“أعتقد أن ساسة العالم يعرفون جيدًا هذا الاستنتاج بينهم وبين أنفسهم، وهو أن عصر سايكس بيكو قد انتهي، سواء أقالوا ذلك في العلن أم لا، فالواقع على الأرض يشي بذلك، ولكن كما نعلم فإن الدبلوماسيين محافظون، وعادة ما يدركون الأحداث في مراحلها الأخيرة، بل لربما لا يستطيعون مجاراتها على الأرض.”
بهذه التصريحات بدأ مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان بشمال العراق العام الجديد يناير الماضي، مطلقًا العنان للحديث عن ضرورة إجراء استفتاء شعبي في الإقليم على الاستقلال الكامل والانفصال عن العراق، وهي ليست المرة الأولى التي يقترح فيها الرجل الموضوع، فقد تحدث عن نفس المسألة منذ عامين تقريبًا، لكن زحف دولة الإسلام في العراق والشام (داعش) عطل تلك الخطط لسبب بسيط، وهو أن الدعم الأمريكي لقوات البشمركة في وجه ذلك الزحف أنذاك تطلب الانصياع للسياسة الأمريكية المتمسكة بوحدة الأراضي العراقية.
تبدلت الأحوال الآن، وحصل البشمركة على دعم من جهات مختلفة مثل تركيا وإيران علاوة على استمرار العلاقات مع الولايات المتحدة، ونجحوا في اقتناص أراضٍ شاسعة من كل من الحكومة العراقية، ليزيدوا نسبة الأراضي العراقية تحت سيطرة الأقليم من 10 إلى 17 بالمائة من مساحة العراق، ومن داعش التي حرروا سنجار من قبضتها العام الماضي، وهو موقف قوة غير مسبوق ربما يتيح الآن لبرزاني أن يتعامل بجدية مع الفرصة السانحة لإجراء الاستقتاء، والتي ربما تتلاشى إن قامت أية معركة إقليمية لتحرير الموصل.
الموصل والسياق الإقليمي الآن
قوات البشمركة تحتفل بعد تحرير سنجار من داعش
لا نعرف بالضبط طبيعة مشاعر برزاني تجاه داعش، وهل يلعنها أم يشعر بالامتنان لظهورها، لكن المؤكد هو أن ظهور داعش في المعادلة أضعف كثيرًا من موقف الحكومة العراقية بشكل عزز استقلال حكومة كردستان العراق، فالحكومتان الآن منفصلتان فعليًا بامتلاك كل منهما لجيش كامل، وسياستين اقتصاديتين منفصلتين، باستثناء ارتباطهما الوحيد نتيجة وحدة العملة، كما رأينا في مضي كردستان العراق قدمًا بمشروع خط أنابيب نفط كركوك جيهان، والذي يمد تركيا بالنفط الموجود بشمال العراق مباشرة دون الرجوع لبغداد وبدون موافقتها (وقد تعرض للتوقف بعد هجوم حزب العمال الكردستاني عليه ويجري إصلاحه لإعادة تشغيله خلال أشهر.)
يعرف برزاني جيدًا أن أي حملة عسكرية ضد داعش في الموصل في إطار التحالف الأمريكي، والذي ستشترك فيه بالقطع القوات العراقية، ويؤدي إلى استعادة الموصل، سيخلق وضعًا تستعيد معه حكومة بغداد جزءًا من قوتها السابقة، وفي خضم الحفاوة الدولية حينئذ بكفاءة بغداد في هزيمة داعش بأهم معاقلها، فإن فُرَص برزاني في الاستقلال لن تتضاءل فقط، بل ستبدأ بغداد بالنظر لاستعادة الأراضي التي استحوذت عليها كردستان العراق في العامين الماضيين باعتبارها غير منصوص عليها في الدستور، وربما الضغط أكثر على أربيل للتنسيق مع بغداد قبل الشروع في أي مشروع يتعلق بالنفط.
علاوة على ذلك، وبالنظر لأية معارك موسعة قادمة ضد داعش في الرقة والموصل، ستشكل الأحداث في شمال سوريا على الأرجح مزيدًا من الضغط على برزاني، إذ ستنضم لمعركة كهذه بكل حماس قوات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، والممثل الفعلي لحزب العمال الكردستاني، وهو المنافس الرئيسي لبرزاني وحزبه على تمثيل حقوق الأكراد التاريخية، ومرة أخرى بالنظر لإمكانية نجاح عملية كتلك في الرقة، فإن صعود نجم حزب العمال الكردستاني في سوريا أكثر من ذلك مع ارتفاع أرصدة الحكومة العراقية، سيخلق مأزقًا لبرزاني، يهدد وجوده على سدة الكيان الوحيد الممثل للشعب الكردي، والقادر ربما إن اتسع نطاق نفوذه أكثر من ذلك حاليًا على مد حقوقه التاريخية لبعض الأراضي الكردية المتاخمة في شمال سوريا.
برزاني والعاهل السعودي في الرياض
لم يكن غريبًا إذن أن يظهر بوضوح ميل البرزاني للتحالف التركي السعودي في سوريا، والزيارات الهامة التي تبادلها مع الطرفين بما فيها زيارته للرياض، وإن لم يقفز بشكل علني لصفوف “التحالف السني” تجنبًا لإحداث المشاكل مع إيران، وهي طرف مهم بالنسبة له، فالتهديد الذي يشكله ظهور حزب العمال الكردستاني على كردستان العراق يعيد للأذهان الحرب الأهلية الكردية القصيرة التي جرت في منتصف التسعينيات بين الطرفين، بل وكذلك التوترات القصيرة بين البشمركة وقوات حماية الشعب في سنجار بعد أن حررتها البشمركة بدعم تركي، وطلبت من أية ميليشيات كردية أخرى مغادرتها فورًا.
