يتحدث أكثر من 290 مليون شخص اللغة العربية حول العالم، لكن هل يمكن الزعم أنهم جميعًا يتحدثون ذات اللغة؟
الإجابة على السؤال السابق قد تكون صعبة بعض الشيء، فاللغة العربية تضم أكثر من 34 لهجة محلية، هذه اللهجات هي اللهجات الأكثر عمومية والتي لا تضم النسخ المحلية المختلفة، كالفارق بين لهجات سكان الدلتا والصحارى في مصر، أو الفارق بين لهجات سكان جدة والرياض في السعودية على سبيل المثال.
يمكن تقسيم اللهجات العربية إلى سبع أسر من اللهجات بشكل عام، هذه الأسر هي: “المغاربي، السوداني، المصري، الأعرابي، الرافدين، الشامي، الأندلسي”.
يتضح من السابق أن التقسمة مبنية على الفوارق الجغرافية بشكل أساسي، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا من هذا قليلًا، فالتقسمة تنبني على ما هو أكثر من ذلك، كالطبيعة المحلية والثقافة التي تحكم قواعد الاشتقاق والمعنى في المناطق المختلفة.
ينبني علم اللغويات الاجتماعية على الحقيقة السابقة، ويعمل على تفسير هذه الفوارق عبر فهم أسبابها الاجتماعية، إلا أن دراسات هذا المجال شديدة الندرة في الوطن العربي، بالرغم من ثلاثة أمور شديدة الأهمية:
1- التقارب الحقيقي بالرغم من الاختلافات بين الظروف الثقافية لأغلب بلدان الوطن العربي (لعوامل تاريخية ودينية مختلفة تجمعها)، بالإضافة لتقارب الظروف الاجتماعية والسياسية بين كثير من هذه البلدان.
2- الحاجة الحقيقية إلى تواصل أكثر كفاءة بين العرب وبعضهم البعض، كبداية لخلق تفاهم حقيقي مبني على لغات الحياة اليومية لا العربية الفصحى التي احتكرها السياسيون، وكوسيلة لخلق تواصل أكفأ بين طبقة شبابية عربية لا تعرف الحدود عبر التواصل الإلكتروني اليومي.
3- تواجد قاعدة تسمح بتطوير تفاهم حقيقي وكفء ومجهود علمي بمركزية وتواجد الفصحى في كل البلدان الناطقة بالعربية.
لماذا يجب أن تتعلم لهجات غير لهجتك؟
واقعيًا، أنت الكاسب الحقيقي في حالة تعلمك فهم والحديث بلهجة مختلفة، فمع بداية تعرضك للهجة مختلفة عن تلك التي ترعرعت على الحديث بها، ستبدأ في إدراك أن الأمر أكثر من مجرد اختلاف في الكلمات المستخدمة أو الأصوات، وإنما ينبع الأمر من فوارق حقيقية في كيف ترى كل لهجة من هذه اللهجات العالم من حولها.
فمن الطبيعي جدًا أن ترى فوارق شاسعة في معاني ذات الكلمة من لهجة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال يمكن أن نتحدث عن الفعل “يبغي” أو المضارع من المصدر “بغى”، وهذه الكلمة إذ نطقت في الدارجة المغربية أو الجزائرية فهي تعني فعل الحب، الحب بمعناه العربي الفصيح المتخطي للإعجاب، بينما إذ نطقت ذات الكلمة في في اللهجات الأعرابية كالسعودي أو الكويتي فهي تعني الرغبة والإرادة، أي حاجة إلى الامتلاك ورغبة فيه.
إذا بدأت في التفكير في الأمر بهذا الشكل، ستبدأ في إدراك حقيقة علمية مثبتة وهي أن اللغة تشكل الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا كبشر، وأن اكتساب معرفة بطرق عمل اللهجات المختلفة يعني في نهاية الأمر اكتسابك لمنطق وطريقة جديدة لعمل دماغك، أي طريقة جديدة لرؤية العالم بشكل كامل.
تعني الحقيقة السابقة أمرًا كبيرًا على المستوى العملي، فهي حجر أساس في خلق تفاهم حقيقي بينك وبين آخرين من جوانب أخرى من هذا العالم العربي، هذا التعاون مبني بالأساس ليس على فهم ما يقوله هؤلاء، وإنما على فهم كيف يرى هؤلاء العالم وكيف يفكرون، أي أنها تجعل التفاهم مبني على التقدير والاعتبار الحقيقي لاختلاف الظروف الثقافية والاجتماعية.
كما ينبني على معرفتك بلهجة عربية مختلفة مكسب كبير، وهو انفتاح أبواب عالم كامل من الثقافة المحلية والشفاهية أمامك، فواقع أن كل مجتمع يعيش حياته اليومية بلهجته المحلية يعني أن خبرات هذه الحياة تسجل بهذه اللهجة قبل أي شيء، تسجل هذه الخبرات في صور قصص وشعر وموسيقى وأغاني، عالم مختلف تمامًا بمنطقه الخاص ومعناه الخاص، عالم لن تستطيع النفاذ إليه إلا من خلال هذا الباب.
بالتدريج ومع تعرفك على لهجات مختلفة من أنحاء الوطن العربي، ستكتشف صلات سحرية غريبة بينها وبين بعضها، تراث قديم من عصر كانت هذه اللهجات أقرب لبعضها البعض مما هي عليه الآن، كلمات عند استماعك لها لن تستطيع معرفة أصلها في أي لهجة، ويلتصق بهذه الكلمات والتراث قصص مختلفة عن أصولها.
يمكن أن نضرب مثالًا واضحًا ولطيفًا على هذا عبر الموسيقى والأغاني.
ففي الأغنية التالية، يتغنى البحار السويسي المصري بالسفينة المسافرة إلى حلب حاملة التفاح تحت العنب، ويغني هذا على آلة السمسمية المفرطة في مصريتها.
بينما في هذه الأغنية الآتية من بلاد الشام، يتغنى اللبناني صباح فخري بالسفينة السورية التي أتت لتحمل البضائع اللبنانية من التفاح لتهربها من كساد فرضه الأتراك بمنع التصدير، مستخدمًا ذات الكلمات.
وفي مثال آخر، تتغنى اللبنانية ريما خشيش بلهجة شامية واضحة مطالبة زريف الطول بعدم الرحيل والاغتراب.
وفي سياق آخر، تغني فرقة التراث الشعبي الفلسطيني ذات الكلمات متحدثة عن قصة زريف الطول الذي قضى في الجهاد ضد الصهاينة.
بينما يتغنى المنشد الأندلسي الجزائري بذات الكلمات عن ظريف الطول، الشاب العامل على سفن الأسطول العثماني الآتي من الجزائر تحت قيادة فخر الدين بربروسا، يطالبه أهله بعدم الرحيل ويهددوه بالذهاب إلى إسطنبول لتقديم “عرضحالة”.
مثل هذه القصص تحديدًا قد تكون كافية لتعلم اللهجات العربية المختلفة والإطلاع عليها، فربما يستطيع المرء في حياة قصيرة أن يصل إلى أصل قصة في الواقع أو الخيال.