ترجمة وتحرير نون بوست
“للإطاحة برجل سيء واحد، فتحنا الباب للكثيرين”، هذا ما كتبه وائل إبراهيم على اللافتة التي كان يحضّرها ليخرج بها ضمن المظاهرة المناهضة للحكومة التي يخطط لها مع رفاقه من النشطاء الديمقراطيين في مدينة حلب السورية، لقد كان ذلك بتاريخ فبراير 2013، حيث كان إبراهيم، وهو سائق شاحنة أصبح زعيمًا ضمن الاحتجاجات المناهضة للرئيس بشار الأسد، يحاول الحفاظ، بأفضل الطرق الدبلوماسية، على روح الثورة الأصيلة دون الإساءة إلى الفئة الصاعدة حديثًا وبشكل متزايد من المتشددين الإسلاميين.
فشلت جهود ابراهيم بالمحصلة؛ فالرجل الذي رمى بنفسه في قلب الصراع ضد الحكومة الديكتاتورية، تعرض للتهديد وللمضايقة وللاعتقال في نهاية المطاف من قِبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولم يظهر أو يُسمع عنه منذ ذلك الحين.
أصبح إبراهيم، الذي كان قد اكتسب شهرة في حلب تحت اسمه الحركي أبو مريم، ضحية أخرى من ضحايا محاولات نشر الديمقراطية الفاشلة في الشرق الأوسط، والتي تسميتها، قبل نضجوها، باسم الربيع العربي.
من مصر إلى اليمن، ومن ليبيا إلى البحرين، فشلت آمال الحرية والأمل المزهرة التي انطلقت في منطقة الشرق الأوسط منذ خمس سنوات بشكل أشد إذهالًا مما كان يمكن أن نتصوره حينما احتشد المواطنون ليهتفوا للحرية في شوارع مدن ودول المنطقة بأكملها.
يصادف يوم الثلاثاء القادم الذكرى الخامسة لأول احتجاج سلمي خرج في سوريا، حيث تعيش الدولة هذه الذكرى في ظل الحرب الوحشية التي امتصت إلى دوامتها القوى العالمية، وغذّت صعود المتطرفين كأمثال داعش، ويتزامن ذلك مع خوض ليبيا واليمن لصراعات داخلية وحشية كذلك.
في بلدان أخرى، كمصر، أعادت الأنظمة الاستبدادية سيطرتها على زمام الأمور، وباشرت سياساتها الانتقامية، مضيّقة الخناق على الحريات بشكل أكثر شراسة حتى مما كان عليه الحال قبل اندلاع المظاهرات.
في جميع تلك البلدان، باستثناء تونس، تم إسكات المعتدلين الذين كانوا يهيمنون في الأيام الأولى من انطلاق الثورات، حيث تعرضوا للسجن، للملاحقة، أو طردوا إلى المنفى، سواء من جانب الحكومات التي تسعى إلى قمعهم أو على يد المتطرفين الذين شغروا الفراغ الذي نجم عن انهيار سلطة الدولة.
السؤال الحقيقي يمكن فيما إذا كان أولئك المحتجون الذي بزغوا في بواكير انطلاق الثورات يمثلون الشارع بشكل حقيقي، كما يقول رامي نخلة، أحد أبرز قادة الاحتجاجات السورية في وقت مبكر من اندلاعها، ومدير لجان التنسيق المحلية من منفاه في بيروت.
يتساءل نخلة، الذي يعيش الآن في مدينة غازي عنتاب بجنوب تركيا قرب الحدود السورية، وهي مركز للعديد من الناشطين السوريين الذين أجبروا على الفرار، عمّا إذا كان الناشطون الديمقراطيون يمتلكون أي فرصة للنجاح في أي وقت مضى، “لقد تم رهننا أمام خيارين: إما الاستبداديين أو الإسلاميين المتطرفين” قال نخلة، وتابع: “هل يجب علينا أن نقبل بهذه المعادلة؟ إما أن نؤيد الدكتاتورية أو التطرف الإسلامي؟”.
يصف شادي حميد، من معهد بروكينجز في واشنطن، هذه الخيارات بالزائفة، ولكنه يعترف بأنها ساعدت توأم الاستبداد (الأنظمة الاستبدادية والمتطرفين الإسلاميين) على تحييد أثر الربيع العربي؛ فحتى قبل اندلاع الثورات، أثارت الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة شبح التطرف الإسلامي لتخويف المواطنين العاديين وإجبارهم على الخنوع، ولتبرير نهجها العنيف أمام القوى الأجنبية، وحينها استغل المتطرفون مناخ الخوف لكسب المجندين وتبرير أساليبهم الوحشية.
