قبل عدة سنوات وبينما كنت أتابع العديد من البرامج الشبابية والدعوية، كنت أستمع إلى الكثير من المكالمات الهاتفية التي تبدأ على الشكل التالي: السلام عليكم يا دكتور، أنا كنت طالبًا متفوقًا في دراستي ثم ما لبثت أن تعرفت على مجموعة من الشبان لا قيمة للتعليم ولا للأخلاق في حياتهم، ولم آخذ وقتًا طويلًا في رفقتهم كي أكون مثلهم، فقلبت حياتي رأسًا على عقب وتغير سلوكي تجاه كل ما حولي، وذلك ما أثار غضب والديّ الذين طلبوا مني تغيير صحبتي وشرعوا بتذكيري بما كنت عليه سابقًا، فأحدثوا في نفسي حسرةً ورغبةً في العودة لأول عهدي، فكيف لي أن أظل في رفقة أصدقائي هؤلاء وأن أعود كما كنت من قبل؟ فيأتي الرد: وفقك الله يا بني، فلتبتعد عنهم ولتدعو الله أن يهديك ويثبتك، الزم الذين إذا ما أذنبت نهوك، وإن أحسنت أسعدتك دعواتهم، ما جعل الله يا بني لرجل من قلبين في جوف واحد.
أذكر أني سمعت عددًا ليس بالقليل من شبيهات هذه المحادثات، ففي كل مرة يطرح الشبان والشابات أسئلتهم حول الصحبة السيئة تكون الإجابة بالإسراع بالابتعاد واختيار صالح الرفاق، وفي كل مرة أسمع فيها ذلك كنت أتساءل لماذا يطلب منّا الدعاة عادة فكّ رباط صداقة تعني لنا الكثير – رغم تأثيرها السلبي على حياتنا -، وطالما حدثتني نفسي أن ذلك فيه من التعالي على من تقاسمنا معهم ساعات جميلة، فمن الغرور أن نتركهم لأننا نسعى لنلتمس تحسنًا دينيًا أو دراسيًا في حياتنا.
كان هذا الانطباع منذ عدة سنوات، كنت أسمعه وأعرض عنه فورًا، أما اليوم فأجده أقرب السبل لعيش الحياة التي نحب دون منغصات، طبعًا هذا التصرف لا يتوقف فقط عند الخوف على حياة الفرد الدينية، وإنما يشمل كل جوانب الحياة.
“البيئة” هي كلمة السر في حياة كل منّا، فإن زرعت نباتًا جميلًا في بيئة لا تصلح للزراعة وبالغت في إصرارك على سقايته والتعهد برعايته فلن ينمو ولن يكبر، فالجذور لم تغرس في أساسٍ صحيح، كذلك نحن البشر إن لم نتواجد في البيئة التي تدفعنا للعمل والتحفيز فإننا وبلا شك سنقضي العمر متخبطين في محاولة لإيجاد تعريف واضح لأنفسنا.
قد يقضي الإنسان عمره كلّه ليعرف ما هي التربة التي ستخصب أفكاره فيها، والتي ستجعله يبدو متفردًا بين مجموعة كبيرة يتميز كل منها مع الآخر ويتميز عنه.
ولنا في رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أسوة حسنة، وسيرة توجّهنا إلى حين لقاء وجه ربنا، فحين كان النبي في مكة المكرمة ظلّ عمه أبو طالب يدرأ عنه أذى قريش إلى أن وافته المنية، وبعد ذلك وحين اشتدّ بطشهم بالمسلمين، ومع تلقف قلوب أهل المدينة المنورة الإسلام وتبنيهم له، ما كان من النبي إلا أن دعا للهجرة إليها والبقاء فيها، وعندها أناخ المسلمون رحالهم هناك وبدأوا حياتهم الجديدة.
بالتأكيد هي ليست دعوة لهجران الأصدقاء الذين لا تشاركهم رؤيتهم للحياة، ولكنها دعوة للهجرة إلى حيث ينتمي عقلك وقلبك، إلى المكان والأشخاص الذين ستتقد همتك بهم، الذين ستألف أفكارك أفكارهم، وتودعهم همومك التي تشبه همومهم.
الاختلاف جميلٌ جدًا، والتعامل ولقاء كثير من الأشخاص من كافة الآراء والأديان والأحزاب يصقل ذاتك ويثري عقلك ويعطيك خبرة تفوق عمرك الحقيقي، ومن جانب آخر وجود أرواح تتشارك معهم الموقف ذاته تجاه حدث معين ليعبر كل منكم عنه بطريقته فتشكلون لوحةً تحكي عن قصة أو تشجب موقفًا لهو من أروع النعم التي تستوجب الحمد.
قد نصحو يومًا لنكتشف أننا في مكان لا يناسبنا، وبين أشخاص لا يجمع بيننا وبينهم سوى أن كلانا من بني آدم، لكن الوقوف عند هذا والتسليم به هو أول طريق لتقليل احترام ذواتنا التي تطلب منّا دائمًا أن نجد لها من تشاطره الألفة.
البيئة التي نريدها ليست ريفًا أو مدينة، ليست لونًا معينًا ولا لكنة متشابهة، لكنّها ما نخلقه بأيدينا ونضفي عليه لمساتنا، وكانوا في السابق إذا أرادوا مدارسة عالم قطعوا الصحراوات الشاسعة ولاقوا سقم السفر وعذاباته لكي يكونوا في المكان الذي يريدون، أما اليوم فنقدر أن نكون مع من نريد، ندرس ما نشاء ومتى نشاء وممن نشاء، ببضع ضغطات يمكننا أن نقرأ لأسلافنا في أي عصر، أن نكون معهم ولو بعد حين.
يمكننا أن نتابع الأشخاص الذين يلهموننا، أن نتجاذب معهم الأحاديث، ونختلف ونتفق في الرؤى، أن نكتشف الطريق الذي نود السير فيه لآخر نفس في حياتنا.
نزل الوحي بمكة، ونزلت أول آيات القرآن فيها، بها ولد عليه الصلاة والسلام وبها نشأ، لكنّه عندما وجد في المدينة المنورة بيئة ينمو فيها الإسلام ويخصب هاجر إليها، ففيها تشكلت نواة الدولة الإسلامية التي انطلقت بعد ذلك تجوب العالم شرقًا وغربًا.
ابحث عن مدينتك، هاجر إليها إن لم تخلق فيها وكن أخًا لمن ينصرك بها، حينها ستنير هذه المدينة قلبك ويطلع عليها البدر.