أخذت جماعة الإخوان المسلمين على عاتقها مؤخرا إجراء عدد من المراجعات الشاملة والعميقة أملتها طبيعة المرحلة والحاجة للتجديد استفادة من التجارب السابقة، السلبي منها والإيجابي على حد سواء، وقد أوضحت في هذا السياق في مقال سابق حول فلسفة التعديلات اللائحية المطروحة حاليا لتحديث الجماعة وآليات عملها أهمية النظر للمستقبل وتجاوز الخلافات الإدارية التنظيمية الضيقة إلى رحابة مناقشة الأفكار في استعادة البناء المتماسك للجماعة، كجماعه حديثة متطورة، حال الاتفاق على الأفكار والتوجهات الرئيسية.
والسؤال المطروح منطقيا، ما هي الأدوار التي ستقوم بها جماعة الإخوان بعد أن تكون أكثر تطورا على النحو الذي تقترحه مسودة اللائحة؟ بالطبع هذا سؤال يخرج عن نطاق هذا المقال، وهو متروك لمؤسسات الجماعة وأعضائها للإجابة عنه، ولكن ما أتحدث عنه هنا، كرأي شخصي يحتاج للتداول بين أفراد الجماعة ومؤسساتها، يأتي في إطار المفهوم السائد بأنه بما أن الإسلام دين شامل معني بشؤون الناس في كل مناحي الحياة، وهو حق لا جدال فيه، فيكون بالتالي مجال عمل جماعة الإخوان التي تدعو إلى تطبيق الإسلام بشموليته، هو جميع المجالات التي يشملها الإسلام، أي الدعوي والاجتماعي والسياسي… الخ.
طرح العديد من المفكرين الإسلاميين في السنوات الأخيرة تصورا مختلفا، مفاده أنه مع التسليم بشمولية الإسلام، فإن المؤسسات التي تعمل لخدمته لا يمكن إلا أن تكون متعددة، وذلك لما تقتضيه الممارسات العملية من تخصص واحترافية، بالنظر للطبيعة المعقدة والمتشابكة للعصر الحديث، وأنا من المؤمنين بهذا الرأي، لكني لن أطرحه للمناقشة هنا، لأنه أيضا أعم مما أريد طرحه في هذا المقال.
ما أريد طرحه هنا من هذا المنطلق هو ضرورة الفصل بين العمل الحزبي في جماعة الإخوان وبين باقي أعمال الجماعة، وهذه القناعة ترسخت لديّ نتيجة عشرات الساعات من الدراسة والبحث والحلقات النقاشية المتخصصة والمعمقة في إطار المراجعات السياسية التي نقوم بها حاليا، وأنا أقدم هذا الطرح هنا بشكل شخصي، لكي يتسع المجال للمناقشة المستفيضة له داخل مؤسسات الجماعة وبين جماهيرها، وخاصة داخل مصر، حيث لا تسمح الحالة الأمنية الآن من مناقشة مثل هذه الأمور بشكل عام على نطاق واسع.
ومن نافلة القول أني أطرح هذا الأمر لتوسيع نطاق المراجعة الفكرية وتحديد التوجه المستقبلي، أما الممارسة العملية فهي مما يصعب تصوره الآن لغياب أي أفق للممارسة السياسية أصلا في مصر بالنظر للحكم العسكري الانقلابي المتسلط عليها.
أنا أرى أنه على الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين تنظر إلى العمل السياسي على أنه جزء أصيل من فهمها الشامل للإسلام؛ فليس في الإسلام فصل بين الدين والدولة، ولكني أعتقد، وفي إطار المراجعة الأخيرة، أن العمل السياسي بمفهومه الحزبي يجب أن تقوم به الأحزاب السياسية وفق مرجعية الدولة ونصوص الدستور، وذلك في إطار من إيمان عميق بشمولية الإسلام، وتخصصية وتعددية المؤسسات التي تقوم على أداء رسالته في الوقت نفسه.
انطلاقا من النقطة السابقة، فما أظهرته الدراسة والمناقشات المستفيضة أن جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت معنية بالعمل السياسي الذي يستبطن مصالح الناس، ومشغولة بالشأن العام كفصيل من فصائل الوطن، إلا أنها يجب أن تكون غير معنية من قريب أو بعيد بالعمل الحزبي التنافسي؛ وهي في ذلك لا تخالف منهجها في شمولية الإسلام، بل تضع إطارا جديدا يحول بين المزج أو الخلط بين العمل الدعوي والعمل الحزبي.
وقد تطرق الكثيرون لهذا الموضوع في الماضي، وكان مجالا للبحث في عدد من الدول التي تنشط فيها جماعة الإخوان بناء على تجارب متعددة ومختلفة في العلاقة بين الدعوي والحزبي، وأنا هنا لست في مجال استعراض مثل هذه الدراسات، فقد تم هذا في محافل أخرى، ولكني أتعرض لهذا الموضوع هنا انطلاقا من التجربة المصرية المحدودة في السنوات القليلة التي تلت ثورة يناير 2011، وأنا هنا أيضا لست في مجال مناقشة وتقييم تلك التجربة بالكامل، فمعظم أطرافها الرئيسيين غيبتهم السلطة العسكرية خلف الأسوار، وهم ليسوا في وضع يسمح بمشاركتهم في هذا النقاش، وأدعو الله أن يكون خروجهم قريبا، وعندها سيسمح ذلك بالمراجعة الشاملة لهذه التجربة.
