ترجمة وتحرير نون بوست
أحرق مقاتلو داعش 40 سيارة وشاحنة تابعة لشركة جمع القمامة في شمال سيناء، كانوا يضمرون في أذهانهم خطة معينة، حيث كانوا يسعون لوقف أعمال جمع القمامة في المنطقة، حتى يتمكنوا من استخدام أكوام القمامة لزرع القنابل.
وبعد وقت ليس بطويل من وقوع الهجوم في الشهر الماضي، اضطرت خدمة النظافة لإغلاق أبوابها وترك موظفيها، البالغ عددهم 400 موظفًا، بدون عمل.
محمد حسن، الذي كان يعمل في خدمة النظافة، كان من بين أولئك الذين فقدوا وظائفهم، حيث يتذكر حادثة اقتحام رجال مسلحين وملثمين مجمع الشركة في أحد الأيام، وطلبهم من الموظفين الجلوس بهدوء، محذرينهم من أن تحركهم سيسفر عن إطلاق النار عليهم.
“قاموا بعدها بسكب البنزين على السيارات وأضرموا النار فيها” قال حسن، علمًا بأن طلب منا استبدال اسمه الحقيقي باسم مستعار خوفًا على سلامته، وتابع موضحًا: “ومن ثمّ أطلقوا أعيرة نارية في الهواء، ولاذوا بالفرار”.
قبل بضع سنوات، كانت منطقة شمال سيناء تُعرف بالغالب كوجهة سياحية، حيث جذبت شواطئها البكر الزوار من مختلف أنحاء العالم، ولكن في السنوات الأخيرة، أصبحت ساحة لمواجهة تطرد دموية بين المقاتلين الإسلاميين المرتبطين مع داعش من جهة، والجيش المصري، الذي رد على النار بالنار، من جهة أخرى.
ضمن المدن والقرى الواقعة في شمال سيناء، دمر مقاتلو داعش معيشة السكان من أمثال حسن، ولكن تحركات الجيش المصري كانت مدمرة أيضًا على حد سواء، حيث يستذكر حسن لحظة اقتحام الجنود المصريين لمنزل شقيقه وتدميرهم لمزرعته أثناء حملة تفتيش للقبض على المتشددين الإسلاميين.
“كان يمكنهم ببساطة أن يفتشوا المنزل ويغادروا، ولكنهم بدلًا من ذلك دمروا كل شيء في المزرعة”، قال حسن، وتابع: “لماذا يصرون على تحويلنا إلى أعداء لهم؟”.
يصف سكان شمال سيناء، الذين تحدثوا إلى صحيفة باز فيد الأخبارية، كيف أضحوا ضحايا لحرب شرسة، المحاصرين ضمنها بين مطرقة الإسلاميين المتشددين من جهة وسندان الدولة المصرية من جهة أخرى؛ فاليوم، تبدو أغلبية أنحاء شبه جزيرة سيناء تحت سيطرة جماعة أنصار بيت المقدس، وهي جماعة إسلامية متشددة بزغت إلى واجهة المشهد بعد سقوط الرئيس حسني مبارك في عام 2011، ومنذ ذلك الحين، تعهدت المجموعة بالولاء لتنظيم داعش، وغيّرت اسمها ليصبح ولاية سيناء، وعلى الرغم من أن قوة المجموعة لا تبدو معروفة بشكل دقيق، إلا أنها نفذت عمليات إرهابية كبرى بنجاح في منطقة شمال سيناء.
استجابت الحكومة المصرية لتنامي نفوذ ولاية سيناء من خلال نشرها لآلاف الجنود، ولم تكشف أبدًا عن العدد الدقيق للجنود المنتشرين في المنطقة، إلا أحد كبار ضباط الجيش الذي تحدث إلى باز فيد بشرط عدم الكشف عن هويته، أخبرنا بأن نحو 2000 جندي مصري لاقوا حتفهم جرّاء الاشتباكات الجارية مع المسلحين في سيناء، وذلك منذ اعتلاء الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنصب الرئاسة، وشنه لحملة ضارية ضد الإسلاميين.
أقام الجيش المصري عبر المدن والقرى في سيناء مجموعة من نقاط وحواجز التفتيش التي تقوم بتفتيش السكان والتحقق منهم على نحو دوري ومنتظم أثناء ممارستهم الروتينية لحياتهم اليومية المعتادة.
