لنرحل سويًّا إلى ماضٍ ليس ببعيد حيث إمبراطورية المغول المسلمين بالهند، لنعيش مع أحد عباقرة الإسلام على مر العصور، ودرة تاج حكام المسلمين بالهند، أقام فيها العدل ونشر الأمن، وقهر الطغاة، وسنَّ في أساليب الحكم سنن الخير، فنظم القضاء وأصلح قوانين الضرائب، وترك للعلماء كتابًا من أجل كتب الفقه الإسلامي، إنه السلطان العظيم والإمبراطور الصالح أورانك زيب عالمكير.
نسبه
هو الإمام المجاهد العظيم أبو المظفر محي الدين محمد أورنك زيب عالمكير بن شاهجهان بن جهانكير ابن شاه أكبر بن أبي النصر محمد همايون، حفيد طاغية الهند الأكبر تيمور لنك، وأمه هي أرجمند بانو بنت آصف جاه، المعروفة باسم ممتاز محل، صاحبة مقبرة تاج محل، ولد ليلة الأحد (15 من ذي القعدة 1028هـ / 24 من أكتوبر 1619م)، بقرية دوحد في كجرات بالهند، في عهد جده جهانكير (1014 – 1037هـ / 1605 – 1627م).
في ساحة العلم والفقه
نشأ أورانكزيب نشأة علمية إسلامية متدينة، وقد تكفَّل بتربيته والاعتناء به كبار علماء عصره، ومنهم الشيخ محمد معصوم ابن الشيخ أحمد السرهندي، ولم يكن أورنكزيب كبير إخوته، ولا كان وليًّا للعهد، ولم يكن يؤمَّل له أن يلي الملك، لكن الشيخ وضع في تربيته جهده وبذل له رعايته، فنشأ نشأة طالب في مدرسة دينية داخلية بين المشايخ والمدرسين، فقرأ القرآن وجوَّده، والخط وأتقنه، والفقه الحنفي وبرع فيه، وألمَّ بعلوم عصره، وربي مع ذلك على الفروسية ودروب القتال، فإنه لما مات جهانكير وولي ابنه شاه جهان ولَّى كل من أبنائه الأربعة قطرًا من أقطار الهند، وكان نصيب أورانك زيب ولاية الدكن، فباشرها أحسن مباشرة.
وقد قرأ أورانجزيب العلم على مولانا عبد اللطيف السلطانبوري ومحمد هاشم الكيلاني، ومحي الدين بن عبد الله البهاري، وعلى غيرهم من علماء الهند، وأخذ خط النسخ وبرع فيه حتى كتب خط المنسوب، وصار مضرب المثل في جودته.
كما ظهرت عليه علامات القوة والفروسية منذ نعومة أظفاره، ففي نزهة الخواطر “أن والده كان يومًا يتفرج في البرج المشرف على نهر جمن على مصارعة الأفيال، والناس حولها، وأورانكزيب معهم وهو في 14 من عمره، وكان على فرسه، فإذا بفيل قد ثار وقصد الناس ففروا كلهم من بين يديه إلا عالمكير، فإنه ثبت على مقامه فتوجه إليه الفيل ولف فرسه بخرطومه، وصرع عالمكير من صهوة الفرس، ثم قام وسل السيف عليه ثم جاء الناس ودفعوه بالضرب والطعن وإيقاد النار وغير ذلك، وهذه مفخرة عظيمة في الثبات والعزيمة لا تجدها لغيره من أبناء الملوك في تلك السن.
أورنك زيب والصراع على السلطة
كان شاهجهان قد فُتن بفقيدته وجنَّ جنونه بتاج محل حيث رفات حبيبته، وانصرف بذلك عن تدبير أمور مملكته، فاضطربت أحوالها، وكان أورانك زيب الأخ الرابع بين إخوته، وهم دارا شكوه وشجاع ومراد يخش (مراد الله)، وكان شجاع قد تولي إمارة البنغال، وتولى مراد بخش إمارة الكجرات، إضافة إلى تولى أورانك زيب إمارة الدكن، وفي سنة 1067هـ/ 1657م حدث انقلاب من الابن الأكبر دارا شكوه على أبيه واعتقله، وبسط يده على البلاد وصار هو المرجع والسلطان.
