديمة، تنتشر الصالات الرياضية ومطاعم البيتزا ومنافذ بيع ماركات الأزياء الأوروبية العريقة، فليس هناك الكثير من مناطق الحروب التي يمكن أن تضم، كما تضم طرابلس، ماركات بينيتون أو ماركس آند سبنسر أو بوس.
بعد حلول الظلام، وعلى شاطئ البحر، يلعب الأطفال كرة القدم تحت أشجار النخيل، في الوقت الذي يجلس فيه آباؤهم على أنابيب المياه وينحنون نحو صناديق متوهجة صغيرة تبث إشارات الإنترنت في المنطقة.
ولكن إذا ألقينا نظرة عن قرب، يتضح لنا بأن الصورة مثيرة للقلق حقًا؛ فتلك المخازن الأنيقة تبدو شبه خاوية من مرتاديها لأن قلة من السكان يستطيعون تحمل تكاليف التسوق هناك، فالثروة البترولية الليبية التي ضمنت الحكم الغريب المستمر لمدة 42 عامًا للعقيد معمر القذافي، بدأت بالنضوب، وذلك مع تراجع الإنتاج، تحطم العملة، واستنفاد الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي بشكل خطير.
الأمن في طرابس هش، حيث يتلكأ رجال يرتدون الزي العسكري على التقاطعات المرورية المزدحمة، وينتمي هؤلاء إلى الميليشيات التي لا تعد ولا تحصى، كالإسلاميين، والمقاتلين من مدينة مصراتة القريبة، أو قد يكونون من رجال الحي المسلحين.
السرقة والخطف وانتهاكات حقوق الإنسان منتشرة بشدة في طرابلس، كما أضحى من المعتاد سماع رشقات إطلاق ناري عشوائية في الأحياء ليلًا، ولكن يبدو بأن السكان لا يعرفون تمامًا ما إذا كانت تلك الطلقات ناجمة عن حفل زفاف أو عن تبادل لإطلاق النار، ولا أحد يتكلف عناء التساؤل أيضًا.
تشهد العاصمة طرابلس حدوث أمور غريبة أيضًا، ففي إحدى المرات، وافق أحد المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى الاجتماع بي في صالة أحد الفنادق، ولكن عندما وصلت مع زميل لي، عاتبني بصوت عالٍ قائلًا “لم أوافق على مقابلتك!”، صاح في بهو الفندق؛ علمًا أنه وقبل 20 دقيقة فقط، أعطانا الرجل توجيهات للوصول إلى الفندق عبر الهاتف، ولربما كان ثورته علينا أشبه بأداء مسرحي موجهًا لصالح شخص آخر، لذا غادرنا بهدوء.
بجميع الأحوال، وجود الغربيين في أحياء طرابلس يعد ظاهرة نادرة، فحتى أعتى العمال المتخصصين بالعمل في البقع المتوترة، كعمال الأمم المتحدة والسفارات ووكالات المعونة، انتقلوا إلى تونس قبل عامين تقريبًا، لذا أضحى يُنظر إلى حفنة الأجانب الموجودين في طرابلس كجواسيس بأعين الليبيين المتشككين، أو كطعم لاستدراج العديد من محتجزي الرهائن في المدينة.
“طرابلس أصبحت كأمريكا، أرض الفرص بالنسبة للخاطفين”، قال لنا مهند المحجوب، وهو قائد ميليشيا بالغ من العمر 30 عامًا، أثناء مسيرنا في طرابلس في إحدى الليالي ضمن سيارة الدفع الرباعي الثقيلة خاصته.
الليبيون في ساحة الشهداء في طرابلس في يوم 16 فبراير، الذكرى الخامسة للثورة الليبية.
المحجوب يتمتع بمزاج محبب ولكنه عصبي، وأثناء مرورنا في طرابلس، أضاءت الأنوار الصفراء التي تضيء الشوارع ندوب وجهه، ومن ثم توقفت سيارته الثقيلة في نقطة تفتيش على الحدود الجنوبية للمدينة، ودخل المحجوب إلى كوخ من الخرسانة متوضع على حافة الطريق، سحب كرسيًا من البلاستيك، وأوضح لنا سبب توسطه في صفقة وقف إطلاق النار المحلية مع جماعة منافسة، “عندما جلسنا معهم، أدركنا بأننا كنا نقاتل لذات الغاية”، قال المحجوب.
باقي الليبيين أيضًا كان عليهم أن يذكروا أنفسهم بالسبب الذي كانوا يتشاجرون لأجله؛ فللوهلة الأولى، يظهر بأن حربهم كانت عبارة عن خلطة جنونية من المدن والقبائل والجماعات المسلحة المدفوعة بالعديد من الدوافع، كالمال والنفط والدين وتلاعب البلدان، كمصر وتركيا، التي تدعم الأطراف المتناحرة، ولكن في جوهره، يُختزل الصراع إلى عوامله البشرية، كالدوافع الشخصية والأحقاد والجشع، ومع استمرار النزاع، يتساءل الكثيرون عن تكلفته.