“هذه الحواجز لا تفعل شيئًا إلا جعل حركة السكان أكثر صعوبة” قال مصطفى، وهو رجل مسن يجلس في أحد المقاهي في مدينة العريش، عاصمة شمال سيناء وأكبر مدينة ضمنها، وتابع: “قضاء مشوار عادي، والذي كان يستغرق سابقًا ساعة على الأكثر، أضحى يستغرق الآن ثلاث إلى أربع ساعات، فكل شخص يتوجب عليه الوقوف لفترة طويلة ضمن طابور الانتظار عند نقاط التفتيش، لأن الجنود يشكّون بالجميع”.
حتى عام 2013، بالكاد مورست أية عمليات عسكرية داخل العريش، حيث استهدفت الميليشيات المسلحة الحواجز العسكرية على الطرق الرئيسية فقط، ولم يكن السكان متضررون أو يهتمون بتلك الاستهدافات، ولكن بعد أن هاجم تنظيم ولاية سيناء أكبر مقر للجيش في يناير من العام الماضي مزهقًا أرواح أكثر من 35 شخصًا ومتسببًا بإصابة حوالي 80 جنديًا، كثّف الجيش المصري حملة القصف الجوي، ومنذ ذلك الحين، فرّ المقاتلون الإسلاميون من بلدتي الشيخ زويد ورفح وانتقلوا إلى العريش واستهدفوا ضمنها القوافل العسكرية، “اليوم أضحى الموت يقبع في كل زاوية” قال سعيد المتيني، الذي كان يمتلك متجرًا للألبسة في العريش ولكنه اضطر لإغلاقه بعد تنامي العنف وانتشاره.
وفقًا للسكان المحليين في شمال سيناء، الذين تحدثوا إلى باز فيد، الغالبية العظمى من المقاتلين في سيناء هم بالأصل من بلدة الشيخ زويد البدوية، التي تقع بالقرب من الحدود مع قطاع غزة، حيث يقول خالد، رجل في منتصف الأربعينات طلب استعمال اسم مستعار استعاضة عن اسمه الحقيقي لأن لديه العديد من الأقارب يقاتلون لصالح ولاية سيناء، بأن القرى المحيطة بالشيخ زويد أصبحت ساحة المعركة الرئيسية بين الجيش والإسلاميين.
“القوى الإسلامية هي أقوى وأكثر بروزًا في الأجزاء الجنوبية من الشيخ زويد” قال خالد، وتابع: “من الصعب على الجيش أن يدخل تلك القرى بآلياته الثقيلة، وعليه يلجأ عوضًا عن ذلك إلى الغارات الجوية والقصف”.
قرية اللفيتات، وهي قرية صغيرة في الجانب الجنوبي من الشيخ زويد، كانت غير مرة تنبض بالحياة من خلال بساتين الزيتون اليانعة الخضراء ومزارع الأغنام، ولكن من السهل أن نستوعب لماذا يصفها خالد اليوم باسم ساحة المعركة، حيث تحولت القرية إلى أطلال، وترك القصف المتكرر أثاره الغائرة عميقًا في جدرانها، وانعدمت علامات الحياة فيها تقريبًا.
أحد زعماء القرية، وهو رجل طويل القامة في أواخر الخمسينات، وافق على التحدث إلى باز فيد شرط عدم الكشف عن اسمه وأسماء القرويين الآخرين لأنه يخشى انتقام الجيش، حيث أشار لنا بأنه سيرتب لنا لقاءًا مع رجال الميليشيات المحليين الذين قاتلوا لصالح ولاية سيناء.
وحتى حلول موعد اللقاء مع المليشيات، رسم لنا الزعيم صورة قاتمة عن القرية، حيث أشار إلى أن قذائف الجيش تستهدف القرية بأكملها بدلًا من استهداف أماكن محددة، لأن الميليشيات يسيطرون على القرية، ويجوب مسلحوها الشوارع بدوريات منتظمة، “غالبًا ما يأتي رجال الميليشيات إلى بيوتنا ويطلبون منا إخفاء أو تخزين أسلحتهم، وإذا رفضنا يقتلوننا، أما إذا وافقنا، فإن الجيش سيكتشف ذلك في النهاية وإما سيعتقلنا أوسيقصف منازلنا” قال الزعيم، وتابع: “الموت هو الشيء الوحيد الذي يراه أطفالنا هنا”.