“كلًا من الأنظمة الاستبدادية والجماعات المتطرفة مثل داعش، يعتمدان على العنف والقهر لتعزيز أهدافهما السياسية”، قال حميد، وأضاف: “بالنسبة للأنظمة، ثبت بأن هذه الإستراتيجية ناجحة على أرض الواقع، على الأقل في حالة مصر وسوريا؛ فنظام الأسد كان قادرًا على تعزيز سرده الخاص بنجاح ملفت، حيث يقول العديد من أعضاء المجتمع الدولي اليوم بأن المعارضة المسلحة مؤلفة في المقام الأول من المعارضة المتطرفة، التي لا تضم أي ثوار معتدلين”.
صورة ملتقطة من مقطع فيديو لاحتجاجات معارضة في مارس 2011 في محافظة درعا السورية، يقوم خلالها المحتجون بتمزيق لافتة عملاقة للرئيس السوري بشار الأسد.
صورة ملتقطة من مقطع فيديو لحشد معارض في مارس 2015 يشيعون المتظاهرين الذين قتلوا خلال اشتباكات سابقة في درعا.
لا تظهر العواقب المترتبة على فشل الربيع العربي بشكل أشد عمقًا أو أكبر تكلفة مما هو الحال عليه في سوريا، حيث أسفر النزاع المستمر ضمن تلك البلاد منذ خمس سنوات عن مقتل ما ينوف عن ربع مليون شخصًا، ونزوح أكثر من نصف السكان من منازلهم، وجرّاء الحرب السورية، طغت أسوأ أزمة لاجئين في العالم على الدول المجاورة، وغذّت التدفق غير المسبوق من المهاجرين إلى أوروبا.
الأسد بقي في السلطة في دمشق، ولكن البلاد تحولت إلى أنقاض، وداعش تسيطر على جزء كبير من سوريا وأضحت هي التركيز الأساسي للقوى أجنبية التي تناضل لاحتواء الكارثة، وعلى الرغم من أن المتمردين المعتدلين لا يزالون يمتلكون بعض السيطرة على الأرض، إلا أن مناطق سيطرتهم تتضاءل باطراد، وتسودها الجماعات الأكثر تطرفًا.
استطاعت الهدنة المترنحة أن تجلب بعض الراحة لسكان سوريا المنكوبين؛ فبعد أن سكت هدير المدافع والأسلحة، ركبت حشود صغيرة من المتظاهرين الشوارع مرة أخرى، وأعادوا إحياء الدعوات من أجل الحرية والديمقراطية، تلك الأصوات التي كان يبدو بأنها هُزمت منذ أمد بعيد.
ولكن أعدادهم كانت قليلة، وتذكيرًا بالتحديات التي يواجهونها، تم قمع احتجاج واحد على الأقل في مدينة إدلب الأسبوع الماضي على أيدي المتشددين، بما في ذلك المقاتلين المتصلين بتنظيم القاعدة التابعين لجبهة النصرة.
“نحن مستهدفون من قِبل الجميع، فهناك داعش، وهناك الضربات الجوية الروسية من السماء، والنصرة من بيننا”، قال باري عبد اللطيف، الذي كان أحد أوائل منظمي الاحتجاجات في بلدته، الباب، التي تقع شرق حلب، والتي يسيطر عليها الآن مسلحو الدولة الإسلامية، وتابع قائلًا: “إنها لمعجزة أن يبقى أساسًا أي معتدلين فيما بيننا”.
تحول موازين القوى
يتذكر عبد اللطيف عندما باشر الإسلاميون بالتغلغل ضمن المظاهرات الديمقراطية التي كان وزملاؤه ينظمونها في ربيع عام 2011.
باري عبد اللطيف من مكان سكنه في غازي عنتاب/تركيا.
في ذاك الوقت، كانت الاحتجاجات لا تزال سلمية وتطرد في عددها، ولكنها شهدت دخول بعض الوافدين الجدد؛ مجموعة مؤلفة من حوالي 25 شخصًا أو نحو ذلك ممن كانوا معتقلين قبل الانتفاضة على خلفية نشاطهم الإسلامي، والذين تم إطلاق سراحهم من بين آلاف آخرين بموجب عفو صادر عن الأسد في عام 2011، علمًا بأن العفو لم يشمل إطلاق سراح معظم المعتقلين العلمانيين.
يشتبه كثير من السوريين والمراقبين الخارجين بأن العفو الذي أصدره الأسد كان يهدف إلى تحول الثورة إلى تمرد متطرف وإقناع المجتمع الدولي بأن الأسد كان أهون الشرين.
