لعلها زيارة لم تلقى قبولًا من أحد في المنطقة، وبالتحديد في الرياض وتل أبيب، اللتين شهدتا تحسنا في العلاقات مع تركيا بشكل كبير على خلفية توتر علاقاتها بإيران، بدءًا من إنشاء مجلس تعاون إستراتيجي تركي سعودي، وحتى عودة العلاقات الدبلوماسية التركية الإسرائيلية لمجاريها بالكامل كما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه، لكنها كانت زيارة متوقعة في الحقيقة، ولن تكون الأخيرة، على عكس ما توقع الكثيرون ممن ظنوا أن التوتر التركي الإيراني في سوريا كافي لإفساد العلاقات الإستراتيجية بين البلدين.
الزيارة التي نتحدث عنها بالطبع هي زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو لإيران قبل ستة أيام، والتي لم تلقى ربما التغطية الإعلامية المناسبة، وأعلن فيها الطرفان “مناقشة الاختلافات بينهما” كما ذكرت التقارير الرسمية، مُقرين بوجود تفاوت في وجهات النظر فيما يخص سوريا، لكن هذا لم يمنع داوود أوغلو من الحديث عن “عصر ذهبي للعلاقات بين البلدين” سيبدأ مع رفع العقوبات عن إيران، والتي تمتلك معها تركيا تجارة تقدّر بمليارات، وكانت تهدف لوصولها إلى 30 مليار دولار بحلول عام 2020 أيام العقوبات، ويمكنها بالطبع أن تتجاوز ذلك الرقم بسهولة بعد رفعها.
الأتراك قطعًا يريدون موطئ قدم في الاقتصاد الإيراني بعد أن ينفتح على العالم، لا سيما وأنهم سبقوا الكثيرين في هذا المجال منذ وصل حزب العدالة والتنمية للسلطة في 2002 ودشن علاقة وطيدة مع طهران لعلها كانت الأقوى في الشرق الأوسط حتى وقعت الأزمة السورية، ولا يريدون أن يتأخروا بسبب تلك الأزمة الآن عن اللحق بركب الاستثمار في إيران بينما تنهمر الزيارات من كافة أنحاء أوروبا على السوق الإيراني، لكن التجارة وحدها لا تفسر كل شيء، ولا يمكن أن تكون هي السبب الوحيد الذي قد يدفع الأتراك لتجاوز ملف سوريا في رؤيتهم الإستراتيجية الأوسع لعلاقاتهم بإيران.
تركيا وإيران: ما هو أكبر من سوريا
يُدرك داوود أوغلو جيدًا أنه لا يسع تركيا أبدًا أن تبتعد أكثر من اللازم عن إيران، أو تكون تحت أي ظرف أقرب لدول الخليج، خاصة السعودية، فالرجل قارئ جيد للتاريخ والجغرافيا، والتاريخ يقول أن تركيا لا يسعها أن تخلق عداوات على الجبتهين الروسية والإيرانية في نفس الوقت وإلا وضعت نفسها في مأزق، وهي عداوات لن يفيدها كثيرًا التقارب مع الخليج، فالعلاقات المتوطدة مع السعودية مؤخرًا تُفهَم فقط في سياق الأزمة السورية، والتي تحاول فيها تركيا على المدى القصير استغلال تقاطع المصالح بين الطرفين لتحقيق أقصى استفادة من ثقل السعودية الاقتصادي والعسكري ودورها في منطقة المشرق، إلا أن ما يجري بينهما لا يتجاوز أكثر من ذلك، ولا يتعداه أبدًا إلى الرغبة في خلق “محور سني” على غرار ما تنبأ بعض المحللين، أو ربما أراد صناع القرار في المملكة نفسها.
في العصر الحديث تحديدًا، وبينما تربع الروس والإيرانيون على عرش تصدير الغاز عالميًا، لربما تتأكد تلك الحقيقة، وهي أن تركيا إما تفقد علاقاتها مع روسيا أو مع إيران ولكن ليس مع كليهما في نفس الوقت، فالروس يضخون لتركيا سنويًا حوالي 50% من احتياجاتها من الغاز، في حين يضخ لها الإيرانيون حوالي 20%، وبالنظر للتوتر الواضح في العلاقات الروسية التركية لأسباب عدة كالملف السوري والأوكراني، والتنافس التاريخي بينهما في آسيا الوسطى، والتفاوت في القوة بطبيعة الحال، لا سيما وأن الروس لا يحتاجون لتركيا إلا كسوق كبير، لكنهم لا يحتاجون لها مثلًا ليدخلوا السوق الأوروبي المرتبطين به جغرافيًا مباشرة (على عكس إيران التي ستحتاج تركيا بالقطع للوصول للسوق الأوروبي،) يبدو منطقيًا أن تميل أنقرة لصالح تعزيز علاقاتها بطهران، لا سيما لتقطع الطريق على نشوء محور إيراني روسي سيكون هزيمة إستراتيجية كبيرة لسياساتها.