أشار لنا محجوب إلى عينه الزجاجية اليمنى التي استبدلت عينه الحقيقية التي خسرها جرّاء شظية قذيفة هاون في خضم القتال المندلع للإطاحة بالعقيد القذافي في عام 2011، وقبل الثورة، كان يحلم محجوب بأن يصبح طيارًا مدنيًا ويرسم الخطط للانتقال إلى كندا، “ولكنني لم أصل إلى هناك”، قال لنا بابتسامة ساخرة.
تحيط بالمدينة مشاريع البناء غير المنتهية والتي كلّفت مليارات الدولارات؛ ففي أفق طرابلس ستلحظ وجود هياكل غير منتهية لفنادق ومراكز تسوق ومجمعات السكنية، جميعها محاطة بالسقالات والرافعات التي تقف بدون حراك منذ عام 2011، بما في ذلك المسجد الذهبي الذي كلَّفت ببنائه زوجه القذافي الثانية، صفية، والتي تعيش اليوم في المنفى في عمان.
بقايا القذافي اختفت من الوجود أيضًا، حيث تم هدم مجمعه في باب العزيزية وتحول إلى كومة من الأنقاض، والصورة الوحيدة التي يمكن رؤيتها له تظهر ضمن مبنى محطة تلفزيونية فضائية كانت ممولة من قِبل أنصاره المنفيين اليوم.
ولكن يبقى السؤال الجوهري الذي تثيره الإطاحة بالقذافي، وهو السؤال الذي يبدو اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: هل يمكن لبلاد بقيت موحدة لفترة طويلة جرّاء ثروات النفط أن تعثر اليوم على سبب أفضل لتبقى موحدة؟
الوقت ينفد أمامنا لنجد الإجابة؛ فالاحتياطيات النقدية للبلاد، وهي الجائزة القيّمة التي تحارب لأجلها الفصائل في ليبيا، تستنفد ضمن السوق السوداء المزدهرة، كما عمد الصيادون إلى تحويل مراكبهم إلى ناقلات سرية لتهريب الوقود الليبي الرخيص إلى تونس ومالطا، مما تسبب بارتفاع أسعار الأسماك، والطحين الليبي الرخيص يمكن أن يُعثر عليه في مناطق بعيدة للغاية عن ليبيا، كمالي مثلا، وتحت أقواس السوق القديم، بجانب محلات المجوهرات وتجار الأقمشة، يقف رجال يرتدون النظارة الشمسية والأحذية الرياضية وهم يمسكون برزم نقدية كبيرة، مئات الآلاف من الدولارات واليورو، ليقايضوها في سوق العملات المزدهر، والذي يعد مصدر عمليات الاحتيال المتقنة والثروات الطائلة.
وافق أحد المصرفيين الليبين على تلبية دعوتي للغداء في أحد المقاهي المطلة على البحر، حيث أوضح بأن رجال الأعمال الذين يتمتعون بصلات جيدة وقادة الميليشيات يشترون الدولار من البنك المركزي الليبي بالسعر الرسمي، إما من خلال بطاقات الائتمان التي يستخدمونها لسحب المال من تركيا، أو من خلال برامج استيراد وهمية تصل فيها الناقلات فارغة إلى الميناء، ويعودون بهذه الأموال إلى ليبيا، ليبيعوا الدولار مجددًا في السوق السوداء، بثلاثة أضعاف السعر الذي ابتاعوه فيه، “إنه نوع من المال السهل” قال المصرفي، وتابع: “هذه الأموال جعلت حفنة من الأشخاص أثرياء للغاية”.
في الآونة الأخيرة، تتغير معادلات الحرب الليبية، فنادرون هم الأشخاص الذين يتصورون بأن الوضع الراهن الحساس في طرابلس قابل للديمومة والاستمرار، حيث استطاعت قوات الجنرال خليفة حفتر الاستيلاء مؤخرًا على جزء كبير من بنغازي، وفي واشنطن ولندن وباريس، يدرس القادة الغربيون احتمالات حملة عسكرية منسقة ضد الدولة الإسلامية في ليبيا.
في غضون أشهر قليلة، ستغادر قوارب المهاجرين مرة أخرى في عباب البحر، حيث ستبحر بروادها اليائسين عبر البحر الأبيض المتوسط، وبالنسبة لأوكي، حارس الكنيسة، فقد تكون تلك اللحظة أما لحظة صلاة من أجل المهاجرين، أو لحظة الانضمام إليهم في رحلتهم المحفوفة بالمخاطر.
المصدر: نيويورك تايمز