ما أريد أن أركز عليه في هذا المقام هو ما أراه جوهريا من وجهة نظري، وأحد المبررات القوية لفصل الدعوي عن الحزبي من واقع التجربة المصرية، ومن واقع مراجعتي حتى لقناعاتي السابقة وتجاربي السياسية الشخصية لعدة سنوات تزخر بالأحداث والتجارب، والدروس والعبر، فقد تزامن الإعلان عن تأسيس حزب الحرية والعدالة، التأكيد على أن الحزب مستقل ماليا وإداريا عن الجماعة، وتم بوضوح إزالة أية ازدواجية بين تقلد مركز قيادي في الجماعة والحزب في وقت واحد، وضمت عضوية الحزب على الأقل نصف العدد من غير المنتمين لجماعة الإخوان.
إلا أن الإعلان كان واضحا أيضا أن الحزب هو الذراع السياسي للجماعة، مما يؤدي إلى إشكاليات كثيرة، أهمها من وجهة نظري وضع الجماعة بشكل مباشر في حالة تنافس حزبي مع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى في المجتمع، وليس في الوضع الاجتماعي والدعوي الذي يجعلها خادمة لكل المصريين، مما جعل لها وضعا اجتماعيا متميزا على مدار تاريخها، وبهذا الإعلان والممارسة تمركز قطاع كبير من المجتمع في وضع منافس للجماعة ورافض لها سياسيا، ثم اجتماعيا (برغم ما قدمته للمجتمع على مدى عشرات السنين)، وجعل الجماعة تتحمل نتيجة أية أخطاء سياسية قد يكون وقع فيها الحزب كأي حزب سياسي يجتهد فيصيب ويخطأ، وقد يفسر ذلك جزئيا (بالإضافة لحملات التشويه المكثفة بالطبع) لاتخاذ قطاعات كبيرة من المصريين مواقف رافضة للإخوان بدلا من أن يكون رفضهم أو اعتراضاتهم موجهة نحو حزب سياسي يمكن أن تتصاعد أو تتناقص شعبيته طبقا للظرف السياسي.
ما أطرحه هنا، هو أن الحزب الإسلامي ذو المرجعية الإسلامية الوسطية لا ينبغي بالضرورة أن يرتبط تنظيميا بالجماعة، بل أن هذه المرجعية، والمرونة والسعة الكامنة في الشريعة الإسلامية، تسمح بنشوء أكثر من حزب سياسي بنفس المرجعية، لكل منها اجتهاداته السياسية التفصيلية، ويمكن أن تتحالف أو تتنافس طبقا للظرف السياسي، ولا يشترط بالضرورة أن ينضم أعضاء الجماعة لواحد منهم بعينه، لأنه ببساطة لا يوجد ما يسمى “حزب الجماعة” أو “الذراع السياسي للجماعة”، ناهيك على أنه لا يشترط أصلا انضمام العضو لأي حزب سياسي إن لم يكن مهتما بالعمل الحزبي التنافسي.
وهذا الطرح بطبيعة الحال يختلف جذريا عما كان سائدا، ولذلك يحتاج مناقشات واسعة لتكريس القناعة به، أو تبيان سلبياته وكيفية التعامل معها، وإيجابياته وتعظيم الاستفادة منها.
ولا يعني هذا الطرح، كما أوضحت سابقا، ألا تهتم الجماعة بالسياسة، وإنما ما أدعو إليه هو أن تبتعد عن العمل الحزبي التنافسي، فالتعبير عن الرأي في الشئون العامة، والاهتمام بقضايا الجماهير، وتكوين قوة ضغط مجتمعية دافعة للإصلاح، كل ذلك يدخل في نطاق العمل السياسي وليس العمل الحزبي (راجع مثلا دور إتحاد الشغل في تونس الذي يؤثر كثيرا على الحالة السياسية دون أن يدخل في تنافسات انتخابية حزبية).
وهذا الطرح لا يعني انسحاب الجماعة من الساحة العامة، على العكس، فهو يعيدها بقوة مرة أخرى لدائرة الثقة مع الشعب المصري بمختلف فئاته، ويوجه طاقات الجماعة إلى الدور الهام المنوط بها دعويا واجتماعيا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن، بالنظر لحالة التفكك الاجتماعي، والانحدار الأخلاقي، والانهيار الاقتصادي، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وتدهور خدمات التعليم والصحة، وكل ذلك يحتاج جهدا دعويا واجتماعيا ضخما يمكن أن تساهم فيه، بل تقوده جماعة بحجم جماعة الإخوان المسلمين، لتكون صمام أمان للمجتمع، من دون أن تكون مثقلة بأعباء حزبية تنافسية تحتاج تأهيلا وعملا تخصصيا ينبغي أن تضطلع به مؤسسات مختلفة في طبيعتها وتكوينها ومجالات عملها.