فلم ترض نفوس إخوته بذلك ونهض كلٌّ من إمارته ناحية أخيهم، ودارت معارك شديدة بينهم، انتهت بانتصار أورانك زيب على إخوته، ثم قتلهم -رغمًا عنه لكرهه الدماء وإثاره الصلح بين إخوته – لأمور صدرت منهم، وأفتى العلماء أنهما استوجبوا القتل، وحبس والده في قلعة أكبر آباد، وهيَّأ له ما يشتهيه من الطعام والشراب، وأهل الخدمة من الجواري والغلمان، وظل في محبسه ثماني سنوات حتى وفاته 1076هـ/ 1666م.
وبذلك جلس أورنجزيب على سرير الملك سنة 1068هـ/ 1657م، وكان وقتها عنده من العمر أربعين سنة، وبذلك صفا الجو لأورانكزيب، وكأنما ساقته العناية الإلهية ليكون حاكمًا فذًا، وليصبح على مر التاريخ مثالاً طيبًا للحاكم المسلم، الذي يعتز المسلمون به وبسيرته الصالحة، وذلك على الرغم مما صاحب اعتلاءه العرش من سفك للدماء.
أعظم ملوك المغول
يكاد يجمع المؤرخون أن أورانك زيب أعظم ملوك المغول المسلمين على الإطلاق، فقد بلغت الدولة الإسلامية في عهده الذروة التي لم تبلغها قبله أو بعده، حكم أورانك زيب حوالي خمسين عامًا، لم تَخْلُ من المتاعب والحروب، بل كانت سلسلة متتابعة من الحروب هنا وهناك، وكثيرًا ما كان أورنجزيب على رأس جيشه، يباشِر تأديب أعدائه بنفسه، ويضمُّ ممالكَ جديدةً إلى رُقعة مملكته، حتى إنه لم يَعرِف طعم الراحة والإقامة الهنيئة في عاصمة مُلْكِه، قال أبو الفضل المرادي الحسيني صاحب سلك الدرر واصفا حاله: “سلطان الهند في عصرنا، وأمير المؤمنين وإمامهم، وركن المسلمين ونظامهم، المجاهد في سبيل الله، العالم العلامة الصوفي العارف بالله، الملك القائم بنصرة الدين، الذي أباد الكفار في أرضه، وقهرهم وهدم كنائسهم وأضعف شركهم، وأيّد الإسلام، وأعلى في الهند مناره، وجعل كلمة الله هي العليا”.
ولقد شهدت دولة الهند في عهده أقصى امتداد لها وذلك بفضل الجهود العسكرية التي بذلها رحمه الله، حيث لم يبق إقليم من أقاليم الهند إلا خضع تحت سيطرته، بل اتسع سلطانه ليشمل الهند وآسام وأراكان في بورما، وكذلك أفغانستان، وكانت تلك هي الذروة التي وصل إليها ملك المغول، فكان امتداد دولته من سفوح الهمالايا في الشمال إلى شواطئ البحر في الجنوب.
غير أنه نشبت في عهده مجموعة من الثورات والحروب، مثل ثورة الراجبوت فقد نقضوا فيها عهدهم، وامتنعوا عن دفع الجزية، فأرسل لهم أورانكزيب ابنه محمد أكبر، فقضى على ثورتهم عام 1090هـ، كما تمرَّد المراهتا، وهم جماعة من الطبقات الدنيا في المجتمع الهندي لهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصَّة، ويسكنون شمال بومباي وجنوبها، وكان أميرهم “سيفاجي”، يتحيَّن فرص ضعف الدولة المغولية أو انشغالها بحربها مع الدُّول أو الثورات الأخرى، ليُعْلِنَ العصيان على الدولة، فصَكَّ النقود باسمه، وهاجم قوافل الحجاج في مدينة “سورت”، وكان الحُجَّاج يُبحِرُون منها للحجاز قبل ميناء بومباي، وظلَّ ثائرًا محاربًا للمغول حتى طلب العفو والصفح، فعفا عنه محمد أكبر، وأقطعه بعض الأراضي في برار، وظلَّ أورنك زيب معنيًّا بالمراهتا حتى انتهى من أمرهم تمامًا عام 1116هـ / 1705م.
أما الشيعة الصفويون فقد استطاع رحمه الله أن يستولي على مملكتهم في كولكندة، وخاصة بعد أن تعاونوا مع الثائرين ضده بالمال والسلاح، ولم يوفوا بتعهداتهم بدفع الجزية وبعدم سب الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك سنة 1098هـ/ 1687م.
وهكذا رأينا كيف قضى هذا الإمبراطور حياته محاربًا، يتخذ من ميادين القتال سكنه الدائم، وكأنما خلق هو لحياة النضال، لا لحياة القصور، وما فيها من متاع، لم يمنعه من ذلك عمره الذي بلغ التسعين، ومات وهو في ميادين القتال بعيدًا عن عاصمة ملكه دلهي.
