عادت أجراس جنيف تدق، مع وصول آخر المدعوين والمشاركين في 14 من هذا الشهر، أسبوعان تقريبًا مرا على مشروع الهدنة الأممية في سوريا، مع تباين الأصوات بشأنه بين موافق ورافض ومشكك، لكن هذه الفترة – والشهر الذي سبقها بكامله – كانت تحمل من المؤشرات ما يكفي لتبيان أن هذه الخطوة ليست كسابقاتها سياسيًا ولا عسكريًا ولا إنسانيًا، منذ اجتماعي فيينا وميونيخ اللذين رسما ملامح هذه الهدنة، يبدو أن التجاذبات باتت أخطر وأكثر تكثيفًا في المستوى الأعلى، إنما بلا شك كانت أفضل فرصة لسوريا الأرض والشعب منذ سنوات طويلة لا للتخفيف من وتيرة القتل والدمار وحسب، وإنما لإعادة ترتيب الأوراق السياسية والشعبية.
تناقلت معظم الصحف والدوريات والمراكز معلومات تتراوح بين موثوقة ومعقولة، تتحدث عن تفاصيل الهدنة وخروقاتها وأحداثها اليومية، لكننا هنا نحاول تغطية الأشهر الثلاثة القادمة – على الأقل – من مستقبل هذه الهدنة.
الداخل السوري
على المستوى السطحي والإعلامي، كانت هذه الهدنة فرصة سانحة للتنظيمات السياسية للتحرك مجددًا، بعض الأحزاب السياسية الصغيرة المعارضة في الداخل تتعامل مع الموضوع بحذر ونضج وترقب، وتدعو إلى استغلال هذه الفترة لفتح الفضاء العام، من هذه التحركات الآن الدعوة لإقامة مؤتمر وطني في دمشق يتناول دور المجتمع المدني (وهي خطوة أولى متقدمة جدًا عن أيام “لجان إحياء المجتمع المدني” في 2002 وما بعد حيث كانت مناصرة المجتمع المدني في ذاتها تهمة تساوي 10 سنوات من السجن). في هذه المرحلة يبدو أن النظام أحوج من ذي قبل للتغاضي عن هذه التحركات بل وغالبًا زج “مجتمعه المدني” في داخلها، إن هذه النقلة هي الأجدى والأهم على مستوى المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، وهي أكثر ما سعى النظام لإنهائه، لكن الظروف الحالية تضطره للقبول بالواقع ومن الجيد أن يقوم أحد ما باستغلاله.
في الطرف الآخر من الجغرافيا استعادت التنسيقيات والتنظيمات السياسية المعارضة أسلوب قيادة المظاهرات والدعوة إليها، واستجاب كثيرون من المهتمين بالشأن السياسي والناشطين الذين انقطعوا عن التظاهر سابقًا، إنما لا يعني هذا بالمقابل أن هذا الفضاء السياسي يمثل الفضاء العام أو يتماهى معه، نتيجة السنوات القاسية والانقلاب الديموغرافي الاقتصادي المروع، تدل المؤشرات أن نسبة المشتغلين بالشأن السياسي اليوم أقل بكثير جدًا من نسبتهم عام 2011، وبمعنى آخر فإن الأغلبية الساحقة من المدنيين وربما قسم من العسكريين (ساحقة أكثر من ذي قبل) تتعامل مع الهدنة بارتياح وبأمل وترقب لكنها ليست معنية بالحراك السياسي والمظاهرات.
إن الخطاب الإعلامي الذي يضخم من التحرك السياسي ويلون سوريا بلونه لن يكون محمودًا إذا أعاد إلى الأذهان الخطاب التخويني والتحقيري لمن لا يشارك فيه، وبالتالي هو يضر ولا ينفع، التخوف الأساسي هو أن تعيد هذه المظاهرات – التي لن تستطيع إسقاط سلطة بعيدة عنها جغرافيًا – خلق الهوة السياسية التي ردم أغلبها بفعل المأساة الإنسانية.