وصف قروي آخر، وهو مزارع محلي، كيف فقد ابنه البالغ من العمر 12 عامًا بعد قصف الجيش لمنزله أثناء وجود طفليه في الداخل، “كانت الساعة حوالي العاشرة مساءًا، ولم يكن يوجد أي شبكة للهاتف الخليوي لاستدعاء سيارة إسعاف أو أي شخص لإنقاذ أطفالي”، يتذكر المزارع، ويضيف: “لذا اضطررت لأحملهم في سيارة عائدة لأحد الجيران وانطلقت بهم نحو الشيخ زويد، وحينها أطلق الجنود عند نقطة التفتيش النار علينا، وقالوا لنا بأنهم لن يسمحوا لنا بالمرور حتى حلول الفجر”.
يشير المزارع، بأنه بعد توسلاته العديدة، سمح له الجنود بالعبور بالسيارة، وأضاف بأنه حاول الاتصال بأحد المستشفيات لإرسال سيارة إسعاف ولكن لم يجب أحد على الهاتف، وبحلول الوقت الذي وصل فيه الى المستشفى، كان نجله الأصغر قد توفي جرّاء الإصابة، “لم يكن ابني إرهابيًا، وبالتأكيد لم يكن جنديًا مسلحًا” قال المزارع، وأضاف: “إنه قُتل لأن شخصًا ما قرر بأن بيتي هو ساحة حرب ضمن هذه المعركة الملعونة”.
بعد أن مشينا لمسافة تبلغ نحو ميل داخل الصحراء، شاهدنا رجلين يغطيان وجهيهما بالأوشحة ويقفان بجانب كوخ، وهو المكان الذي رتب لنا ضمنه زعيم القرية اللقاء مع رجال الميليشيات؛ أحد هذين الرجلين كان شابًا، وفق ما يبدو، ويعلق على كتفه بندقية الكلاشينكوف الروسية AK-47، أما الآخر، والذي عرّف عن نفسه باسم أبو منصور، فبدا أكبر بالسن قليلاً ولم يكن مسلحًا، “جميعنا رجال البغدادي” قال أبو منصور، في إشارة إلى أبو بكر البغدادي، زعيم داعش.
أوضح لنا منصور بأن أعضاء ولاية سيناء يتواصلون بشكل منتظم مع التنظيم الأب، داعش، حيث أعلنت الجماعة مرارًا مسؤوليتها عن هجمات القنابل واستهدافات الجيش المصري منذ بدء المواجهة في سيناء، وفي الآونة الأخيرة، أعلنت الجماعة أنها كانت وراء إسقاط طائرة الميتروجيت الروسية، وهي العملية التي أسفرت عن مقتل 224 شخصًا.
منذ انتقالهم إلى العريش من الشيخ زويد، طفقت تقارير تشير إلى قيام مقاتلي ولاية سيناء باستهداف وقتل السكان المحليين بتهم التجسس لصالح الجيش، فضلًا عن تنفيذ عمليات في المناطق المدنية، ولكن منصور تنصل من هذه التقارير، واتهم الشرطة والجيش بمحاولة دق إسفين بين الشعب ومقاتلي التنظيم.
“سيُهزم جيش الكفار بالتأكيد”، قال منصور، في إشارة إلى الجيش المصري في عهد الرئيس السيسي، وتابع موضحًا بأن مقاتلي مجموعته يعرفون المنطقة جيدًا، ويتمتعون بالثقة والإيمان، وهي الأمور التي يعوزها الجنود المصريون، وهذا من شأنه أن يكفل انتصارهم على الجيش، وفق ما أوضح، علمًا بأنه رفض التعليق على “الانتصارات” المزعومة للجيش المصري على داعش، ولكنه اعترف بأن بعض أصدقائه نالوا شرف الشهادة في خضم الحرب مع الجيش، وفق تعبيره.
أخيرًا، أعلنت الحكومة المصرية في وقت سابق من الشهر الماضي بأنها ستمنع المصريين الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا من دخول شمال سيناء، وذلك بعد فتح أنصار بيت المقدس أبواب تجنيد المقاتلين من الخارج، ولكن منصور أشار بأن هذا القرار لن يوقف الجماعة، وأضاف: “نحن سنذهب إليهم”.
المصدر: باز فيد