من المعروف سلفًا أن السلطة القضائية في مصر تحولت إلى إحدى طوائف الحكم واندمجت مع النظام الحالي وتماهت بكل أركانها مع توجهاته، وفي المقابل حازت الامتيازات المادية وهالة من السلطة التي تُبعد المساءلة عن أفرادها.
حول النظام الوليد السلطة القضائية عقب الثالث من يوليو إلى أداة رسمية في يده دون مواربة كما كان في العهد المباركي، وخاض بها الصراع السياسي مع خصومه دون تورع فأصدر القضاء الأحكام وفقًا لهوى النظام، وقيد حرية الآلاف بقوة قوانين مفصلة.
شعر القضاة بسطوتهم حتى بحثوا عن موقع الشريك في الحكم دون الاكتفاء بمميزات الأداة، وصعد أحد أبرز ممثلي طائفة القضاة وأكبر المعبرين عن طموحاتها ومصالحها إلى السلطة التنفيذية وهو أحمد الزند وزير العدل الذي أقيل أو “استقال” مؤخرًا.
الزند الذي كان يشغل منصب رئيس نادي القضاة واحد من متصدري المشهد القضائي المتماهي مع نظام مبارك والمحارب الشرس لكل محاولات استقلال القضاء، اشتغل الزند بالسياسة قبيل انقلاب الثالث من يوليو وحرض على الرئيس المنتخب محمد مرسي حتى انقلب الجيش عليه، وصار الزند أحد عرابي هذا الانقلاب إلى أن صعد إلى مقعد وزارة العدل وبدأ في تصفية خصومه في السلك القضائي.
بات للزند موقفًا من كل شيء يحدث في مصر يُعلن عنه دون خشية أو مراعاة لحساسية منصبه، وهو ما افتعل العديد من المشكلات للنظام على إثره، بداية من إعلان التدخل في سير القضايا وتمنياته بإعدام الخصوم السياسيين، مرورًا بمسألة توريث القضاء، نهاية بتصريحات مستفزة اعتبرها البعض إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم.
يرى البعض أن النظام المصري اضطر إلى إقالة الزند بعد تفاقم أزمة تصريحاته الأخيرة وعلى إثر الغضب الشعبي الذي ظهر كرد فعل لها، ورغم اعتذاره فإن النظام المصري أصر على قبول استقالته دون الالتفات لضغوط هنا أو هناك.
وهو الأمر الذي يقول إن عملية التخلص من الزند لم تكن بسبب تصريحاته المتلفزة بشأن سجن الصحفيين والتي أوقعته في “زلة لسان” اعتذر عنها لاحقًا فحسب، ويُشير النظام أو أحد أركانه على الأقل إلى أن إقالته خلفها أسباب عدة ومتشابكة وقد استغلت هذه الحادثة للإطاحة به، علمًا بأن للزند تصريحات أكثر استفزازًا من هذه ولم يُعاقب عليها بهذه الصورة مطلقًا.
حيث يمكن النظر إلى قضية الزند من منظور تطاحن أجنحة النظام المصري وصراعات طوائف الحكم التي شكلت نظام انقلاب الثالث من يوليو، فيما يُشبه عملية إطاحة بالرموز الثلاثين من يونيو المشاغبة رغبة في التخلص من عبئها، وهو الأمر الذي ربما يعمل على تهدئة الشارع والرأي العام الساخط قليلًا على الأداء الاقتصادي للحكومة.
عملية الإطاحة بالزند تأتي بعد أيام قليلة من سحب عضوية صديقه توفيق عكاشة من مجلس النواب بأغلبية ساحقة، وهو أحد مكونات الثلاثين من يونيو وأبرز وجوهها التي تصدرت عقب الانقلاب، رغم تصريحه أن أداءه الإعلامي السابق للثلاثين من يونيو كان خلفه ذراع أمني، مما يؤكد صلته بأحد الأجهزة السيادية التي تدير المشهد الإعلامي في مصر، ورغم ذلك تم التخلص من عكاشة بصورة مماثلة لما حدث مع الزند مؤخرًا.