سياسته في ملكه
عندما جلس أورانك زيب على سرير الملك بدأ يسير على منهاج النبوة وسنة الخلفاء الراشدين، فرفع راية الجهاد على الهندوس والصفويين، وأعلى شعائر الإسلام، فقد كان ينظر في شؤون الرعية من أدنى بلاده إلى أقصاها بمثل عين العقاب، كما كان يبطش بالمفسدين بمثل كف الأسد، فأسكن كل نأمة فساد، وقضى على كل بادرة اضطراب، ثم أخد بالإصلاح فأزال ما كان باقيًا من الزندقة التي جاء بها جلال الدين أكبر أبو جده، وسن للضرائب سنة عادلة وأوجبها على الجميع، وأصلح الطرق القديمة، وشق طرقًا جديدة، حتى أن طريقًا واحدًا منها كان يمشي فيه المسافر ثلاثة أشهر، وكانت تحفه الأشجار من الجانبين على طوله، وتتعاقب فيه المساجد والخانات.
كما بنى المساجد في أقطار الهند، وأقام لها الأئمة والمدرسين، وأسس دورا للعجزة، ومارستانات للمجانين، ومستشفيات للمرضى. وأقام العدل للناس جميعا فلا يكبر أحد أن ينفد فيه حكم القضاء، وكان أول من جعل للقضاء قانونًا، وكان يحكم في القضاء بنفسه لا حكمًا كيفيًا بل حكماً بالمذهب الحنفي معللاً ومدللاً، وكان له امتيازات فألغاها، وجعل نفسه تابعًا للمحاكم العادية، ولمن له عليه حق أن يقاضيه به أمام القاضي مع السوقة والسواد من الناس.
وفي عام 1082هـ/ 1672م قام أورانك زيب بفرض الجزية على الهندوس، تنفيذًا لتعاليم الإسلام، بعد أن ألغاها أجداده لمدة تزيد عن مائة عام كاملة، وفي المقابل ألغى بعض الضرائب التي لم تفرضها الشريعة، وأعفى الهندوس وغيرهم منها، ولم يكن هدفه من ذلك الإذلال لبعض رعاياه، أو تعصبًا أو أخذ مال وكفى، وإنما كان الغرض أن يصبغ دولته بالصبغة الإسلامية، التي تحترم حقوق الآخرين وحرياتهم في حدود القانون، فحين أشير عليه بفصل الموظفين الذين لا يدينون بدين الدولة من المناصب العامة، كتب يقول: “إن الدين لا علاقة له بالمسائل العلمانية، وهذه المسائل التي نحن بصددها لا مجال فيها للتعصب”.
وما زال المسلمون ينظرون إلى أروانك زيب نظرتهم إلى أولياء الله الصالحين، ولم تستقر هذه الفكرة في أذهان المسلمين على مر القرون عبثًا، فإن ما عرف عنه من تدينه وورعه وزهده وتمسكه بتعاليم الشريعة يرتفع به إلى هذا المقام بلا شك.
مآثره وخلاله
ذكر عبد الحي بن فخر الدين بن عبد العلي الحسني الطالبي صاحب نزهة الخواطر جملًا من مآثر أورانك زيب عالمكير، قلَّما تتوفر إلا في الصالحين من الملوك والعظماء من الخلفاء، ومنها باختصار، أنه:
– كان عالمكير عالمًا تقيًا ورعًا، يتدين بالمذهب الحنفي لا يتجاوز عنه في قول ولا فعل.
– كان يعمل بالعزيمة، ويصلي الصلوات في أوقاتها في المسجد، ويقيم النوافل كلها، ويصلي صلاة الجمعة في الجامع الكبير.
– كان يصوم في رمضان في شدة الحر، ويحيي الليل بالتراويح، ويعتكف في العشر الأخير في المسجد، وكان يصوم يوم الإثنين والخميس والجمعة في كل أسبوع من أسابيع السنة، ويصوم في أيام ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم فيها.
– كان يخرج الزكاة من أمواله قبل أن يجلس على سرير الملك وبعده.
– كان يريد أن يرحل إلى الحرمين الشريفين للحج والزيارة في أيام والده فلم يرض بفراقه، وبعد ذلك لم تمهله المصالح الملكية، ولكنه كان يرسل الناس إلى الحرمين الشريفين للحج والزيارة، ويبذل عليهم العطايا الجزيلة، ويبعث إليهما أموالًا طائلة لهل الحوائج في أيام الحج بعد سنة أو سنتين.
