اختلال التوازن بين المشروع الفكري والحركي، أو بتعبير الترابي “فقه المبدأ وفقه المنهج”، وبتعبير القرآن الأدق {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} هو داء الحركات الإسلامية على طول تاريخها.
إذا استقرأنا التاريخ الإسلامي يمكننا أن نقرر أن كل مشروع حركي ذي قصور فكري انتهى بالانتهازية، وكل مشروع فكري ذى قصور حركي انتهى بالجمود والموات.
عودة إلى التاريخ
نقطة البداية كانت حينما أدى الانفتاح الجيوستراتيجي السريع للدولة الإسلامية في عقودها الأولي، متمثلة في إقليم شبه الجزيرة، ناحية عمقها الإستراتيجي في الأقاليم التي كانت تسيطر علىها حضارتي فارس والروم إلى حالة من اختلال التوازن الجيوثقافي والجيواقتصادي والجيوسياسي.
فأما الجيوثقافي فكان باختلال التوازن بين خطي البناء الحضاري القيمي والعمراني، فالأقاليم الجديدة حديثة العهد بالإسلام والتي عاشت في ظل الحضارات القديمة انتقلت إلى حالة من النهم بالتحديث الحضاري على أعقاب انهيار حضارتي فارس والروم في ظل سلطة الفاتحين الجدد الذين عاشوا بدورهم حالة من التحدي لسد هذا الفراغ الحضاري وإثبات الذات الإسلامية، هذه الحالة المتسارعة أدت إلى حدوث شرخ في تآزر خطى البناء الحضاري؛ القيمي والعمراني، أودت باهتزاز هيمنة القيمي المتمثل في تعاليم الوحي ومبادئه على العمراني المتمثل في السياسة والتمدين.
وأما الجيواقتصادي فكان بحدوث طفرة في النشاط الاقتصادي في الإقليم الشمالي المتمثل في بلاد الرافدين والذي تحول إلى ممر تجارة عالمي بين الشرق والغرب، بالإضافة إلى بيئته الزراعية الغنية، الأمر الذي جذب النخب الفاتحه إليها، ومع الوقت ولاعتبارات ديموغرافية واقتصادية وتشريعية، تأثرت التركيبة الاجتماعية لهذه الأقاليم وبرز فيها تنافر طبقي واضح، لكن التأثير الأكبر لهذا التغير الجيواقتصادي كان في الخلخلة الجيوسياسية التي أحدثها والتي تمثلت في الفراغ السياسي في مركزية الدولة بالحجاز في مقابل ثقل سياسي ملحوظ في الأقاليم المحورية الثلاثة المحيطة بالمركز؛ العراق والشام ومصر، الأمر الذي أدى في النهاية إلى حدوث ثورة وانهيار السلطة المركزية بالحجاز، وانتقال الصراع إلى الأقاليم المركزية الثلاثة ذات الثقل السياسي، إلى أن توحدت مركزيتها في الشام الأكثر استقرارًا.
لقد كان مشروع الإمام علي – رضي الله عنه – بعد وقوع فتنة مقتل عثمان – رضي الله عنه – ذا شقين فكري وحركي، فأما الفكري فتمثل في إعادة هيمنة الوحي على السياسة والعمران، ومقاومة حالة الانفلات التي تمس روح الدولة الإسلامية والتي أضحت تبني لنفسها شرعية زائفة تحت مظلة التأويل الزائغ، رافعًا شعاره الواضح “بالأمس حاربناهم على تنزيله واليوم نحاربهم على تأويله]، قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عليكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.
وأما مشروعه الحركي فكان في المعالجة الجيواقتصادية والجيوسياسية، فنقل الإمام علي مركزية الدولة من الحجاز إلى العراق ليتخذ منها قاعدة جديدة لاستعادة المركزية الواحدة للدولة، وكان العراق جدير بذلك فقد كان يفوق الشام مالاً ورجالاً بأضعاف لكنه كان لايزال يعاني من مشاكلات اقتصادية واجتماعية، فبدأ الإمام علي بتبني سياسة اقتصادية جديدة ترتكز على مسألة تنشيط القطاع الزراعي الذي تنشط فيه الطبقة الوسطي، والاهتمام بالعمران وبناء المرافق، الأمر الذي أحدث ثلاثة تحولات إستراتيجية؛ أولاً: تحول بيت المال إلى مؤسسة اقتصادية حاضنة ومحفزة للاستثمار الشامل ومحاربة الاستثمار الاستحواذي ومن ثم الاتجاه إلى القضاء على التنافر الطبقي، وثانيًا: تحريك الأموال المدخرة ومن ثم القضاء على التضخم، وثالثًا: تقوية العمران الذي ألقى بظلاله على استعادة مركزية الدولة من ناحية وإشباع حالة النهم بالتحديث الحضاري العمراني من ناحية أخرى.
