عاشت مدينة بنقردان الحدودية التونسية في الأيام الماضية على وقع هجوم داعشي مفاجئ انطلق بعد أذان فجر يوم 7 مارس، واعتبر هذا الهجوم تطورًا خطيرًا في مسار الإرهاب بتونس لما حمله من أسلوب داعشي جديد في الهجوم لم يستعمله في تونس رغم استعماله في بعض الدول الأخرى، وذلك من خلال الهجوم بعدد كبير من المسلحين في نفس الوقت ومهاجمة العديد من المراكز الحيوية في نفس الوقت كالثكنة العسكرية وثكنة الحرس ومقر المعتمدية، كما شهد الهجوم الإرهابي استهدافًا غير مسبوق للمدنيين أراد من خلاله التنظيم التكشير عن أنيابه وفرض حقيقة أنه جاء هذه المرة ليعمر في البلد لا لكي يهاجم بعض مقاتليه ثم يعودون إلى جحورهم مرة أخرى.
ومثل هجوم بن قردان هذه المرة فرصة ليثبت الأمن والجيش التونسيان أنهما على استعداد لمواجهة التغول الداعشي والرد عليه، فكان رد الأمن التونسي قاسيًا في شكل انتصار أولي حققه على الإرهابيين في أولى غزواتهم لتونس، ليلحق بهم خسارة لم تكن في حسبانهم، وكلفهم قرابة الـ 50 قتيلاً وغير ذلك من الاعتقالات لكل من ساهم ومول وساند هذه العملية من داخل بن قردان أو خارجها، ما منح التونسيين ثقة كبيرة في قواتهم الأمنية والعسكرية وليظهروا تفاعلاً هيستيريًا مع ما حققوه من نجاحات أمنية.
من حقنا كتونسيين، شعبًا كنا أو حكومة وسياسيين وإعلام، أن نفتخر بما حققه جيشنا من انتصار في هذه المواجهة المباشرة مع الإرهابيين وأن نفرح لما أظهره من استعداد لمواجهة هذا الخطر الكبير، لكن ذلك لا يجب أن يجعلنا نعيش أوهامًا ستجعلنا نتفاجأ فيما بعد، وعلينا أن نستفيق من نشوة هذا الانتصار لأنه حسب ما بدا فإن القادم عكس ما تصوره البعض سيكون أكثر خطورة وأن المعارك القادمة ستكون أشد مما مضى، وأن انتصار قواتنا الأمنية في بن قردان كان انتصارًا أوليًا في عملية إرهابية تظهر المؤشرات أنها كانت محاولة من الدواعش لمعرفة قوة رد فعل قواتنا الأمنية على الحدود وجس نبض أولي قبل الهجمات القادمة.
جاءت عملية بن قردان أيامًا بعد القصف الذي تعرضت له مدينة صبراتة الليبية والذي كلف داعش مقتل العشرات من قواتها وهروب المئات في كل اتجاه، ومن هاته الاتجاهات كانت مدينة بن قردان القريبة إلى ليبيا، فحاول الدواعش اختراقها وجعلها أول حصونهم في تونس، فبدت عملية بن قردان كرقصة الديك المذبوح، حيث تؤكد التقارير الواردة من هناك أنها لم تكن منظمة بدرجة تجعلها تقدر على إسقاط المدينة في أيدي الدواعش، حتى إن الكثير من شهود العيان أكدوا أن العديد من المقاتلين كانوا مبتدئين في استعمال السلاح وأنهم كانوا مرتبكين في التعامل مع قوات الأمن وما دليل ذلك إلا سقوط العشرات منهم قتلى واستسلام آخرين وهروب آخرين نحو وجهات غير معلومة.
وهنا يطرح السؤال حول سبب قيام داعش بمثل هذا الهجوم غير المنظم وهل أنه كان مجرد مناورة أم هروبًا من جحيم ليبيا، وهل ضحى التنظيم ببعض مقاتليه لغايات أخرى، وهل أن داعش الذي أسقط الموصل في أربع ساعات واحتل العديد من المدن في سوريا وليبيا يكون الانتصار عليه بهذه السهولة مثلما روج لذلك العديد من الصحفيين والمحللين.