– يوظف الذاكرين والذاكرات ويجعل لهم الأرزاق السنية، ويداوم على الطهارة بالوضوء، ويحافظ على الأذكار والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أوقاته، ويحيى الليالي المتبركة بالصلاة والصدقة وصحبة العلماء والمشايخ في المسجد.
– وكان يحترز عن كل سوء ومكروه منذ نعومة أظفاره، لم يشرب الخمر قط، ولم يقارب امرأة لا تحل له، وما كان أن يلبس الملبوسات غير المشروعة وما كان أن يأكل في الظروف الذهبية والفضية، وأمر أن يصاغ الجواهر الثمينة في الحجر اليشب مقام الذهب، وكان يأمر الأمراء بذلك ومنعهم من الغيبة والنميمة وأمرهم أن يعبروا عن الأمور المستكرهة إن وقع لهم حاجة إلى ذلك بكناية واستعارة.
– وكان موزعًا لأوقاته، فوقت للعبادة ووقت للمذاكرة ووقت لمصالح العساكر ووقت للشكاة ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة عليه كل يوم وليلة من مملكته لا يخلط شيئًا بشيء.
– وكان يجلس للمذاكرة في الكتب الدينية كالإحياء والكيمياء والفتاوي الهندية وغيرها في كل أسبوع ثلاثة أيام على العلماء.
– من مآثره الجميلة أنه حفظ القرآن الكريم بعد جلوسه على سرير الملك، فأرخ بعض العلماء لبدء حفظه من قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، ولتمامه من قوله {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22].
– ومنها أنه كانت له معرفة بالحديث، له كتاب الأربعين جمع فيه أربعين حديثًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتولى المملكة، وله كتاب آخر جمع فيه أربعين حديثًا بعد الولاية وترجمهما بالفارسية وعلق عليهما الفوائد النفيسة.
– ومنها أنه كان بارعًا في الخط، كتب مصحفًا بيده قبل جلوسه على السرير، وبعثه إلى مكة المباركة، وبعد جلوسه كتب مصحفًا آخر وأنفق عليه سبعة آلاف روبية ثم بعثه به إلى المدينة المنورة.
– ومن ذلك أنه بذل الأموال الطائلة في بناء المساجد، وبنى مساجد كثيرة في أرض الهند وعمَّر القديمة منها، وجعل الأرزاق للأئمة والمؤذنين والرواتب للمساجد من بسط وسرج وغير ذلك، من هذه المساجد مسجد “بادشاهى” في لاهور بباكستان الآن.
– ومن ذلك أنه كان يرسل العطايا الجميلة إلى أهل الحرمين الشريفين بعد سنة أو سنتين، ويشترطها بأن تعطى لأهل الحاجة غير الأغنياء.
– ووظف خلقًا كثيرًا من العلماء والمشايخ اشتغلوا بالعلم والعبادة منقطعين فارغي القلوب عن كل هم، ولم يفرق فيها بين أهل الإسلام وكفار الهند.
– وكان مجبولًا على العدل والإحسان، وفصل القضاء وفق الشريعة [14].
– وكان رحمه الله لا يستمع للغناء بالمزامير منذ جلس على سرير الملك، مع أنه كان ماهرًا بالايقاع والنغم، وصرف الموسيقين والمغنيين عن قصره، وروي أنه كان يومًا خارج قصره فرأى الموسيقيين والقينات يلبسون السواد ويبكون ويحملون نعشًا، فسأل ما هذا ؟ قالوا: “هذا الغناء والمعازف نذهب لدفنها”، فقال: “إذن أحسنوا دفنها لئلا تقوم مرة أخرى”.
– وقد روي عنه أنه لم يكن يعطى عالمًا عطية أو راتبًا إلا طالبه بعمل، بتأليف أو بتدريس، لئلا يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلا حق وكتمان العلم.
– وهو أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد، يُتخذ قانونًا، فوضعت له وبأمره وبإشرافه وتحت ناظره كتاب “الفتاوى الهندية – العالمكيرية” على المذهب الحنفي، بإشراف الشيخ العلامة نظام الدين البرهانبوري، في ستة مجلدات كبار فاشتهرت في الأقطار الإسلامية قاطبة، وعمّ النفع بها وصارت مرجعًا للمفتين، وقد أنفق على جمعها مائتي ألف من النقود، وتعتبر تلك الفتاوى من أعظم المنجزات الحضارية للسلطان أورانك زيب.
