بينما بدت تركيا في مأزق مؤخرًا بسبب خسارة حلفائها على الأرض في سوريا أمام تقدم قوات الأسد بفعل الدعم الروسي الجوي والإيراني على الأرض، ودخولهم إلى شمال حلب بشكل غير مسبوق منذ بداية الحرب، ومن ثم إعلان وقف إطلاق النار ليتنفس الجميع الصعداء، وينعم المتقدمون من أنصار النظام في نفس الوقت بحماية مكتسباتهم كيلا تضيع مجددًا في معارك جديدة، يبدو وأن القصف الروسي العنيف وإن لم يعجب أنقرة قد أفادها من ناحية أخرى نتيجة الضغوط التي شكلها على أوروبا.
بكل بساطة، وبينما تكثف القصف الروسي على حلب قبل وقف إطلاق النار مباشرة، بدأ سيل جديد من النازحين السوريين الفارين من نيران الحرب إلى تركيا ومنها إلى شواطئ اليونان أملًا في الوصول لأوروبا، وهو ما وضع ضغوطًا جديدة على الاتحاد الأوروبي أضعفت من موقفه مجددًا بوجه تركيا، التي تملك المفتاح الرئيسي في حل أزمة اللاجئين، وهو ما استتبع بالطبع رفع سقف المطالب التركية مقابل مساعدة الأتراك لأوروبا، أكثر بكثير من السقف المتفق عليه في نوفمبر الماضي، حين وافق الاتحاد الأوروبي على منح ثلاثة مليارات يورو لتركيا لمساعدتها في الإنفاق على اللاجئين، ومنح أصحاب الجنسية التركية دخولًا بدون تأشيرة لمنطقة الشنجن في نوفمبر 2016.
بكل ثقة، أذهل داوود أوغلو من استقبلوه من ساسة أوروبا باقتراح جديد كفيل بقطع الشوط الأكبر لحل الأزمة، وهو موافقة أنقرة على إعادة كافة اللاجئين غير الشرعيين القادمين عبر شواطئ اليونان إلى تركيا، في حين تقوم أوروبا بتوطين لاجئ واحد من الموجودين في المخيمات التركية داخل الاتحاد الأوروبي مقابل كل لاجئ غير شرعي تستقبله تركيا من شواطئ أوروبا، وهو ما يعني ببساطة ضرب تجارة المهربين عبر البحر إذ أن الطريق للهجرة إلى أوروبا سيكون الآن عبر مخيمات تركيا فقط وبشكل شرعي قيد الاتفاق بين الطرفين، أما طريق البحر فسيصبح مؤديًا ببساطة إلى المخيمات مجددًا لا غير بموجب الاتفاق الجديد.
القمة التركية الأوروبية في بروكسل بالأمس
“إنه اتفاق يغير الحسابات بالكلية،” هكذا قال رئيس المفوضية الأوروبية جيان كلود يانكر، و”خطوة كبرى لحل أكبر أزمة مهاجرين منذ الحرب العالمية الثانية،” كما قال دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي، والذي أبدى تفاؤلًا بالاتفاق أكثر من غيره معتبرًا إياه بداية النهاية لطرق الهجرة عبر اليونان وغرب البلقان.
اقتراح راديكالي بطبيعة الحال رحب به الجميع، ولربما لم تتصور أوروبا أن تطرحه تركيا بتلك السهولة، لكن الثمن في المقابل كان رفع السقف أكثر عما كان في نوفمبر، فقد طلبت تركيا في قمة الأمس مضاعفة المبلغ المقدم لها ليكون ستة مليارات يورو بدلًا من ثلاثة فقط، وتسريع تطبيق اتفاق إلغاء التأشيرة للمواطنين الأتراك ليبدأ في موعد أقصاه الثلاثين من يونيو المُقبل، وهو انتصار سياسي كبير بالطبع سيرفع من أرصدة الحزب الحاكم في تركيا.
في ظل الانتصار الدبلوماسي الذي حققه داوود أوغلو، والذي يشمل فتح خمسة فصول جديدة بخصوص انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، كان الرئيس رجب طيب أردوغان هو الحاضر الغائب، والذي لربما اختار توقيتًا مُحرجًا لأوروبا للاستحواذ على جريدة زمان ووكالة جيهان للأنباء، التابعتين لحركة كولن المحافظة في فصل جديد من فصول الصراع بينها وبين الحزب الحاكم، وزمان لمن لا يعرف هي أكبر جريدة تركيا، ووصلت لموقعها هذا عبر سنوات تحالف الحركة مع الحزب وانحيازها له، قبل أن تنقلب الحركة على أردوغان في 2013.
