بدأت فكرة القانون الطبيعي تظهر وتنضج في القرن الـ16 مع محاولات حثيثة وتحليلية متفرقة لإعطاء القوانين الطبيعية معنى وضعيًا، وقد اُعتبر القانون الطبيعي عند عدد من الفلاسفة أمرًا مستمدًا من فكر ألوهية الخلق، بمعنى أن الله قد خلق العالم ليكون الإنسان سعيدًا ولكنه ترك الحرية لهذا الإنسان، فالقانون الطبيعي هو عبارة عن مجموعة النظم التي تحقق الاتساق الانسجام في العلاقات بين الإنسان والبيئة وتؤدي في نهاية الأمر إلى سعادته؛ فهو مجموعة من القواعد هدفها إسعاد الإنسان.
استخدام فكرة القانون الطبيعي شهد خلافًا بين المفكرين الفرنسيين والإنجليزيين، فالمفكر الفرنسي يرى أن الهدف من البحث عن القانون الطبيعي هو البحث عن أفضل النظم وبالتالي هو فكرة تدعو للتفاؤل والأمل في نظام أفضل، أما فكرة القانون الطبيعي عند الإنجليز فكانت تعبر عن علاقات ضرورية بين ظواهر ضرورية لا يمكن تجاوزها؛ وبالتالي تمثل عقبات وقيودًا في طريق عمل الإنسان، وعليه، فإن الفكرة عندهم أنه مصدر التشاؤم لأنه يمثل القيود المفروضة على البشر والتي لا يمكن تخطيها، فالقانون الطبيعي عند الإنجليز هو حقيقة مطلقة وعلاقات ضرورية لا يمكن الفكاك منها، أما عند الفرنسيين فهو نظام ممكن ولكنه ليس ضروريًا وهو أمل تسعى إليه البشرية ولكنه لا يتحقق.
مفكرون استخدموا فكرة القانون الطبيعي
وليم بتي 1623 – 1687
اعتقد بتي في وجود قوانين طبيعية تحكم العلاقات الاجتماعية، كما هو الحال في الظواهر الطبيعية، وتعرض في كتاباته للعديد من المشكلات النظرية مثل الإنتاج والتبادل والتوزيع، ويتوقف الإنتاج عند بتي على عنصرين هما العمل والأرض، وكان يعتبر العمل بمثابة الأب في حين أن الأرض بمثابة الأم، أما رأس المال فهو عنصر مرتبط بالعمل، وقد ميز عنصر العمل واعتبره العنصر الحاسم في العملية الإنتاجية، وكذلك تعرض في عنصر العمل إلى مزايا تقسيم العمل، وفيما يتعلق بالتبادل فقد اعتقد في وجود قوانين طبيعية تحكم أثمان التبادل. وكان يرى أن نفقة الإنتاج هي العامل الحاسم في تحديد الثمن الطبيعي، وبالنسبة للتوزيع فقد أشار إلى أن الدخل يوزع على عناصر الإنتاج في صورة ريع وربح وفائدة وأجر وأن هناك قوانين طبيعية تحدد حصة كل منهم، ولذلك رأى عدم جدوى محاولات تخفيض سعر الفائدة لأنها ثمن ولها قانون طبيعي يحدد مقدارها، وكان يرى أن الأجور تتحدد عند حد الكفاف بالنسبة للعمال وقد نال بتي إعجاب كارل ماركس وكان يعتبره أبًا للاقتصاد السياسي.
كوندياك 1715 – 1780
ألف كتابًا باسم “التجارة والحكومة في علاقتهما معًا” وترجع أهمية كوندياك إلى إدراكه فكرة الإنتاج؛ حيث عرفه بأنه تحويل للمادة إلى صورة جديدة أكثر نفعًا، يعد كوندياك من رواد الفكر الفرنسي لأنه ربط القيمة بالمنفعة، فقيمة السلعة تتحدد بمنفعتها للطالب، وهو الاتجاه الذي سار عليه فيما بعد المفكرون الفرنسيون بشكل عام، بينما الإنجليز اعتمدوا بشكل عام على نفقة الإنتاج.
