اقتحمت الشرطة التركية الجمعة الماضية مبنى صحيفة “زمان” التركية المعارضة، وذلك تنفيذًا لأمر قضائي بوضعها تحت الوصاية القضائية على خلفية ارتباطها بما تُطلق عليه السلطات التركية “الكيان الموازي” الذي وضع قبل ذلك على قوائم الإرهاب.
الدعوة القضائية لإغلاق الصحيفة جاءت بناءً على طلب من المدعي العام التركي الذي طالب بإغلاق المؤسسة التي تصدر عنها الصحيفة بعدما ساق أدلة تفيد بارتباطها بالكيان الموازي المصنف كمجموعة إرهابية.
حيث أشار المدعي العام التركي في بيان له أن مطبوعات الشركة المالكة للصحيفة تستخدم في دعم ما وصفه بـ “الإرهاب” وتمويله، وكذلك اتهمها بالتنسيق مع منظمة حزب العمال الكردستاني المصنفة “إرهابية” أيضًا، وذلك من أجل العمل على الإطاحة بالحكومة.
الشرطة التركية اضطرت لاقتحام مبني الصحيفة وسط تجمع العاملين الرافضين لقرار فرض الوصاية بعد عدم تمكن الوصاية القضائية من الدخول إلى مقر الصحيفة في بادئ الأمر، وهو ما تعاملت معه قوات الشرطة باستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المحتجين خارج المبنى، وقد تمكن بالفعل ثلاثة محامين أوصياء يتمتعون بكافة صلاحيات مجلس إدارة الصحيفة من الدخول إلى المبنى لتسيير شؤونها.
هذه الأزمة مع صحيفة “زمان” تأتي على خلفية أزمة سياسية أكبر بين جماعة كولن التابعة للداعية ورجل الأعمال التركي فتح الله كولن (مقيم بالولايات المتحدة) وبين الحكومة الحالية، وجماعة كولن التي تُطلق عليها السلطات التركية اسم “الكيان الموازي” وتصنفها كمجموعة إرهابية متهمة بمحاولة التغلغل في مؤسسات الدولة وتدبير انقلاب على النظام، وقد اشتدت حدة المواجهات بين الجماعة والحكومة التركية منذ العام 2013 بعد ما عُرف بفضيحة الفساد المسربة لأعضاء في الحزب الحاكم “العدالة والتنمية”، وقد سبق وأن دخل الطرفان في تحالف سياسي قبل تصاعد التوتر بينهما.
لم تمر أيام على الاجراءات المتخذة ضد صحيفة زمان حتى كررتها السلطات التركية مع وكالة “جيهان” للأنباء، حيث أصدرت الوكالة بيانًا تؤكد فيه أن السلطات التركية فرضت الوصاية القضائية عليها هي الأخرى، وذلك في خطوة توسع من نطاق الحملة على مؤيدي جماعة كولن لا سيما في المؤسسات الصحفية، حيث يُذكر أنه في بداية الشهر الحالي أغلقت السلطات وكالات إعلام صودرت العام الماضي من شركة “كوزا إيبيك” القابضة وهي مجموعة مرتبطة بكولن أيضًا.
ردود أفعال غربية
أثارت خطوات فرض الوصاية على صحيفة زمان المعارضة – إحدى الصحف الأوسع انتشارًا في تركيا حيث يقدر توزيعها بنحو 650 ألف نسخة يوميًا – ردود أفعال غربية سلبية تجاه الحكومة التركية، حيث قال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في القمة الأوروبية المنعقدة بحضور تركيا، إن الاتحاد الأوروبي يجب أن ينتبه لحرية الصحافة في تركيا برغم حاجته لتعاون أنقرة لوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
وأضاف هولاند أثناء حضوره اجتماع عاجل للاتحاد الأوروبي مع رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو متعلق بأزمة اللاجئين، عندما وجه له سؤال يتعلق بتولي السلطات التركية إدارة صحيفة “زمان” اليومية قوله: “التعاون مع تركيا لا يعني ألا نكون منتبهين بشدة لحرية الصحافة هناك.،وأنا منتبه”.
فيما نددت واشنطن بفرض الحراسة القضائية على الصحيفة المعارضة، ودعت تركيا إلى احترام حرية الصحافة والقيم الديمقراطية، ومن جانب اتحاد الصحافيين الأوربيين فقد أكد في بيان رسمي له: أنه “لا يمكن أن يبقى الاتحاد الأوروبي صامتًا على المصادرة السياسية لصحيفة زمان ووكالة جيهان للأنباء“.