تقول التقديرات إن الهجوم على بنقردان قام به أكثر من 50 مقاتلاً كحد أدنى، كان أغلبهم من التونسيين، ورغم كل الروايات القائلة بأن الهجوم كان يهدف إلى إقامة إمارة داعشية في بنقردان إلا أن الواقع ينفي ذلك، فبناء على ما تعلمناه من هجمات داعش لإسقاط المدن والسيطرة عليها وتأسيس إماراتها فإنه يمكن اعتبار هذا العدد من المقاتلين ضعيفًا جدًا في مواجهة جيش وأمن يتمركزان في مدينة حدودية تحاذي خط النار الليبي، ومن غير المنطقي أن يجازف التنظيم بهذا العدد الصغير من المقاتلين وهو الذي يعرف أن كل الأنظار صارت موجهة إليه وإلى محاولته نقل الحرب إلى تونس لإيجاد موطئ قدم في هذا البلد الذي مازال يعاني من عدم الاستقرار بعد الثورة، كما أن التنظيم يدرك جيدًا أنه لا يملك حاضنة شعبية في بنقردان تجعله يعول على تعاطفه مع مقاتليه وحمايتهم حتى لو كان عدد المقاتلين ضعيفًا، ودليل ذلك ما حدث قبل أيام قليلة في هذ المدينة عندما قضت قوات الأمن على عدد من الدواعش وسط تشجيع كبير ومساندة من أهالي المنطقة الذين أرسلوا رسائل للدواعش أن لا مكان لهم بينهم ورسائل لبعض السياسيين والمحللين الذين اعتبروهم خارج السياق الوطني مفادها أن كل تلك الاتهامات باطلة وأنهم سيكونون الدرع الأول في مواجهة الإرهاب الذي يهدد البلاد.
وبالإضافة إلى عدد المقاتلين فإن تنظيم داعش كان دائمًا ما يعول على مجموعة من الانغماسيين الذين يبثون الرعب بتفجيراتهم العشوائية، وذلك ما فعله التنظيم لإسقاط مدينة الموصل العراقية وكذلك في ليبيا لكنه لم يلجأ إلى ذلك في هجومه على مدينة بنقردان رغم أنه كان سيسهل عليه العملية بشكل كبير خصوصًا مع عامل المفاجأة الذي اعتمده في الهجوم، وبذلك كان التنظيم سيربح العديد من النقاط في هذه المواجهة بما فيها الخسائر الكبيرة التي كان سيلحقها بالجيش بالإضافة إلى الانتصار المعنوي والرسالة التي سيوجهها إلى أهالي المنطقة حول وحشيته وحول نيته السيطرة بكل الوسائل على المدينة والتهديد لكل من يعارضه في ذلك، لكن التنظيم لم يعتمد هذه الطريقة التي أثبتت نجاعتها في مناسبات سابقة.
يبدو جليًا أن هجوم بنقردان كان مجرد جس نبض لقواتنا الأمنية، وأنه لم يكن سوى شجرة صغيرة تخفي غابة موحشة ورائها، وأن ما ينتظرنا أخطر بكثير مما رأيناه يوم السابع من مارس، فالمقاتلون التونسيون طالما أكد عودتهم إلى تونس في يوم ما من أجل تحريرها من الطاغوت حسب زعمهم، ويعتبرون بالآلاف في سوريا ويقاربون الألف مقاتل في ليبيا حسب آخر الإحصائيات، بالإضافة إلى أعوانهم في تونس من المقاتلين والخلايا النائمة التي تنتظر فقط الإشارة لبدء القتال، ضف عليه مخازن السلاح التي تم اكتشاف العشرات منها وآخرها ما تم اكتشافه في بنقردان وهو ما يؤكد أن مخازن أخرى لم يتم تحديد مكانها إلى الآن، وبذلك يمكن الإقرار بأن الحرب بدأت للتو وأن الانتصار الأولي في بنقردان كان إعلان بداية الحرب مع التنظيم لا القضاء عليه.
تؤكد كل الاحتمالات أن عملية بنقردان كانت عملية انتقامية لما جرى للدواعش في مناسبة سابقة في ذات المدينة من تصفيات لبعض مقاتليها وأنها كانت مجرد اختبار أولي فشل التنظيم في النجاح فيه ولكنه عرف من خلاله قوة القوات الأمنية والعسكرية التونسية وتأكد من خلاله أيضًا شدة الرفض الشعبي لتواجده في تونس، لذلك فإنه من الواجب القول اليوم أن الضربات القادمة ستكون أشد خطورة وأن التنظيم سيعمل على فتح العديد من الواجهات داخل تونس بالاعتماد على مقاتليه القادمين من ليبيا والمتواجدين داخل تونس والمتعاطفين معه، وأن هذه الضربة التي نجحنا في صدها لا يجب أن تغرنا كثيرًا فهي لا تعبر عن قوة ولا على وحشية هذا التنظيم الذي سيعمل في مرات قادمة على إظهار الغابة كاملة بعد سقوط الشجرة الأولى.