شهد العام 2015 على وجه الخصوص توافقًا إنسانيًا عامًا بين المدنيين، ودورًا أكبر للمجتمع المدني، كما اختفت بشكل واضح مفردات “معارض” و”مؤيد” لتحل مكانها مفردات مثل “مدنيين” و”مسلحين” و”ميليشيات”، وهي اللغة التي يقبلها الشارع السوري العام اليوم وعلى السياسة اللحاق بها، لكن بسبب عدم وجود أحزاب سياسية حقيقية في البلاد، فإن الحراك السياسي (بمعنى التحركات والبيانات وكثير من المظاهرات) في الداخل محكوم بشكل أساسي من قِبل كيانات مسلحة أغلبها يتبع خلفية الإسلام السياسي “إما تنظيمًا أو تقييدًا”، ومن الطبيعي أن تشجع هذه الكيانات كل حراك تظاهري أو شعبي يستهدف النظام السوري ويمجد قياداتها وممارساتها، أي أنها بالضبط تسعى لأي حراك أو تظاهر يهاجم آلية طاولة الحوار ومفرزاتها، وعلى رأس تلك المفرزات الهدنة ذاتها.
من هنا فإن إعادة تعريف حقيقية للكيانات المسلحة ستتم – ولا بد – على مستوى المجموع الشعبي السوري، تؤشر بالإصبع إلى المواظبين على الهدنة وحماية المدنيين وتزكيهم، وبإصبع الاتهام إلى الواقفين في وجه الهدنة والعاملين على تخريبها لا بالخروقات المسلحة وحسب بل بالأداء السياسي والشعبي كذلك، ونحن بأحوج ما يكون إلى هذا الفرز الذي تأخر كثيرًا.
الخارج السوري
منذ تشكيل الهيئة العليا للتفاوض ومباشرة عملها، وبالاستفادة من الحنكة الأسلوبية السياسية لرئيسها رياض حجاب، أصبح الخطاب المعارض “الرسمي” أكثر وضوحًا وتحديدًا وأكثر سياسة، وقامت التحركات الديبلوماسية الأخيرة للهيئة بدور فعال منذ اعتذرت عن المشاركة في طاولة الحوار وأدت برفضها هذا إلى تأجيل الطاولة مرتين وتفعيل الهدنة بفرض دولي.
إن وضوح المطالب المبدئية والخطاب الأساسي هو عنصر القوة الذي يساعد في دفع الطاولة، كما أن جدية الأطراف الراعية تساهم في الضغط باتجاه تفعيل الهيئة، على عكس ما يظن ويفنرض ويجزم الكثيرون، فإن وجود تمثيل لكيانات مسلحة هو مجرد لعب بالألفاظ وسد للذرائع، ولا يؤثر ذلك إيجابًا على الطاولة إلا بقدر ما هي ورقة لتمرير القبول الشعبي لمقررات الطاولة وهي التي ستمرر على أي حال، لا وجود جيش الإسلام ولا انسحاب أحرار الشام يؤثر سلبًا أو إيجابًا في مجريات الحوار، وعلى السوريين مراجعة الطاولة ومخرجاتها على أساس المصلحة لا على أساس التمثيل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض الكيانات التي لن تلائم النتائج مصالحها، ستعمد لضرب أشخاص الوفد المعارض كما هو الحال دائمًا وأبدًا.
تساعد الهدنة على تخفيف ثقل الكيانات المسلحة وتثقيل الكيانات ذات الخطاب السياسي، لذلك أمام الهيئة فرصة التقدم في مفاوضات هي للمرة الأولى جدية، لكن عليها أن توسع أفق نظرها إلى مستقبل البلاد ككل، والضغط نحو ما يتجاوز الحديث عن تقاسم الصلاحيات التنفيذية إلى ما هو أشمل، بما في ذلك صياغة دستور جديد وإعادة هيكلة لأجهزة الدولة ككل في فترة لن تتسع لها شهور المرحلة الانتقالية الأولى الـ 18.
التحركات الروسية
استعادت روسيا زمام المبادرة بعد توقف طويل ثلاثي الأسباب، منذ تشكلت مجموعة العمل لدعم سوريا ISSG ضمت في آن واحد الدول الـ 18 التي تتحارب على الأرض بينما تجتمع في القاعات، شكلت القيادة المشتركة الروسية الأمريكية للمجموعة حلًا وسطًا، وأصبح لزامًا على هذه المجموعة أن تكون فعالة إذ إن طرفًا لن يستطيع إلقاء اللوم على الطرف الآخر، من هنا فإن جميع القرارات التي تدعمها هذه المجموعة (بما في ذلك تطبيق القرار 2254 وسريان الهدنة) هي قرارات سارية لن يستطيع أحد التنصل منها، ليس مجانًا على الأقل.
