في السنوات الـ 15 الأخيرة، وتحديدًا منذ العام 2000، تغول حزب الله بلبنان، وتعاظم دوره ليبتلع الدولة بالكامل، وبات هو المحرك الرئيس لسياستها، في ظل انزواء كبير للقوى السيادية والأحزاب المؤثرة الأخرى، وعلى رأسها قوى 14 آذار التي رأت أن تنصاع للموجة الشعبية العاطفية الداعمة لحزب حسن نصرالله في ذلك الوقت.
وفي السنوات التي تلت الثورة السورية، تحول موقف حزب الله من قوى ممانعة بالداخل اللبناني المفروض أنها تعمل ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، وباقي الأراضي العربية، إلى لعبة عدائية وتدخلات عسكرية مباشرة بكل من العراق وسوريا واليمن والبحرين والكويت، ليسقط الحزب ورقة التوت التي كانت تغطي عورته أمام اللبنانيين أنفسهم، قبل باقي الدول العربية، وجاءت أزمته الأخيرة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي لتضع القوى السيادية اللبنانية، خصوصًا 14 آذار في موقف لا تحسد عليه، هل ستواجه الحزب المصنف إرهابيًا ، أم ستستمر في مهادنته على حساب الدولة لبنان؟
ماضٍ مخز
قبل الخوض في السيناريوهات المتوقعة لتحركات القوى السيادية اللبنانية، لنبحث في ماضي نشأة الحزب، وعلاقته بإيران، فالمتابع لتحركات الحزب منذ نشأته في العام 1982، وبداية دخوله المعترك السياسي عام 1985، يتأكد تماما أنه ليس حزبا سياسيا بالمعني المعروف، باعتباره مجرد إمارة تتحرك بأيدي الحاكم الإيراني وولي الفقيه، ونصر الله ليس كرئيس حزب طبيعي، يتصرف ويتحرك في العلن، كما يفعل نبيه بري أو سعد الحريري أو العماد عون في لبنان، بل رجل دولة ينفذ تعليمات وتوجهات ربما تبتعد أو تقترب – لا يهمه – عن المصالح اللبنانية التي يرتع في أرضها، فالمهم هو رضى كفيله في طهران.
تاريخيًا الكل يعلم أن علاقة حزب الله بالمقاومة تمامًا مثل علاقة داعش بالإسلام، فكلاهما يسعى لغطاء لجذب أتباعه، للتغطية على جرائمهما البشعة، فالحزب منبثق عن حركة أمل الشيعية التي ارتبطت تاريخًيا بأعمال وحشية وجرائم بشعة.
سبق الوجود التنظيمي لحزب الله في لبنان في العام 82 قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة آية الله الخميني، ما شكل دافعًا قويًا لنمو حزب الله، للارتباط المذهبي والسياسي بين الطرفين، حتى إن البيان التأسيسي للحزب جاء فيه إنه “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”.
الموقف السعودي وسيناريوهات مخيفة
بهذا تنتهي جدلية الممانعة والمقاومة لحزب الله، وتخرج من طورها السياسي المؤسسي، إلى آلة إيرانية تعبث بالداخل اللبناني وبالمنطقة ككل، واليوم بات الأمر جليًا فالحزب يعمل على تفتيت القوى السنية بالمنطقة لصالح الدولة الفارسية، فهل تتصدى لها قوى الداخل اللبنانية أم ستسمح له بابتلاع ما تبقى من لبنان؟
على أرض الواقع، الإعلان السعودي المفاجئ برفض استمرار العلاقة مع الدولة اللبنانية في حال لم تدخل تعديلاً على سياساتها حيال “حزب الله” الذي يتخذ من لبنان منطلقًا لمواجهة السعودية والدول الخليجية وضع القوى السيادية، وتحديدًا فريق 14 آذار، أمام خيارين، أولهما برؤى المحللين هو انتهاز فرصة الغضبة الخليجية، ودخول الدول الخليجية في مواجهة مع الحزب، للتمسك بهذ التحول والبدء في تحرك مواز له على الأراضي اللبنانية، بعيدًا عن ماضي التنازلات التي كانت تقوم بها من مبدأ “الواقعية السياسية وأولوية الاستقرار”، وهو خيار يمكن تبريره من تلك القوى بأن لبنان كدولة لا يمكنها استعداء دول العالم لخوض معارك إقليمية وأيديولوجية على أرضها مثلما الحال بسوريا واليمن.