“يجب علينا أن ندوّن بأن الأسد أطلق سراح العديد من السجناء الإسلاميين في عام 2011″، قال روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق في سوريا، والذي أصبح باحثًا الآن في معهد الشرق الأوسط، وأضاف: “الحكومة كان تدرك بالتأكيد بأنهم سينضمون للجماعات المتمردة، وكان النظام يأمل على الأرجح بأن يرتكب هؤلاء أعمال عنف حتى يستطيع تبرير سياسته العنفية، ولكنني لا أعتقد بأن النظام السوري توقع أن تنمو جبهة النصرة أو تنظيم الدولة الإسلامية ليصبحا بهذه القوة”.
بدأ إسلاميو القاعدة يبزغون حينها ضمن المظاهرات ويلوّحون بشعاراتهم الخاصة، “قلنا لهم: إذا كنتم ترغبون في رفع رايتكم السوداء، فنظموا مظاهراتكم الخاصة” قال عبد اللطيف، وتابع: “لقد فعلوا ذلك، ولكن عدد الأشخاص الذين حضروا مظاهرتنا كان أكبر”.
ولكن في نهاية المطاف، تحوّل ميزان القوى، وذلك بعد أن تحول المتظاهرون إلى السلاح، حيث استعملوه في البداية للدفاع عن المظاهرات التي جوبهت بالنار، ومن ثم تم استخدامه لشن حرب صريحة على النظام، وعقب ذلك بدأت التبرعات المالية لشراء الأسلحة تصب من تركيا ودول الخليج، وفي البداية، ذهبت أغلبية تلك الأموال إلى جماعة الإخوان المسلمين، كما يقول النشطاء، ولكن مجموعات أخرى متطرفة ظهرت بسرعة لتستولي على المشهد.
يشير فورد بأن الثوار ساعدوا الحكومة السورية من خلال تسامحهم مع صعود المتطرفين وتسهيلهم لعملية بزوغ تنظيم داعش، ويضيف قائلًا: “لم يدرك الثوار خطأهم مع الدولة الإسلامية حتى عام 2014، وما زالوا ينسقون مع جبهة النصرة”.
المقاتلون الإسلاميون المتشددون يشاركون في عرض عسكري ضمن شوارع محافظة الرقة شمال سوريا في عام 2014.
يشير العديد من النشطاء بعدم وجود أي خيار آخر أمامهم في ذلك الوقت؛ فالولايات المتحدة كانت تحنث بوعودها بالدعم، وكان الثوار يشعرون بأنهم بحاجة إلى أي مساعدة يمكنهم الحصول عليها لمواجهة استخدام الحكومة السورية للقوة العسكرية، والتي بدأت باستخدام الرصاص، ومن ثم تصعدت لتشمل استخدام الغارات الجوية والصواريخ البالستية والأسلحة الكيماوية من بين أمور أخرى.
ولكن إذا نظرنا إلى الوراء، يمكن القول بأن تلك اللحظة تجسّد المنعطف الذي انحرف كل شيء بعده إلى مسار خاطئ، حيث يقول عبد اللطيف: “الخطأ كان يتمثل بقبول المتطرفين الإسلاميين بشكل عام، أما الخطأ الثاني فكان يتمثل بتسلّح الثورة”.
دخول الأسلحة إلى المعادلة فتح الباب أمام نشوب حرب الوكالة التي أضحت تحدد معالم المعركة السورية اليوم، حيث أرسلت إيران المال والميليشيات لدعم الحكومة، وضخت قطر والسعودية وتركيا الأموال للثوار دون إيلاء اعتبار لتوجهاتهم، كما سعت الولايات المتحدة لمواجهة نفوذ المتطرفين من خلال دعم الجماعات المعارضة المعتدلة، ولكن دعمها لم يرقَ ليماثل الدعم الذي حصل عليه المتطرفون، ومن ثم تدخلت روسيا، وباشرت بتنفيذ الضربات الجوية نيابة عن الحكومة السورية، وهي الضربات التي يصفها المسؤولون الأمريكيين بأنها استهدفت بشكل غير متكافئ المعارضين المعتدلين.
الثورة السورية “لم تعد ثورة”، قال رامي جراح، ناشط آخر من الناشطين السوريين في غازي عنتاب والذي فرّ من دمشق في عام 2011 جرّاء تهديد الحكومة باعتقاله، وتابع: “لقد أصبحت ملعب كرة قدم للقوى الإقليمية، لتصفية الحسابات، وتحقيق المكاسب على حساب الآخرين”.
آلاف المعتقلين
بالتزامن مع ذلك، كان النشطاء الديمقراطيون يقبعون في السجون والمعتقلات، حيث تشير تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأن أكثر من 117,000 شخصًا اعتقلوا بشكل عام منذ عام 2011، وبأن 65.000 شخصًا منهم لا يزالون رهن الاعتقال، فضلًا عن مقتل الآلاف تحت وطأة التعذيب، وجهالة مكان العديد من الأشخاص.
