يقول العلامة العربي ابن خلدون إن هناك تنافس دائم بين القبائل العربية وبين الحكام العرب أو الدول والإمبراطوريات التي أمتد حُكمها إلى مناطق عربية، وغالبًا ما تلجأ الدول إلى شيوخ القبائل وقادة المجموعات المسلحة والعصابات الإجرامية للمساعدة على تحصيل الضرائب وفرض الأمن والنظام وقمع المتمردين، فكل الإمبراطوريات السابقة كالفرنسية والبريطانية وغيرهما جندت مقاتلين قبليين وعصابات لمساعدتها على ممارسة السيطرة.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما تبعه من حل للأجهزة الأمنية والجيش، سقط مفهوم ماكس فيبر الشهير للدولة من “أنها الكيان الذي يَحتكر شرعية ممارسة القوة”، حيث تَسربت السلطة بيد القوى الاجتماعية والسياسية والتيارات الراديكالية والمليشيات السنية والشيعية التي كان بعضها يعود تأسيسه إلى ثمانينات القرن الماضي ويُجهز نفسه ويستعد في إيران لملء الفراغ الأمني بعد سقوط بغداد، وبعضها الآخر تَشكل بعد 2003 بمبررات مختلفة، وقد ساهمت الأوضاع المضطربة والاحتلال والتعقيدات التي رافقت إسقاط نظام البعث في ولادة الكثير منها.
لقد برزت بعد الاحتلال سلطات في العراق أعادت البلد إلى مرحلة ما قبل فكرة الدولة وهي سلطة رجال الدين والجماعات والأحزاب والقوى العشائرية التي كانت الأنظمة تُقيم معها علاقات معقدة لحفظ الأمن والحدود وإعلان الولاء فيما إذا تعرض النظام والسلطة المركزية للخطر، وهذا ليس في العراق فحسب وإنما في كثير من البلدان العربية خاصة التي مرت بها رياح التغيير، فقد كانت تؤدي أدوارًا مهمة في مساعدة النظم ذات التأسيس غير الوطني أساسًا وهي تتمتع بمقدرات عسكرية محدودة وغير نظامية وترتكب جرائم تسيئ للدولة وتهز فكرة الانتماء لها.
إن هذه المليشيات التي نُظمت على أسس طائفية وعرقية وعشائرية ومنتشرة في مناطقها الديمغرافية قد أصبحت بديلاً عن الجيش العراقي بل كان إحداها “الحشد الشعبي الشيعي” العمود الفقري للجيش العراق كما صَرح رئيس الوزراء العراقي، وهذه المليشيا تضع داعش والسنة في خانة واحدة في “محاربة الإرهاب”، بينما يدعي تنظيم الدولة هو الآخر حماية العرب السنة من ظلم الطائفيين بعد عقد من التهميش والإقصاء والظلم والاستهداف.
إن خوف الأحزاب الشيعية من وصول الحكام الطبيعيين للعراق إلى السلطة، أي العرب السنة أو ربما خوفهم من الانقلابات التي قد تَحدث في ظل تسرب السلطة وحل الجيش العراقي السابق الذي أصبحت كوادره تعمل في المجتمع مع إقصاء الكثير من العناصر عن الدولة الجديدة من ذوي الخبرة الميدانية الكبيرة والمؤهلات والمهارات التي تم إشباع الجيش العراقي السابق بها؛ دفعهم إلى الإبقاء على المليشيات خوفًا من المستقبل المجهول ولفرض مزيد من القوة والسيطرة على المجتمع.
بعد عقد من الزمن أصبحت كلمة سلطة المليشيات في ظل ضعف السلطة المركزية هي العليا وتقود رئيس الوزراء نفسه إذا أرادت ذلك، وتؤثر على القرارات العسكرية والسياسية التي لا يستطيع رئيس الوزراء حيدر العبادي تجاوزها وهو على علاقة متناقضة معها، فهو يعتمد عليها في محاربة التمرد السني ووصول تنظيم الدولة إلى بغداد، ولا يستطيع تجاوزها لأنها أصبحت تُشكل خطرًا عليه وربما على حياته مستقبلاً، فهي مندمجة في الأحزاب والحاضنة الشيعية للعملية السياسية والمؤسسات الأمنية.
أما المليشيات السنية وقوات العشائر السنية والمجموعات المسلحة التي لم تُستوعب إلا جزئيًا ولم يتم التعامل معها إلا أمنيًا؛ أصبحت غير مكترثة من وعود الحكومة المركزية بالشراكة لاحقًا بعد القضاء على داعش بعد عقد من الوعود الكاذبة وسياسة التسويف إلا بشروط وضمانات حقيقية وهذا ما يجري اليوم بسبب فشل الدولة في الاعتماد على ذاتها فقط وعلى المليشيات الشيعية غير المتمرسة إلا على القتل والخطف والابتزاز.
أخيرًا فإن انتشار السلطة بهذا الشكل في العراق سواء الموالية للدولة والتي تقاتل معها أو غير الموالية لها، قد غير شكل البنية الاجتماعية العراقية وأعادها إلى عواملها الأولية، وأدى إلى تهيئة الأرضية الخصبة لتطبيق النظام الفيدرالي أو اللامركزية الإدارية الواسعة وربما النظام ككل من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي بشكلهِ الفيدرالي الأمريكي، وهناك تغييرات جوهرية في موازين القوى الإقليمية والسياسية ستؤثر على الساحة العراقية ومستقبل السلطة في العراق ومن يعتقد أو مازال يحلم من القوى السياسية العراقية عودة السلطة في العراق بشكلها المركزي السابق فعليه أن يراجع نفسه.