لا يوجد حكومة عربية أو أجنبية تحب اللون الأحمر أو الرقم السالب أن يظهر في ميزانيتها، فالسالب يعني عجزًا ماليًا ويتطلب تغيير السياسة الاقتصادية التي تتبعها الحكومة. وفرض التقشف لمواجهة العجز سياسة منبوذة من الشعب لما تخلفه من آثار اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق، لذلك تقع الحكومة حبيسة أخطاء ارتكبتها في الماضي ولم تعالجها وقتها، لتظهر أخيرًا بعد فوات الأوان، فكم من ناصح لها بتنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد المطلق على إيرادات الطاقة واتباع سياسة ترشيد الإستهلاك وفرض الضرائب على السلع والخدمات، ولكن وقت الرخاء والفائض يطبق عليهم المثل القائل “أذن من عجين وأذن من طين”.
والعجز بعد أن جاء على دول الخليج العربي دق باب الجزائر في الموازنة التي أقرت في نهاية العام الماضي حيث تهاوت إيراداتها من النفط والغاز بنحو 41% في عام 2015 عن العام الذي قبله بسبب هبوط أسعار النفط العالمية إلى دون 30 دولار للبرميل وفقًا لأرقام صادرة عن وزارة المالية الجزائرية. وقد تسبب هذا التراجع بعجز تجاري بلغ نحو 13.71 مليار دولار حيث بلغت إيرادات الطاقة 35.72 مليار في عام 2015 انخفاضًا عن 60.3 مليار دولار في عام 2014 حسب الوزارة.
وأدى ذلك إلى انخفاض في خزينة العملة الصعبة من 195 مليار دولار نهاية 2013 إلى 152.7 مليار دولار في 2015 حسب الإحصائيات الرسمية، كما بات رصيد صندوق “ضبط الإيرادات” مهددًا بالنضوب في حدود سنة واحدة بدلًا من سنتين حسب توقعات صندوق النقد الدولي سابقًا.
والجدير بالذكر أن هيكلية الموازنة الجزائرية تحتوي على خلل كبير حيث تشكل صادرات النفط والغاز 60% من الميزانية الحكومية و97% من إجمالي الصادرات، ما يجعلها مكشوفًة عالميًا ومرتهنة بالأسواق العالمية صعودًا وهبوطًا.
استفادت الجزائر في الأعوام الماضية من مراكمة الفوائض المالية في صندوق ” ضبط الإيرادات” وهو صندوق سيادي ممول من عائدات النفط والغاز، ودين خارجي منخفض كما عمدت إلى دفع فاتورة الواردات وتهدئة المشاكل الاجتماعية التي كانت تبرز بين الفينة والأخرى من خلال زيادة أجور موظفي الحكومة ودعم كل شيء تقريبًا من غذاء ووقود وإسكان ورعاية صحية وغيرها، ولكن بعد يونيو /حزيران 2014 بات الأمر مختلف فهبوط أسعار النفط عالميًا عن مسوياتها العليا حال دون استمرار سياسة الحكومة التوسعية.
فوافق البرلمان في نهاية العام الماضي على إقرار موازنة تقشفية وقالت وزارة المالية ” إن قيمة إجمالي الصادرات هبطت بنحو 40% إلى 37.78 مليار دولار بينما تراجعت الواردات 12% إلى 51.501 مليار دولار ليبلغ العجز التجاري 13.71 مليار دولار مقابل فائض 4.306 مليار دولار في عام 2014.
ومن أجل سداد ذلك العجز تمتلك الحكومة عدة أدوات من بينها الاستدانة من الخارج من صندوق النقد الدولي أو مؤسسات مالية دولية، أو إصدار سندات دين داخلية أو السحب من صندوق “ضبط الإيرادات” أو تعمد الحكومة إلى التقشف ورفع الضرائب وفرض ضرائب جديدة على السلع والخدمات.