في المقابل يبرز التساؤل الهام، هل لدى تلك القوى خصوصًا قوى 14 آذار وتيار المستقبل، الجاهزية لتلقف تلك التطورات والعمل بمقتضاها على الأراضي اللبنانية فيما يخص مبادئ السيادة؟
ما يشعر تلك القوى بالتخوف من نتائج تحركها ضد حزب الله، الذي يمتلك قوى عسكرية وتمويلاً لا تملكه، هو أن التصدي الخليجي ذاته أمر غير مضمون، وقد يختلف غدًا عن اليوم ما بين المواجهة والممانعة، ومحاولة التأثير والاكتفاء بالتصريحات، لكن الموقف الخليجي بالمقابل قد لا يبدأ تحركاته ضد الهيمنة السيادية لحزب الله على الأوضاع الداخلية بلبنان، مالم تتحرك القوى الداخلية ، فكيف نطالب دول الخليج أن تكون ملكية أكثر من الملكيين، كيف تخاطر بتحرك عدائي ضد الحزب ومن خلفه إيران، وأعداءه بالداخل لازالوا قانعين بفكرة المهادنة ضد سياسات الحزب التي ترتد سلبًا على البلد، وهنا لسان حال الدول الخليجية ومواطنوها وساستها يقول: ” لن نكون في موقع الدفاع عن لبنان، طالما أنه يرفض الدفاع عن نفسه”.
المنطق السياسي يقول بأن القوى السيادية اللبنانية عليها التحرك، بالتوازي مع الهجمة الخليجية على الحزب واستغلال الموقف سياسيًا لفرض وجهة نظرها، فكيف لأي مكون سياسي داخلي أن يتجاهل التطورات السياسية المؤثرة على البلاد ككل، وما هي المكاسب من تعريض مصالح لبنان واللبنانيين للخطر، مقابل الحفاظ على علاقات المهادنة مع حزب معروف للمتابعين بالخارج قبل الداخل توجهاته وأهدافه، كونه يخوض معاركه من دون أن يأخذ في الاعتبار المصلحة اللبنانية، بل أصبح دوره يشكل خطرًا على لبنان.
مفاوضات وضغوط
خيار آخر تروج له بعض القوى السياسية الداخلية يعمل على الهدوء في التعاطي مع الأمر على اعتبار أن زيادة حدة التوتر ستؤدي إلى الإضرار بلبنان، وسيسمح بزيادة من التدخل الإيراني، وبشكل علني لدعم موقف حزب الله، وهو ما يثير التخوف من احتمال أن تسعى إيران عبر ميليشيات حزب الله إلى اختراع حرب أهلية طائفية لتخفيف الضغط عليها، وبالتالي لا مصلحة لبنانية ولا خليجية بتحول الساحة اللبنانية إلى ساحة قتال تعيد تدمير كل المساهمة الخليجية في إعادة إعمار هذا البلد بعد حرب 1990، كما تدخل لبنان في دوامة من العنف يصعب التعاطي معها.
ويعمد أصحاب هذا الخيار إلى سيناريو التفاوض السياسي وليس العسكرة، معتمدين على أن لحظة التفاوض الخليجي مع إيران بشأن اليمن وسوريا قادمة لا محالة، ووقتها من الممكن أن تلجأ دول الخليج للضغط على الدولة الفارسية برفض أي حل إقليمي ما لم ترفع يدها وحزبها عن لبنان، وتجبر الحزب على تسليم السلاح للدولة، ويكتفي فقط بدوره السياسي الداخلي وليس الإقليمي، وهو للأمانة خيار مستحيل التحقق على المدى القريب.
تدويل وتحجيم
خيار ثالث يرى أن تدويل القضية اللبنانية بعد تعريبها، يساهم في جعل دور “حزب الله” الإقليمي واللبناني وآليات تحجيمه، على قائمة المفاوضات الدولية مع طهران حول دورها المستقبلي بالمنطقة، مع ضرورة مواصلة الدول الخليجية دعمها السياسي والاقتصادي والعسكري للجيش اللبناني، لتحقيق مبدأ التوازن مع دويلة حزب الله في الداخل.
خلاصة الخيارات التي يراها المحللون أن إلهاء حزب الله بالداخل، ومحاولة تحجيم دوره يجعله يسعى بدعم إيراني إلى استحداث حرب طائفية، تقضي على الأخضر واليابس، الخاسر فيها هو المواطن اللبناني، في المقام الأول، خوفًا من أن إيران قد تسعى لما يمكن توصيفه بـ”سورنة” أو “عرقنة” لبنان، ويبقى السؤال الجدلي: ماذا لو قررت الدول الخليجية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع لبنان؟ الإجابة لدى 14 آذار وتيار المستقبل فقط.