بينما رد رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو على هذه الانتقادات بقوله: “العملية هي إجراء قانوني تمامًا، ويجب ألا يكون هناك شكوك حول حرية الصحافة في تركيا، لكن علينا أن نميز بين النشاط الصحفي، والأنشطة الأخرى المنفذة تحت غطاء صحفي”.
صحيفة زمان تعتزم مواصلة نشاطها بشكل جديد
هذا واعتزمت الصحيفة مواصلة الصدور كصحيفة يومية معارضة، في ألمانيا، بعد إغلاقها من قبل السلطات التركية، واقتحام مقرها في أنقرة والسيطرة عليه، وقد صرح سليمان باج، رئيس تحرير صحيفة “زمان ألمانيا”، أنه “اعتبارًا من اليوم سنصدر طبعة من زمان لا علاقة لها بزمان (في تركيا) لأن الحكومة سيطرت عليها بالقوة.”
وأضاف باج: “سنطبع صحيفة مستقلة.،لم نتطرق بعد لمسألة كيف سنقوم بذلك’ هذا تحد جديد لنا”.
المطبوعة الأصلية صدرت ولكن بشكل موالٍ للنظام
ما يُثير الشكوك حول أمر مصادرة الصحفية لأسباب قضائية من عدمه، هو تحول سياسة الصحيفة تمامًا من المعارضة إلى موالاة الحكومة بشكل فج بعد الوصاية القضائية، وهو ما يعطي رسالة أن النظام يقف خلف هذه الخطوة لأسباب سياسية وليس لأبعاد قضائية كما صرح رئيس الوزراء.
حيث صدرت طبعة جديدة من صحيفة زمان تتضمن مواد موالية للحكومة بعد يومين من وضع السلطات التركية يدها عليها، إذ نُشر في طبعة الجريدة الموالية للحكومة صورة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرافقها عنوان “فرح تاريخي بشأن الجسر”، وجاء في الافتتاحية أن أردوغان سيدشن آخر جزء من الجسر الثالث على البوسفور والذي يوشك أن يجهز.
أزمة متعلقة بحريات الصحافة أم صراع سياسي؟
للوقوف حول خلفيات أكثر حول أزمة صحيفة زمان تواصل نون بوست مع الدكتور سعيد الحاج الباحث في الشؤون التركية لمحاولة فهم أبعاد القضية، وإذا ما كانت متعلقة بالصراع بين جماعة كولن والنظام أم صراع للنظام مع حرية الصحافة بشكل عام، وقد أكد الحاج في تصريحاته أن السياق العام لفرض وصاية على بعض الشركات، والتي يكون من ضمن أعمالها وسائل إعلام – قرارات قضائية متعلقة إما بفشل هذه المؤسسات في القيام بعملها (مثل بعض المصارف) أو بسبب اتهامها بمخالفات جنائية أو دستورية معينة، وهذا هو حال صحيفة “زمان” التي تم وضع اليد عليها أو وضعها تحت الوصاية من ضمن مؤسسات أخرى تابعة لشركة بويداق (Boydak Holding) لاتهامها بدعم “منظمة إرهابية” خارجة على القانون، والمقصود هنا القيادة المتنفذة لجماعة فتح الله كولن التي اتهمت بترتيب “انقلاب قضائي” على الحكومة من خلال تغلغلها في مؤسسات الدولة المختلفة.
مضيفًا أنه لا تعامل كل الصحف المعارضة في تركيا بهذه المعاملة، بل إن الصحف المعارضة هي الأكثر عددًا والأعلى صوتًا في تركيا، وصحيح أن حالة حرية الإعلام ليست مثالية في تركيا، وأن بعض القيادات السياسية يضيقون ذرعًا أحيانًا كثيرة ببعض الإعلاميين ووسائل الإعلام، لكن “الاستهداف” أو المصادرة ليست سياسة متبعة مع من يعارض بشكل عام.
ويرى الدكتور سعيد الحاج مسألة ردود الأفعال العالمية، ومسألة تصنيف تركيا المتأخر في مؤشرات حرية الصحافة أنها محقة في جزء منها، ولكن في نفس الوقت فإنه يرى أن جزءًا كبيرًا من هذه الردود متحيزة، ليس فقط بتضخيم بعض الأخطاء والتجاوزات في تركيا (واختلاق بعضها الآخر) على حد وصفه، ولكن أيضًا عبر تجاهل الانتهاكات في دول أخرى والتركيز على تركيا تحديدًا.