وابتداًء من بداية أبريل /نيسان ستصدّر الحكومة سندات دين داخلي لتعويض العجز الذي خلّفه تراجع أسعار النفط، بنسبة فوائد تعادل 5% بحسب رئيس الوزراء “عبد المالك سلال” لتشجيع رجال الأعمال والمصارف على شراء السندات. علمًا أن نسبة التضخم في الجزائر تبلغ 4.8% ونسبة الفائدة في المصارف تتراوح بين 2.5 – 3%، ويتوقع أن تجذب السندات ما يقرب من 37 مليار دولار من السوق السوداء بحسب خبراء اقتصاديين في الجزائر.
بينما الحكومة وعلى لسان وزير المالية الجزائري “عبد الرحمن بن خالفة” قال في تصريحات صحافية أن “الحكومة أخفقت في جذب 40 مليار دولار من السوق الموازية بعد إطلاقها لمصالحة ضريبية منتصف السنة الماضية”.
ويأتي مع إصدار السندات تبني الحكومة سياسة ترشيد الإنفاق العام وتجميد عدد من المشاريع الكبرى مع محاولة الحكومة أيضًا تقليص الواردات قدر المستطاع في إطار كبح الإنفاق، ووافق البرلمان بالفعل على خفض الإنفاق بنحو 9% وأقر زيادات في الأسعار المدعّمة للبنزين وزيت الديزل والغاز والكهرباء، وهي المرة الأولى منذ عشر سنوات، وتتوقع الحكومة أن تصل إيرادات الطاقة 26.4 مليار دولار لهذا العام وهو ما يدفع احتياطات النقد الأجنبي للتراجع إلى 121 مليار دولار.
كما كشفت الجزائر أخيرًا عن نيتها التوجه نحو استغلال الثروة الغازية والطاقات المتجددة إلى أبعد حد ممكن، وكان الرئيس الجزائري “عبد العزيز بوتفليقة ” أعطى تعلميات لتكثيف التنقيب عن موارد الغاز الطبيعي وطالب بضرورة جعل برنامج الطاقات المتجددة أولوية وطنية بالنسبة لمستقبل الاقتصاد الوطني من أجل ضمان استقلال الطاقة للجزائر والتحرر من الاعتماد على النفط.
حيث تمتلك الجزائر احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي حسبما تشير البيانات الرسمية إلى بلوغ الاحتياطيات المؤكدة 4.7 ترليون متر مكعب من الغاز أي بما يعادل 3% من أجمالي الاحتياطي العالمي للغاز.
ويشير خبراء أن استهلاك الغاز الطبيعي على المستوى المحلي مرتفع جدًا و”غير متوازن مع الثروة التي يخلقها الاقتصاد الجزائري”، وتسعى الحكومة الجزائرية الى تحقيق اقتصاد في استهلاك الغاز والنفط بحدود 42 مليار دولار بغضون 2030 مع خفض استهلاكهما بنحو 9%.
وفي سبيل تحقيق هذه الخطة أطلقت الحكومة مرة أخرى البرنامج الوطني لتطوير الطاقات المتجددة الذي تم اعتماده في مجلس الوزراء المنعقد في مايو أيار 2015 والهادف إلى إنتاج كهرباء من مصادر متجددة لاسيما الطاقة الشمسية والرياح بمعدل سنوي قدره 22 ألف ميغاوات بغضون عام 2030 منها 10 آلاف ميغا وات موجهة للتصدير. ويمثل ذلك ما يقارب 27% من حجم الإنتاج الإجمالي للكهرباء المتوقع في 2030.
سيستفيد من هذا البرنامج خلال الخمسة عشرة سنة المقبلة 100 ألف مسكن سنويًا من ألواح شمسية وتحويل مليون سيارة و 20 ألف حافلة إلى استهلاك الغاز الطبيعي المسال عوضا عن الوقود وهو ما يسمح بخلق 180 ألف فرصة عمل حسب المؤشرات التي وضعتها الحكومة الجزائرية.
علمًا أن الجزائر رفضت في السنة الماضية مشروع “ديزيرتيك” الأوروبي الذي يهدف إلى إنتاج الكهرباء بواسطة الطاقة الشمسية في المناطق الصحراوية الجزائرية.