من بين أولئك المعتقلين، تم سوق العديد من الأشخاص من الشوارع في الأيام الأولى والسلمية للاحتجاجات، وفقًا لما اكتشف كرم الحمد عندما اُعتقل في أواخر عام 2013.
كرم الحمد ينظر من نافذة شقته في غازي عنتاب/ تركيا، في عام 2014 بعد خروجه من المعتقل.
اتهم حمد، وهو ناشط ساعد في تنظيم الاحتجاجات في مدينته، دير الزور، بالتجسس، وتم تعذيبه لانتزاع الاعترافات منه، ومن ثم تم إرساله إلى دمشق للمحاكمة في فرع المخابرات العسكرية سيء السمعة، الفرع 235، المعروف أيضًا باسم فرع فلسطين.
سُجن حمد هناك في زنزانة تحت الأرض إلى جانب حوالي 120 شخصًا آخرين، وهو الرقم الذي كان يتم تجديده كلما كان يتم قتل الأسرى من بين المعتقلين، حيث وثّق حمد مقتل 73 شخصًا أثناء اعتقاله الذي دام 10 أشهر؛ فالبعض كان يتم سوقه للتعذيب بدون رجوع، وآخرون كانوا يعودون إلى الزنازين مصابين بسكور عديدة وينزفون حتى وفاتهم في ذات الليلة، كما توفي عدد كبير في المعتقل جرّاء الالتهابات المعوية والجلدية التي كانت منتشرة، ولكن الحالة التي لازمت حمد وأرّقته، تمثلت بوفاة رجل من حماة يدعى عبد الناصر الذي كان قد اُعتقل بسبب احتجاجه ضد الحكومة في عام 2011.
“كلانا كان يحب أجهزة الكمبيوتر والبلاي ستيشن، لقد كان عبد الناصر أيضًا يمتلك جهاز أيفون 5 إس” تذكر حمد، وأضاف: “لقد كان عبد الناصر أحد أعضاء فرقة موسيقية متخصصة بموسيقى الهيفي ميتال”.
خرج حمد من المعتقل في أواخر عام 2014، بعد أن أخذ القاضي بدفعه حول كون اعترافاته قد اُنتزعت منه تحت وطأة التعذيب، ويشير حمد بأنه لو كان قد تم اتهامه بأنه ناشط لم يكن ليتم إطلاق سراحه من المعتقل بتاتًا.
خرج حمد من المعتقل إلى عالم مختلف تمامًا عما تركه، حيث كانت الدولة الإسلامية قد سيّطرت على جزء كبير من شرق سوريا، بما في ذلك مدينة دير الزور، وأضحى مقاتلوها يلاحقون النشطاء المعتدلين بذات شراسة النظام، وفي كثير من الأحيان كانوا يخضعونهم لعمليات إعدام علنية، وبالمحصلة انضم حمد لموجة النازحين إلى تركيا.
كان إبراهيم، منظم الاحتجاجات في حلب، من بين أوائل الناشطين الذين يتم استهدافهم من قِبل تنظيم الدولة الإسلامية؛ وفي مقابلة مع صحيفة الواشنطن بوست من حلب في عام 2013، قلل ابراهيم من شأن التهديد الذي يشكله الإسلاميون، قائلًا بأن الأمر الأكثر أهمية الآن هو التركيز على الإطاحة بالأسد،”ليست من مصلحتنا أن نفتتح جبهة ثانية في ثورتنا”، قال ابراهيم، وتابع: “لدينا عدو واحد الآن، ولا نريد أن ينتهي بنا المطاف بخلق عدوين”.
أما بالنسبة لعبد اللطيف، فقد نجا بحياته تحت جنح الظلام؛ ففي عام 2014، وبعد أن علم بأنه كان مطلوبًا للدولة الإسلامية، فرّ من مدينة الباب، ومن بين الـ50 صديقًا، أو نحو ذلك، ممن كانوا معه حين باشرت الاحتجاجات في مدينة الباب، لم يبقَ سوى حفنة صغيرة على قيد الحياة اليوم، حيث قضى أغلبهم جرّاء الغارات الجوية، أو ضمن المعارك مع الجماعات المسلحة، أو تحت التعذيب في السجون، وواحد فقط من هؤلاء انضم إلى المتطرفين، وأصبح عضوًا في جبهة النصرة.
“لقد اعتذر لي”، قال عبد اللطيف، مستذكرًا اجتماعه الأخير مع صديقه، وأضاف: “قال لي بأنه انضم إليهم فقط لأجل الأسلحة، وبغية محاربة النظام”.
بالمحصلة وبعد شهر على انضمامه، توفي صديقه جرّاء قيام انتحاري بتفجير سيارته قبل الآوان، حاصدًا أرواح رجاله.
المصدر: واشنطن بوست