لكنه رغم كل هذا حدث حدثان هامان أديا إلى تغير مجريات الأمور، الأول: هو وفاة الإمام علي رضي الله عنه، والثاني: هو زيادة تكريس الانفصال الجيوسياسي بين أقاليم المحور الإسلامي الثلاثة، وزاد الأمر صعوبة تحالف محوري الشام ومصر، الأمر الذي أدى إلى انتهاء الأمر بانتقال مركزية الدولة إلى الشام والقضاء على مشروع الإمام علي الفكري، وفقدت على إثر ذلك أول وأهم قيمة تميز بها نظام الحكم الإسلامي وهي الشورى، وبدأ التأسيس لحقبة جديدة مع الملك العضود.
لقد كان العباسيون ضمن مشروع الإمام علي رضي الله عنه الفكري والحركي، ونجحوا نجاحًا باهرًا في الحركة، فلما آلت إليهم الأمور لم يكونوا إلا تكرار لما وقع فيه الأمويون، وصورة أخرى من الحكم المتغلب، وتواصلت حالة الاختلال والانفلات من هيمنة الوحي على السياسة والحياة، أما العلويون فكانوا الوجه الآخر للاختلال، حافظوا على الجانب الفكري للمشروع ولكن ظهر قصورهم الحركي مرارًا، حتى انتهت حركتهم رغم أصالة الفكرة التي كانوا يعبرون عنها.
لقد فطن الترابي إلى داء الحركة الإسلامية الحديثة أن مشروعها الفكري “فقه المبدأ” يغلب مشروعها الحركي “فقه المنهج”، وأن هذا سبب جمودها وإخفاقاتها المتكررة، يقول د/ المختار الشنقيطي: “وفي تشخيص الدكتور الترابي لأدوات الحركات الإسلامية المعاصرة، وأسباب التعثر في مسيرتها لخص السبب في أن “فقه المبدأ لديها أنضج من فقه المنهج” (الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، ص 95).
وهي خلاصة دقيقة، تضع اليد على عمق الداء في جملة واحدة؛ فالحركات الإسلامية تعرف الغاية لكنها تفرط في الوسيلة، تعرف ما لا تريد أكثر مما تعرف ما تريد، “ينصب اهتمامها على إبطال الباطل، لا على إحقاق الحق” كما يقول الترابي نفسه، وفي الممارسة السياسية فقد حاول الترابي أن يحرر الإسلاميين من صورة ذلك الإسلامي الأبله الذي ينادي بتغيير الكون وهو لا يدرك ما يدور في محيطه القريب، تقوده رغبة بغير عزم، ويحركه حماس بغير خبرة، يشعل الحروب في كل مكان ويخسرها، ويستفز العالم كله، على قلة زاد، وضعف استعداد، لكن مواقف الترابي السياسية غلب فيها جانب الفاعلية على جانب المبدئية، فكانت النتائج كارثية على السودان وعلى الحركة الإسلامية”.
لقد دار الترابي مع المواقف السياسية ببراعة وذكاء، واستطاع خداع القوى الإقليمية والدولية، وأوصل للسلطة أتباعه، لكنهم في النهاية وقعوا في النقيض “فقه المنهج أنضج من فقه المبدأ”، في النهاية لم يستطيعوا تحقيق التوازن بين “فقه المبدأ وفقه المنهج”، ووقعوا فيما وقع فيه الأمويون والعباسيون.
لقد حاربوا وانتصروا ببراعة، لكنهم اكتشفوا في النهاية أنهم كانوا لا يعرفون ما الذي كانوا يحاربون من أجله، وليس أشد حسرة من هذه الكلمات لأحد المقربين من الترابي، وهو الدكتور المحبوب عبد السلام، في مقدمة كتابه (دائرة الضوء وخيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولي لعهد الإنقاذ) فقال:
“الأجيال التي كابدت من الناس لم تكن تدري لماذا كابدتْ، والشهداء ماتوا لغير ما هدف واضح، شعرة معاوية تنقطع، ويتحول الابتلاء إلى لعنة، وذات الذين نشأوا تحت أعيننا سنوات بُعثوا لاعتقالنا، لحظتنا هي لحظة الحيرة العظمي”.
أختم بالدرس القاسي:
“ليس المهم أن تحارب، ولكن المهم أن تعرف جيدًا ما الذي يجب أن تحارب من أجله، وليس المهم أن تنتصر، ولكن المهم أن تعرف جيدًا ما الذي يجب أن تنتصر لكي تحققه).