وهذا أيضًا له أسبابه التي يراها الحاج أن من ضمنها الضغط على تركيا بسبب مواقفها السياسية، وأيضًا بسبب تقدمها بطلب عضوية للاتحاد الأوروبي مما يبرر ربما التركيز على أدائها ومحاسبتها وفق معايير مختلفة عن معايير بعض دول العالم الثالث.
كما وصّف الدكتور سعيد الحاج لنون بوست التعامل مع الملف الإعلامي بشكل عام من قبل النظام التركي، مؤكدًا أن جزءًا من هذا التعامل متعلق بتوصيف المواجهة مع جماعة كولن تحديدًا باعتبارها تهديدًا للدولة وتصنيفها كمنظمة إرهابية، فضلاً عن الدستور التركي (العسكري المعمول به منذ 1982) وما يتفرع عنه من قوانين تقدم تفسيرًا فضفاضًا للإرهاب ودعمه والترويج له بحسب وصفه، ضاربًا مثلًا بحالة الصحافييْن في صحيفة جمهوريت اللذيْن يُحاكمان بتهمة إفشاء أسرار عسكرية وتعريض أمن البلاد للخطر.
من ناحية أخرى يُضيف الحاج أنه ، من الصعب الجزم بأن كل ما يحصل من انتهاكات أو تعامل خشن مصدره قرار سياسي مركزي من الحكومة، بل قد يكون تصرفًا أمنيًا مستقلًا من المؤسسة الشرطية (رغم عدم خلو الأمر من مسؤولية الحكومة في المتابعة والمحاسبة)، وقد ظهر في بعض الأحيان أن بعض هذه التصرفات المبالغ فيها كانت مقصودة في بعض الأحداث لإحراج الحكومة وإظهارها بمظهر المعادي للحريات والصحافة.
واختتم الحاج تعليقه على الأزمة بقوله: “في اللحظة الحالية، تبدو الحكومة التركية في معركة حامية الوطيس داخليًا في مواجهة ما أسماه “الإرهاب” بما يشمل المواجهة مع حزب العمال الكردستاني و”الكيان الموازي” والمنظمات اليسارية المتطرفة، ولا تبدو الحكومة –من وجهة نظره- مكترثة بالمواقف الأوروبية والدولية التي يمكن أن تنتقدها أو تضغط عليها، ربما لأولوية وخطورة هذا الملف، وربما لإدراك أنقرة حاجة القارة الأوروبية لها حاليًا، وهو ما يفسر ردة الفعل الأوروبية الباهتة إزاء الملف، وربما للسببين معًا وأسباب أخرى غيرهما”.
أوضاع الصحافة في تركيا بعيدًا عن أزمة صحيفة زمان
ترى منظمات حقوقية دولية وعلى رأسها منظمة هيومن رايتس ووتش أن حالة حرية الصحافة في تركيا شهدت تراجعًا كبيرًا في تركيا بعدما كانت تشهد البلاد طفرة متقدمة في أوضاع حقوق الإنسان بشكل عام.
كما تندد المنظمات المهتمة بحرية الصحافة بالتعامل الحكومي مع ملف الصحافة في تركيا، مثل لجنة حماية الصحفيين بنيويورك، ومنظمة مراسلون بلا حدود بباريس، اللتين أصدرتا تقاريرًا تزعم أن تركيا سجنت من الصحفيين أكثر من أولئك الذين سجنتهم إيران والصين.
وكانت لجنة حماية الصحفيين قد أصدرت تقريرًا خاصًا بتركيا في العام 2012، ذكرت فيه أن 76 صحفيًا يقبعون في السجون التركية، بما في ذلك 61 منهم سُجِنوا بسبب عملهم الصحفي، وهو عدد كبير للغاية شكل صدمة لدى مراقبي الحريات الصحفية.
ومع ذلك تحاول الحكومة التركية على مدار السنوات الماضية تحسين صورتها في هذا المجال المتعلق بانضمامها للاتحاد الأوروبي الذي يشترط التقدم في مجال حقوق الإنسان بشكل عام لقبول تركيا في عضوية الاتحاد.
ووفق ترتيب منظمة “مراسلون بلا حدود” تحتل تركيا المرتبة الـ 149 من 180 دولة في مجال حرية الصحافة، وهو ما يجعل المعارضة التركية ومنظمات حقوقية غير حكومية تبدي قلقها إزاء وضع حرية الصحافة بالبلاد بشكل عام بعيدًا عن أزمة النظام الحالي مع جماعة كولن.