كانتيون 1755
كتب كتابًا أسماه “طبيعة التجارة بصفة عامة”، وعنده تخضع الجماعة الإنسانية للنظام الطبيعي الذي يحدد العلاقات بين الأفراد، وقد عرّف الثروة تعريفًا جامعًا؛ فهي تشمل الطعام والسلع ومباهج الحياة، ومصدر الثروة عند كانتيون هو الأرض وأما العمل فهو شكل الإنتاج، وعلى عكس بتي ذهب كانتيون إلى أن الأرض هي العنصر الأهم من بين عناصر الإنتاج، وفيما يتعلق بأثمان التبادل ففرق بين الثمن الحقيقي ويتحدد بنفقة الإنتاج، وبين ثمن السوق الذي قد يختلف عن الثمن الحقيقي.
الطبيعيون
في نهاية حكم لويس الخامس عشر في فرنسا نشأت مجموعة من الأفكار الاقتصادية اصطلح على تسميتها بأفكار الطبيعيين؛ فقد قام مجموعة من الفلاسفة الاقتصاديين بتقديم نظرية متكاملة عن النشاط الاقتصادي وهي نظرية مبنية على دراسة الإنسان وعلاقاته بالعالم الطبيعي، وأبرز أولئك المفكرين طبيب فرنسي كان يعمل في بلاط لويس الخامس عشر اسمه فرنسوا كيناي، وقد نشر عدة مؤلفات أهمها “الجدول الاقتصادي” 1758 وكتاب “القانون الطبيعي” 1765، وقد انتشرت آراء كيناي وحققت نجاحًا كبيرًا في الأوساط العلمية والسياسية.
من ثم ظهر عدد من المفكرين الذين عملوا على نشر هذه الأفكار وتطويرها ومنهم ميرابو الأب، دي نيمور، ومرسيية دي لافيير، وبالعموم يتميز الطبيعيون بأمرين:
أنهم آخر المفكرين الاقتصاديين الذين تعرضوا لمشكلة التفضيل بين أنواع النشاط الاقتصادي والبحث عن أفضل المهن، وهم أول المفكرين الاقتصاديين الذين بحثوا بطريقة منظمة عن أفضل النظم الاقتصادية التي تحقق الرفاهية، وطالبوا بالأخذ بنظام الملكية الخاصة وضرورة الحرية الفردية.
نظرية الناتج الصافي
عرف الطبيعيون الثروة باستبعاد فكرة المعدن النفيس فالنقود ليست إلا ثروة عقيمة، والثروة كما يعرفها دي لارفيير هي مجموعة القيم التي يمكن استهلاكها عند الرغبة دون إفقار لمصدرها، ولذلك نجد أن النشاط المنتج الوحيد هو الزراعة وأن غير ذلك هو مجرد تحويل عقيم لصور المادة.
وقالوا إن أنواع النشاط الأخرى غير الزراعة غير قادرة على الخلق وإعطاء قيمة جديدة؛ ولذلك نجد أن كيناي يقول إن الزراعة هي النشاط الوحيد الذي يمنح الإنسان أكثر مما حصل عليه، أي أنها النشاط الوحيد القادر على خلق الناتج الصافي.
ويرون بأنه ماعدا الزراعة فإنه لا يعطي ناتجًا صافيًا وإنما هو من قبيل الحرف العقيمة، والسبب في تمييز الزراعة على غيرها من صور الإنتاج هو أن الزراعة هبة من الطبيعة، ويؤدي تضافر جهد الإنسان مع عمل الطبيعة إلى نشوء قيمة جديدة لم تكن موجودة وهي الناتج الصافي، والسبب الآخر الذي أدى بالطبيعيين لتمييز الزراعة هو رغبتهم في تبرير الدخل الذي يحصل عليه الملاك العقاريون دون عمل.
والجدير بالذكر أن الطبيعيين قد فشلوا في الوصول إلى فكرة “المنفعة” في تعريفهم للثروة فقد عجزوا عن تصور أن الصناعة والتجارة يمكن أن يكونا منتجين أيضًا، لأنهما وإن اقتصرا على تحويل المواد إلا أنهما، ولا شك، يضيفان منفعة جديدة تبرر اعتبارهما منتجين، فظلت التجارة والصناعة حرفتين عقيمتين عندهم، وفيما يتعلق بدورالطبيعة في النشاط الاقتصادي فقد كان القياس يقتضي منهم معاملة الصناعات الاستخراجية معاملة الزراعة إلا أنهم عجزوا عن إدراك حقيقة أن المناجم والمحاجر تعطي أكثر مما تأخذ.
في المقالة القادمة سنتفيض أكثر في مدرسة الطبيعيين الاقتصادية، ونشرح الجدول الاقتصادي وطبقات المجتمع التي قسمها كيناي.