الشرطة التركية داخل مقر صحيفة زمان التركية قبل أيام
“أردوغان يرفع إصبعه الوسطى لأوروبا،” هكذا قال أحد المحللين، معتبرًا أن التوقيت متعمد قبيل قمة اللاجئين، وأن أردوغان ببساطة يحاول إرسال رسالة مفادها أن أحدًا لا يمكنه إيقافه، وأنه ماضي في نهجه السياسي الجديد، وأن كافة الأطراف إما أنها لا تمتلك مصلحة أصلًا في التدخل لصالح “الديمقراطية والحريات” داخل تركيا، مثل الروس والإيرانيين، لأنهم يمتلكون رصيدًا أسوأ في الحقيقة، وإما لا تمتلك القوة الكافية لفعل ذلك إن أرادت كالاتحاد الأوروبي، والذي يحتاج إلى تركيا أكثر من أي وقت مضى بشكل دفع ساسته بالأمس إلى الاتفاق مع تركيا، وإضافة بند عن حرية الإعلام في البيان النهائي لإنقاذ ماء وجهه باعتباره ملزمًا برعاية الحريات لا أكثر، وهي كلمات يعرف الجميع أنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
في نهاية المطاف سيحصل أردوغان على اتفاق يرفع رصيده السياسي في الداخل، وسيتخلص من أكبر جريدة معارضة وأكبر وكالة أنباء معارضة له، وستدفع له أوروبا ستة مليارات يورو (6.6 مليارات دولار) لرعاية اللاجئين الذين قاربوا على الثلاثة ملايين، وهي ثلاثة ملايين تعهدت تركيا سابقًا بمنحها حق العمل، لا سيما وأنها ستُثري بالفعل الاقتصاد التركي النامي، وهو ما يعني حقها في الجنسية التركية بعد خمس سنوات وفق القانون التركي، ولا نحتاج للتفكير كثيرًا في الطرف الذي ستذهب له أصوات هذه الملايين الجديدة من بين الأحزاب التركية بعد حصولها على الجنسية ودخولها منطقة الشنجن بموجب جوازها التركي دون تأشيرة، بعد أن كادت تموت غرقًا يومًا ما في سبيل الوصول لسواحل اليونان فقط.
***
في النهاية، هل من عقبات لتنفيذ الاتفاق بالفعل، كما أوحت الكلمات الحذرة للمستشارة أنغلا مركل في نهاية القمة، والتي قالت أنه اتفاق ممتاز إذا سنح له التطبيق؟ تبدو العقبة الرئيسي هي كيفية تنفيذ إعادة اللاجئين من شواطئ أوروبا إلى تركيا فعليًا، ماذا لو رفض اللاجئون العودة لتركيا؟ هل سيتم إجبارهم قسرًا على العودة؟ هل سيتم استخدام العنف معهم لتحقيق الاتفاق؟ لعل مخاوف كهذه هي التي دفعت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أن تعتبر اتفاق الأمس حلًا متسرعًا، أضف لذلك أن أساليب مهربي اللاجئين عادة ما تتغير لتحقيق غرضها، فتجارة هؤلاء الآن تقوم على ملايين الدولارات وآلاف يدفعها اللاجئون، هو ما يعني فقدان المهربين لكل رأس مالهم إن أدرك اللاجئون أنه لا فائدة من استخدام المركب للاتجاه لأوروبا.
هل سيقبل اللاجئون بالعودة بعد تلك الرحلة الطويلة إلى الأراضي التركية؟
في كل الأحوال، يبقى أن ننتظر أيامًا قليلة ليتم إقرار بنود الاتفاق العامة هذه بالتفصيل في قمة جديدة في 17 مارس المقبل، وسيبقى أن نرى كيف سيتم تطبيقه، وهل سينجح الحزب الحاكم في تركيا في اقتناص انتصار دخول مواطنيه تركيا إلى الشنجن في النهاية، أم أن أية تعقيدات ستنشأ مجددًا في وضع اللاجئين ستدفع أوروبا إلى التراجع عما قدمته للأتراك بالأمس.
أين اللاجئين من كل ذلك؟ هُم في النهاية مجرد ورقة بالنسبة لكل هؤلاء، بدءًا من أردوغان وحتى ساسة أوروبا “الحريصين على الحريات،” فالكُل هنا حريص في الحقيقة على توطيد أركان حكمه داخل بلاده، سواء أكانت ديمقراطية وحرة بالكامل أم لا، بدءًا من ميركل التي تريد تخفيف وطأة مسألة المهاجرين، والتي تهدد حزبها بشكل كبير داخل ألمانيا، وحتى أردوغان، الذي حتى وإن اتخذ خطابه بُعدا أخلاقيا، إلا أنه يبقى السياسي الراغب في منح المزيد من الإنجازات لشعبه بعد أن ثبت في يونيو الماضي أن إنجازات السنوات العشر الماضية لم تعد كافية لاستمرار صعود أسهم حزبه الشعبية.