ترجمة حفصة جودة
للعلم طابع خاص وسلطة هائلة في ثقافتنا – لأسباب مفهومة جدًا – الأمر الذي أدى بالعلماء (وغير العلماء الذين يرتدون عباءة العلم) للمطالبة بالسلطة العامة، وهو أمرٌ جيد في مجال خبراتهم، لكن تظهر المشكلة عندما يطالبون بالسلطة في مجالات لا يمتلكون بها بعض الخبرة.
أحد هذه الأمثلة التي ظهرت مؤخرًا، هو بيل ناي، المعروف باسم “رجل العلوم” والذي لا يُعتبر عالمًا حقيقيًا، ولكنه يدين بمهنته كمقدم برنامج ترفيهي مشهور إلى خبراته العلمية المزعومة، وكان ناي قد سُئل مؤخرًا عن رأيه حول ما إذا كانت الفلسفة “عملاً نبيلاً”.
تقول أوليفيا جولدهيل في صحيفة كوارتز بأن إجابة ناي هي تأكيد ذاتي على أنه جاهل بصورة كبيرة، وإليكم ما قالته جولدهيل:
“من الصعب مشاهدة ذلك الفيديو الذي أصاب مجتمع الفلسفة في الولايات المتحدة بأكمله باختناق أثناء تناول قهوة الصباح، لأن معظم إجابات ناي كانت خاطئة، ليست فقط خاطئة نوعًا ما، لكنها خاطئة بشكل سخيف، فقد قام بدمج أسئلة الوعي والواقعية كأنها موضوع واحد، وأساء تفسير مقولة ديكارت (أنا أفكر، إذا أنا موجود)، لقد أشرت إلى مثالين فقط من عدة أمثلة”.
سقط ناي في نفس الفخ الذي سقط فيه نيل تايسون وستيفن هوكينج، فرجال العلم هؤلاء يرون أن الفلسفة لا طائل منها بشكل كبير، لأنها لا تمنحنا تلك الأجوبة المؤكدة التي يمنحها العلم، وهي بذلك تعادل أو تفوق التخمين قليلاً.
هناك ذرة من الحقيقة في هذا الأمر، فالفلسفة لا تمنحنا اليقين الذي تمنحنا إياه الرياضيات والعلوم التجريبية، – وحتى في ذلك الأمر، يري بعض الفلاسفة أن هذه المجالات لا تمنحنا اليقين الذي تدّعيه – ولكن هذا لا يعني أن الفلسفة لا قيمة لها، وأنها ليست دقيقة.
في الحقيقة، وبشكلٍ ما، الفلسفة أمر لا مفر منه، فالقول بأن الفلسفة لا طائل منها هو تفلسف أيضًا، بالإضافة إلى ذلك، فهناك بعض الأسئلة الوجودية التي لا يمكن الفكاك منها ببساطة، والفلسفة من أفضل الطرق، أو أقلها سوءًا، التي نستطيع من خلالها التعامل مع تلك الأسئلة.
علاوة على ذلك، ومن الناحية العملية، جميع المؤسسات التي تجعل الحياة الحديثة ممكنة، بما في ذلك العلم التجريبي، وبعض الأشياء مثل رأسمالية السوق الحرة، دولة الخدمات الاجتماعية، الديموقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان والكثير غيرها، جميعها تقوم على الفلسفة.
كل هذه الأشياء هي مؤسسات ثقافية، وقد أصبحت موجودة لأن العديد من الناس يجدون أن بعض الأفكار ذات قيمة ويقررون التصرف على هذا الأساس، ومن الناحية التاريخية، سبب وجود المنهج العلمي الحديث، هو أن الناس قد اخترعوه، ومن ضمنهم الفلاسفة مثل فرانسيس بيكون، وقام بصقله فلاسفة آخرون مثل كارل بوبر، وإذا ضاعت هذه الأفكار التي تقوم عليها هذه المؤسسات الثقافية أو أُسيء فهمها، فقد تتعطل هذه المؤسسات، وهذا هو حال الكثير من العلوم، الأمر الذي يعني أننا بحاجة، على الأقل، للنخبة التي تستطيع فهم هذه الأفكار.
بدلًا من ذلك، أصبحت ثقافتنا أميّة فلسفيًا بشكل كبير، فكل يوم يمكنك أن تجد أمثلة كثيرة لأشخاص تظهر عليهم الأمية الثقافية بشكل مذهل، بينما يتقلدون من المناصب ما يتطلب أن يكونوا مثقفين؛ فالتراث الفلسفي العظيم الذي بُنيت عليه حضارتنا، لم يعد يُدرّس بشكل كبير، حتى مناهج “الفنون الحرة” في العديد من المدارس، لا تقوم بتدريس أكثر المفكرين تأثيرًا، وإذا لم يتم تعليم النخبة هذا التراث العظيم، فلن يكون مفاجئًا عندما نجد بعض من هذه النخبة – العلماء التجريبيون ومن حذا حذوهم – لا يعرفون عن ذلك شيئًا.
هذا الأمر هو جزء من المشكلة، لكنه مجرد جزء، فبشكل جماعي، العلماء لديهم مصلحة موضوعية واضحة في أن يتم تعريف العلم التجريبي على أنه الطريق الوحيد للمعرفة القيمة، وعليه فمن مصلحتهم ازدراء الطرق المعرفية الأخرى واعتبارها أقل فعالية، لذا فعلى الأشخاص الذين يستمعون لآراء العلماء في الفلسفة أن يضعوا ذلك الأمر في اعتبارهم.
أحد العوامل المؤثرة الأخرى، هو أن الكثير من العلماء – ليس جميعهم بالتأكيد – الذين يقولون بعدم جدوى الفلسفة هم ملحدون بشكل عام، هذا النوع من الإلحاد الذي يروجون له يُعرف باسم “المادية الإقصائية” أو الفكرة القائلة بأن المادة هي الشيء الوحيد الباقي.
الدافع وراء هذه النظرية هو “المذهب العلمي” والذي يقول إن الطريق الوحيد للمعرفة هو العلم، وللمفارقة فهذا الافتراض يقوم على أساس ديني، فرفض مساحات كاملة من التجربة الإنسانية والفكر الإنساني، يتطلب منا خوض مغامرة إيمانية، كما أن هؤلاء العلماء ليسوا أذكياء دينيًا منذ أن انتهى بهم الأمر بترديد مقترحات غير ملائمة.
الأصولية ليست نظامًا إيمانيًا أو دينيًا، لكنها حالة ذهنية، فهناك أصولية دينية، إلحاد أصولي، اشتراكية أصولية، وأصولية تحررية، الأمر المشترك بينهم جميعًا نجده في كلمات ديفيد بينتلي هارت، وهو “الرفض العنيد للتفكير”؛ فالأصولي، ليس ذلك الشخص الذي لديه أفكار بسيطة جدًا أو صريحة جدًا، لكنه الشخص الذي يرفض بعندٍ التفكير بالأفكار الأخرى أو بأفكاره ذاتها، وللأسف، كثير من أعظم مفكرينا هم مثال واضح على هذه الحالة الذهنية.
المصدر: ذا ويك