الغاز بطبيعة الحال من الأولويات التركية، والتي ربما تريد تخفيف اعتمادها على الروس لصالح الإيرانيين، بل وخلق مشروع مشترك بين الطرفين يضم أذربيجان (والتي تزود تركيا بحوالي 10% من احتياجاتها) وتركمنستان وكردستان العراق يضخ الغاز إلى تركيا، وعبر تركيا إلى أوروبا، وهو مشروع سيرحب به الإيرانيون بطبيعة الحال رغبة في دخول السوق الأوروبية، والأتراك أملًا في الابتعاد عن روسيا، بل وتخفيف اعتماد أوروبا على روسيا، وسترحب به أيضًا الأطراف الصغيرة المشاركة فيه، أضف إلى ذلك أن إدماج إيران في منظومة غاز تابعة للتحالف الغربي سيشد إيران إلى تركيا أكثر من روسيا، وإلى أوروبا أكثر من آسيا.
تركيا واستعادة سياسة “تصفير العلاقات”
علاوة على كل ذلك، وعلى عكس الإيرانيون والسعوديون، لطالما اتسمت السياسة التركية بالرغبة في امتلاك هامش واسع من حرية الحركة والمناورة، أكثر منها اتخاذ مواقف أيديولوجية علنية ودفع ثمن ذلك في صورة عُزلة جزئية كما فعل الإيرانيون لسنوات، فتركيا بموقعها وارتباطها بحلف الناتو وبرغبتها مؤخرًا في العودة لدورها بالمشرق تحتاج إلى هامش مناورة أكثر من أي وقت مضى، وإن كانت سياسة تصفير المشاكل مع الجيران قد أتاحت لها ذلك بالفعل، بل وأتاحت لها اتخاذ بعض المواقف الصلبة الجديدة مثل الموقف من إسرائيل في السنوات الأخيرة، إلا أن إدارة الملف السوري لا سيما حادث إسقاط الطائرة قد قلص كثيرًا من هامش المناورة ذلك بشكل وضعها لأول مرة في مأزق.
بطبيعة الحال، لم يكن غريبًا أن تعود سياسة داوود أوغلو الأصلية في تصفير المشاكل وتهدأ نبرة أردوغان الحادة ضد بعض الأدوار في المنطقة مؤخرًا، خاصة وأن إيران بانفتاحها مؤخرًا على الغرب، واتفاقها مع روسيا في سوريا، باتت تملك هامشًا تتحرك فيه أوسع من تركيا، وهي سابقة لعلها تحدث لأول مرة منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وهو أمر لا يناسب تركيا بطبيعة الحال، والتي اعتمدت في تدشين دورها على كونها الطرف الأكثر انفتاحًا على الجميع، ولذا فإن اختيار الانفتاح على أطراف لا تملك إيران الانفتاح عليها مثل إسرائيل والسعودية، في نفس الوقت الذي قررت فيه تركيا أن تفتح صفحة جديدة مع إيران، يشي برغبة أنقرة أولًا في استعادة حرية تحركها بالمنطقة، وثانيًا بإدراكها أنها لا يمكن في أي لحظة أن تكون أكثر عزلة من أي طرف، خاصة إيران.
***
إجمالًا، وتأكيدًا على ما ذكره كل من داوود أوغلو وروحاني الأسبوع، لا تزال هناك خلافات في الملف السوري، وتركيا تدرك أن مصالحها بشمال سوريا مصالح إستراتيجية ولن تتخلى عنها بسهولة، بيد أنها تعلم أيضًا أن مكتسباتها في سوريا أصلًا كانت لا تزال ضئيلة حين قامت الثورة، والتي تمتعت قبلها بعلاقة اقتصادية وثقافية ودية مع نظام الأسد ليس إلا، مقارنة مع علاقاتها الإستراتيجية العتيدة بطهران، مما يعني أن أنقرة في أسوأ الأحوال قد تكون على استعداد للبداية من الصفر في سوريا حال خسر معسكر الثورة فيها تمامًا، أما في ملفات التعاون التجاري وامتلاك نصيب من السوق الإيراني، ومشاريع الغاز وتنويع مصادره بعيدًا عن الروس، فإن الأتراك لا يسعهم أبدًا أن يبدأوا من الصفر.