أورانك زيب والإنجليز
خلال القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي كان التنافس بين الدول الغربية بلغ حد السعار في القضاء على دولة الإسلام، وكذا الاستيلاء على أراض جديدة ومغانم وفيرة من خارج بلادهم، فاتجهوا نحو بلاد الشرق الإسلامي، وقد اتخذ الإنجليز ستار التجارة يخفون به أهدافهم الاستعمارية البغيضة، وصدر مرسوم بإنشاء أول شركة إنجليزية سنة 1009هـ / 1600م، وقد اعتمد الإنجليز وسيلة الحيلة والتودد لحكام المسلمين في الهند وتقديم الهدايا المختلفة لهم، فما كانوا في نظر حكام الهند إلا تجارًا مرتزقة؛ لذلك لم يعنوا لهم عظيم اهتمام، وذلك منذ عهد جلال الدين أكبر وشاهجهان.
وقد استغل الإنجليز سماحة أورانك زيب فمدوا نفوذهم إلى بومباي بالساحل الغربي، وعمدوا إلى مناهضة الدولة، وأصبح لشركتهم فروعًا في كل ربوع الهند تقريبًا، وحدثتهم أنفسهم بفرض سلطانهم على بعض أملاكه في البنغال، مما دفع أورنكزيب أن يوجه لهم ضربة قاصمة ويستولي على مراكزهم وأموالهم، فاضطروا لطلب الصلح ودفع غرامة مالية كبيرة، وذلك سنة 1101هـ/ 1689م، إلا أنه رحمه الله تراجع عن الشدة معهم فسمح لهم في السنة التي تليها بإنشاء مركز وتحصينه في كلكتا سمي “حصن وليم”.
أخذ الإنجليز في توحيد جهودهم التجارية على ساحل الهند في شركة واحدة هي شركة الهند الشرقية، غير أنها لم تستطع أن تفرض نفوذها على جزء من أراضي الهند التي كانت في حكم الإمبراطور القوي أورانك زيب، ولم يكن يدري السلطان بما أقدم عليه من سماحة وتساهل مع الإنجليز أنه يمهد الطريق لهم للاستيلاء على الهند جملة، وهم الذين لم يتورعوا عن أحط السبل وأدناها للاستيلاء على هذه البلاد وتحقيق أطماعهم.
ولكن بعد وفاة أورانك زيب سنة 1118هـ/ 1707م بدأت الدولة القوية في الضعف والتفكك، وأخذت الحكومات المستقلة تتكون في المناطق المتعددة، وتقوم الخلافات والحروب بينها، فكان من حسن حظ المستعمرين الصليبيين، فقد بدأوا عمليتهم الحقيقية في السيطرة وكسب الزمن والبلاد إلى جانبهم، وانقضت النسور الجائعة على الجسم المريض تنهشه وتزيده ضعفًا من كل جانب، إلى أن تمكن الإنجليز منفردين من استعمار الأراضي الهندية، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ سطَّر فيها المسلمون في الهند نماذج مشرفة من الثورة والجهاد.
وفاة السلطان أورانك زيب عالمكير
وبعد حياة طويلة من الإصلاح والجهاد توفي رحمه الله في أحمد نكر في الجنوب بعيدًا عن عاصمته بألف وخمسمائة كيلو، وذلك في 28 ذي القعدة سنة 1118هـ/ 20 فبراير 1707م، بعد أن حكم 50 سنة، وعمره نحو تسعين سنة، ودفن في أورنك أباد، ولا زال قبره هناك.
وبوفاة السلطان أورانك زيب انتهت عظمة دولة المسلمين في الهند، فجاء من بعده حكامًا ضعافًا، يتحكم الإنجليز في توليتهم وعزلهم، وظل الأمر كذلك حتى انتهت تمامًا بسقوط آخر سلطان مسلم في الهند “بهادور شاه الثانى” عام 1274هـ/ 1857م، وفعل الإنجليز ما لا يمكن لعقل أن يتصوره ولا لضمير أن يتحمله، حتى تبرأ عقلاء الإنجليز من أفعال أبناء قومهم الوحشية، حيث قاموا بذبح أبناء بهادور شاه الثلاثة أمام عينيه، وعملت له وجبات من لحومهم، وأجبروه أن يأكل منها.
وبعدها لم تقم للإسلام قائمة منذ ذلك الزمن في تلك البلاد الشاسعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ها هي سيرة أورانك زيب عالمكير الإمبراطور الصالح الذي لم تشغله دنياه وحروبه المتتالية عن دينه وآخرته، فكان حاكمًا لم تشهد الهند مثله في اتساع ملكه وصلاح خلقه، وحسن سيرته وسريرته، فكان حقًّا بقية الخلفاء الراشدين.