على عكس المشاع، لا تهتم روسيا بأولوية “استئصال الجيش الحر والفصائل المعتدلة لدعم الأسد”، بقدر ما تهتم باستئصال السيطرة المركزية للنظام السوري على جيشه، إن التحركات التي تقوم بها حتى الآن كانت بشكل أساسي للسيطرة على الجيش السوري، وتعديل ميزان القوى لصالحه في وجه كلا قوتي الدفاع الوطني والميليشيات الرديفة.
يساعد هذا الميزان اليوم في فرض الهدنة على النظام “بالقوة” كما يسمح بإبرام أي اتفاق لاحق من قبل الروس مباشرة ودون العودة إلى النظام السوري، وهي ميزة يجب استغلالها سياسيًا لا عسكريًا، بمعنى تحقيق المكاسب للتهدئة والضغط على النظام في ملفات المعتقلين والحصار وغير ذلك، لا للتوسع العسكري الذي هو المحظور الوحيد على جميع الأطراف.
التحركات الأمريكية
يبدو واضحًا تخبط الحزب الجمهوري في اختيار مرشحه النهائي، يبدو ماركو روبيرو هو الأنسب لخوض انتخابات صعبة، لكن دونالد ترامب يبدو أشبه بنكتة يصعب التخلص منها، لا بد أن الديمقراطيين يصلون للرب أملًا في اكتساح ترامب وإزاحته روبيرو، بحيث سيكون من السهل جدًا أن تصل كلينتون إلى البيت الأبيض مباشرة، ساهمت هذه الأجواء المريحة نسبيًا في الالتفات إلى الملف الخارجي على غير العادة التي شهدناها في الانتخابات الأمريكية الماضية، والتي استقالت خلالها الولايات المتحدة من أي جهود خارجية واكتفت بالبيانات الصحفية والتركيز على الحملة الانتخابية لأوباما.
في الوقت نفسه، إذا وصلت كلينتون إلى البيت الأبيض، فلن تستطيع متابعة مسار أوباما ذاته الذي ركز على دعم الاقتصاد المحلي وإخراج البلاد من الكارثة “البوشية” الاقتصادية، فهي تنتقل من كرسي الخارجية إلى البيت الأبيض، ولذلك فإن أول ما ستحمله معها إلى المكتب البيضاوي هو الملف الخارجي.
يشكل هذا مفتاح فهم التفات الولايات المتحدة إلى الملف السوري الآن، خصوصًا أنها وجدت فيه فرصة لفتح باب التهدئة الأمريكي – الروسي الذي أغلق في أوكرانيا، على هذا فإن الالتزام الأمريكي الروسي هو الأساس (أي التزام الهدنة)، وليس أي التزام آخر مع أو ضد الأسد.
السعودية: الخطة B
تأمل السعودية أن تلعب دور العصا في ظل الجزرة الأمريكية، فهي تستمر بالحديث عن التحركات المفترضة في حال فشل الاتفاق، وخيارات تسليح المعارضة في حال عدم التزام النظام السوري وحلفائه، وكذلك تقف موقفًا مساندًا لتركيا في موقفها من قوات YPG استعدادًا لاحتمالات التعاون المقبلة في حال لزم الأمر.
لا يعني هذا أن السعودية تقف ضد هذا الاتفاق، فهي ملتزمة بالتعاون والتنسيق كما أنها تسعى للتهدئة خلال هذه الفترة، وتستخدم هذه التهديدات استخدامًا مزدوجًا لدفع الأطراف نحو الالتزام بالهدنة من جهة وطمأنة الفصائل المسلحة الحليفة بوجود بديل في حال فشلها من جهة أخرى، إلا أن هذه البدائل لن توضع موضع التنفيذ، حيث إن الفشل ليس خيارًا.
تركيا: الحلم الأوروبي القادم
تركيا هي العصفور الذي يغرد خارج السرب، إذ تنكفئ بالقوة عن طموحاتها في الملف السوري، وتنقل تركيزها نحو وعود الاتفاق الأوروبي للانضمام في 2017، تركيا اليوم أمام امتحان الخضوع للإرادة الأوروبية في الشرق الأوسط بما في ذلك احترام الهدنة وعدم تعطيل المسار السياسي، لذلك فإنها ستنكفئ على مستوى دعم التحركات المسلحة وتكتفي بالتنديد السياسي ومحاولات إبعاد حزب PYD عن الطاولة، إلا أنها بالمقابل ستكون عنصرًا فاعلًا في ضبط الحدود التركية قدر المستطاع وبشكل أكبر مع الوقت، تحت طائلة خسارة الحلم الأوروبي الذي طال انتظاره.