تباعًا، تُعَد الفرصة سانحة لبرزاني لحماية مكتسبات كردستان العراق، عبر الاستقلال كخيار أساسي وحيد لحمايتها فعليًا، حتى بدء أية عمليات عسكرية موسعة ضد داعش في الرقة والموصل، وربما حتى إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نهاية هذا العام، والتي قد تتأخر العمليات لحين إجرائها، أي أن برزاني يمتلك ببساطة 2016 فقط إن أراد بالفعل المضي قدمًا في مسألة الاستقلال تلك، غير أن معارضبه داخل كردستان العراق يتهمونه كالعادة بأنه يهتم بترسيخ سلطانه داخل الإقليم، ويلعب بورقة الاستقلال لتعزيز شرعيته بين الأكراد ليس إلا.
برزاني والحسابات الداخلية
لا يخفى على متابعي الشأن الكردي العراقي أن دعوات برزاني الأخيرة للاستقلال بالفعل تأتي في سياق مشاكل سياسية واقتصادية عدة داخل الإقليم، أبرزها الهبوط الشديد لأسعار النفط، وهو أهم مصدر للدخل، بما أدى لمأزق مالي واضح رأيناه في تظاهرات أكتوبر من العام الماضي، والتي شارك فيها كثيرون ممن لم يتلقوا رواتبهم من موظفي الإقليم وجنوده، وبالإضافة لذلك، تبدو قبضة برزاني المتزايدة غير مريحة لمعارضيه السياسيين، فمدته الرئاسية التي انتهت عام 2015 وكان من المفترض أن يرحل بعدها ويُجري انتخابات جديدة، قام بتمديدها في الحقيقة، وهو سبب آخر أشعل تظاهرات أكتوبر، والتي تعاملت معها السلطات كغيرها في المنطقة؛ بتعتيم إعلامي وتفريقها بقوات الأمن.
حدود إقليم كردستان العراق الدستورية بالأحمر، والمساحات التي حصل عليها مؤخرًا بالخط الأحمر المنقط
الاتحاد الوطني الكردستاني الذي قاده جلال طالباني وكان طرفًا ضد برزاني أثناء الحرب الأهلية في التسعينيات، لا يزال يسلك نهجًا هادئًا مع برزاني حتى الآن، فالبشمركة التابعة له، والمهيمنة في جنوب إقليم كردستان، وهي المنطقة الأقرب لإيران، تعني أن برزاني لا يسعه تجاوز الاتحاد بالكلية في إدارة الإقليم وأن الاتحاد في الوقت نفسه صاحب نصيب من السلطة القائمة، كما أن الاتحاد لا يريد أن يظهر بمظهر المعادي لاستقلال كردستان أمام الأكراد، وهو ما دفعه لتأييد تصريحات برزاني الأخيرة رغم الاختلافات بينهما.
بيد أن المشكلة تكمن الآن في ظهور أصوات معارضة شبابية جديدة سيتسع نطاق شعبيتها مع الوقت، مثل حركة جوران المتعاطفة مع حزب العمال الكردستاني، وهي صاحبة الصوت الأعلى في الإقليم في معارضة برزاني، على عكس اتحاد كردستان الإسلامي، والذي يهتم بعوامل الهوية الإسلامية السنية بطبيعة انتمائه لجماعة الأخوان المسلمين، وبالتالي يعتبر منحازًا أكثر للثورة السورية وقريبًا من تركيا هو الآخر، وبالتبعية هادئًا في أي معارضة له لبرزاني.
***
مرة أخرى، وعلاوة على الوضع الخارجي المذكور أنفًا، يبدو الوضع السياسي الداخلي عاملًا مساعدًا على إعلان الاستقلال في 2016، فالاستقلال الفعلي سيعزز من أرصدة برزاني، وسيقّرب الاتحاد الوطني الكردستاني منه في مرحلة سيبدأ فيها فتح ملفات كثيرة لبناء دولة كاملة وعلنية، وهو أمر سيغطي على إخفاقات برزاني الأخيرة في الإدارة ونزعاته الاستبدادية، بل وربما يجلب له دعمًا ماليًا دوليًا ومن دول الجوار يغطي به العجز الاقتصادي الحاصل الآن، ويغلق تمامًا ملف العودة إلى كنف الحكومة العراقية حال بدأت معارك موسعة ضد داعش في الموصل.
أخيرًا، سيشكل استقلال كهذا ضغطًا على القوات الكردية بشمال سوريا، والتي سيصبح مشروعها السياسي عبثيًا أنذاك، ويقتصر ربما على ضمان حقوق حكم ذاتي من نظام الأسد إن نجح الأسد بشكل شامل من الأصل، أما إقامة دولة كردية أخرى ولو توفرت السبل العسكرية لذلك بالفعل فستكون مسألة شبه مستحيلة، بل إن بعض الأكراد، لا سيما تكتلهم الأكبر الأقرب في محافظة الحسكة السورية، قد يميلون حينئذ للانضمام لكردستان العراق بشكل يزيد الضغط على حزب العمال الكردستاني.