لا يستطيع أحد أن يشكك في المركزية التي حظيت بها القضية الفلسطينية في الوجدان العربي وفي بعض السياسات الرسمية العربية مما جعل القضية تكتسب زخمًا كبيرًا ومهمًا، مع أنه في كثير من الأحيان لم يكن ذلك إلا في سياق عملية خداع الشعوب والتستر على واقع عربي مشبع بالفساد والتبعية وربما بعلاقات سرية مع الاحتلال.
وبالتالي فإن التأييد السياسي للقضية الفلسطينية وتحديدًا ما بعد عام 1967 والذي كان يرّوج له على أنه سمة للأنظمة العربية قبل الربيع العربي لم يكن تأييدًا فعالاً ويتضح هذا عند فحص نتائج هذا الدعم، وتسليط الضوء على جوانبه المعتمة، وربما يفهم هذا إن كان المقصود التأييد السياسي لعملية التسوية التي أتت برغبة ومباركة أمريكية.
ولهذا فإنه عندما تتم مقارنة الواقع الحالي في علاقة بلدان الربيع العربي بالقضية الفلسطينية مع العلاقة في الماضي فإنه ليس دقيقًا الانطلاق من أن القضية كانت تحظى بتأييد سياسي فاعل من كل النظام العربي الرسمي، ثم الحديث أن هذا الدعم أو التأييد السياسي قد تحول إلى تعاطف إنساني ثم يلام على هذا التحولات والمناخ الذي أحدثه الربيع العربي وكأن الربيع حول مصر أو ليبيا إلى دول إسكندنافية.
أما عند الحديث عن فلسطين كقضية العرب الأولى فيجب التفريق هنا بين نظرة الشعوب لهذا والتي ما زالت قائمة، ونظرة الأنظمة المدعية مع وجود بعض التقاطعات والاستثناءات، وكذلك يجب الانتباه إلى مراحل تطور النظام الدولي في تلك الفترة منذ عام 1967 إلى عام 1978 ثم إلى نهاية الحرب الباردة، وما تلا ذلك وصولاً إلى عام 2011، لكي يتم إدراك دوافع كل خطوة قام بها أي نظام عربي رسمي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
وفي سياق الضعف الذي يشهده النظام العربي وعدم القدرة على تقديم أي دعم عسكري عربي للمقاومة الفلسطينية خاصة بعد كامب ديفيد فإنه للأسف قد استخدمت بعض دول النظام العربي القضية الفلسطينية كورقة ضغط من أجل كسب الرضا الأمريكي وقد تم الضغط على السلطة الفلسطينية وعلى منظمة التحرير في كثير من الأحيان من النظام العربي أكثر من الضغط القادم من جهات أخرى.
ولعل المشهد الذي نعيشه اليوم يوضح لنا هذا بشكل جلي بأن الربيع العربي جاء لطرد هذه الطغم التي تستغل شعوبها والقضية الفلسطينية وفي الموقف الأكثر وضوحًا وقبل الربيع العربي الذي يلومه البعض خطأ من وجهة نظري على أنه ساهم في تغييب القضية الفلسطينية، فقد وقفت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيفي ليفني مع وزير الخارجية المصري وفي مصر لتبشر بالحرب على قطاع غزة في عام 2008.
لقد كان واضحًا لكل ذي لب أنه كان من الطبيعي أن يتراجع زخم وحضور القضية الفلسطينية في ظل الثورات وسعي الشعوب لتحقيق مطالبها منذ أول يوم، فلكل شعب حقوقه وأولوياته ومطالبه ومن الطبيعي أن ينشغل بمعركته ضد الفساد وضد الظلم وضد تغييب العدالة الاجتماعية، وينخرط ليل نهار لنيل هذه الحقوق والحصول عليها.
أما عما تعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم خلال ثورات الربيع العربي وما قدمه من تضحيات في مواجهته مع الاحتلال والحصار والاستيطان من دمائه ومن أرضه ومن معاناته فلم يكن حقيقة كما يصور له أنه بسبب هذه الثورات بل على العكس فقد كان للربيع العربي فعلاً كاشفًا لحقيقة المواقف والاصطفافات من القضية الفلسطينية سواء لأولئك الذين نصبوا أنفسهم حماة للقومية أو أولئك الذين تشدقوا بالمقاومة.
ومن العجيب أن يرى البعض ممن ينعتون أنفسهم بالمثقفين الآن، الفترة التي انقلب عليها والتي مثلت إرادة الشعوب العربية والتي بالمناسبة رفعت أعلام فلسطين في كل ميادينها أن يراها مسؤولة عن الجمود الذي تتعرض له القضية الفلسطينية وكأن الربيع الذي كان إرادته هي التخفيف من الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني هو الذي يحاصر غزة الآن ويهدم الأنفاق التي تمدها بأبسط الاحتياجات اللازمة للحياة، وبل وكأن هشام قنديل والمرزوقي وداود أوغلو الذين قدموا إلى غزة في 2012 ليشكلوا غطاءً سياسيًا لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة هم من اقترحوا الدولة اليهودية وهم الذين رفضوا تجميد الاستيطان بل ربما هم من حرقوا الطفل محمد أبوخضير وعائلة دوابشة.
إن ما يقوم به هؤلاء من مغالطات لهو تجني واضح على إرادة الشعوب، فهم يغمضون أعينهم عن جرائم ترتكب بحق الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، ويحاولون القول بأن الشيء الطبيعي الذي أحدثه الربيع العربي من تغطية إعلامية على القضية الفلسطينية بأنه عدو للقضية وسبب لتدهورها في الوقت الذي يتماشون أو لا يقيمون أبدًا الدور الذي تلعبه الجهات المضادة للربيع العربي تجاه القضية الفلسطينية.