ومما يؤكد هذا التفسير لتحركات النظام الأخيرة، عملية الهجوم الممنهج التي انطلقت على ثالث أعضاء رابطة انقلاب الثالث من يوليو مرتضى منصور أحد أعضاء مجلس النواب الحالي مثيري الشغب، والمتهم في معركة الجمل إبان ثورة يناير، والمتصدر لواجهة تحالف الثلاثين من يونيو ضد ثورة يناير، والذي يدعي وصلًا بالأجهزة الأمنية والسيادية دائمًا.
تلك الحملة الإعلامية التي تفتح ملفات فساد الأخير وسقطاته، تعني أن جهازًا أمنيًا قد قرر اللعب مع مرتضى منصور على طريقة توفيق عكاشة والزند مؤخرًا، ولكن الحملة لم تسفر حتى الآن عن مصير عكاشة والزند، في ظل الحديث عن اقتراب إسقاط عضوية نجل مرتضى منصور في مجلس النواب.
الأجهزة الأمنية والسيادية التي تدير مشهد المجال العام في مصر تخوض صراعًا ضد بعضها البعض عبر مجموعة من الأدوات الإعلامية والسياسية، وهو ما أظهره الكاتب الصحفي حسام بهجت في تحقيقه الأخير المنشور على موقع مدى مصر الذي تناول قضية صناعة البرلمان الأخير كأحد نماذج صراع هذه الأجهزة.
حيث أوضح في تحقيقه أن نواب البرلمان انقسم ولاؤهم إلى عدة جهات نجحت في إدخالهم إلى مجلس النواب، منهم مؤسسة الرئاسة التي تحكمت في إدارة الانتخابات عن طريق جهاز المخابرات الحربية الذي يدين بالولاء الكامل لعبدالفتاح السيسي كأحد أبنائه، وكذلك مؤسسة المخابرات العامة التي شهدت تنسيق القوائم الموالية للنظام، وأمن الدولة “الأمن الوطني” ورجال الأعمال الذين شعروا أن الدولة الجديدة تسحب بُساط النفوذ السياسي القديم من تحت أرجلهم فأردوا الدخول إلى اللعبة مجددًا عبر بوابة خلفية.
تظهر إرهاصات هذا الصراع الداخلي المتوقع في الحرب الإعلامية بين الصحف والقنوات الموالية جميعها للنظام في نهاية المطاف، وكذلك حدة الخلافات بين شخصيات سياسية وإعلامية وتهديدات بكشف مستندات فساد أو عمالة أمنية وما شابه، ثم انطفاء جذوة هذه الصراعات فجأة لتظهر أخرى على السطح بين أذرع إعلامية وسياسية لجهات سيادية تحاول التغول على مساحات بعضها البعض.
يعتبر مراقبون هذا الأمر فشلًا لمؤسسة الرئاسة التي كان دورها التاريخي أن تكون حجز الزاوية والميزان بين هذه الأجهزة والطوائف المتعددة المآرب والمصالح، لتكبح جماحها أثناء هذه المراحل، لكن واقع الحال يؤكد أن مؤسسة الرئاسة انخرطت في هذا الصراع كطرف أقوى يريد الحسم على حساب بقية أجهزة الدولة العميقة التي رفضت الاستسلام بسهولة، فظهرت نوبات من الهجوم الشخصي على السيسي والحكومة دون سابق إنذار.
يُعزز من شعور طوائف النظام بضرورة خوض هذه الحرب عملية اختفاء جماعة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي في ظل ما تعتبره هذه الأجهزة انتصارًا أمنيًا لها تبحث الآن بعده عن مغانم من الحالة السائلة التي تمر بها البلاد.
وربما تشكل بعض عناصر اللعبة عبئًا كليًا على المشهد العام للنظام كأحمد الزند وتوفيق عكاشة وغيره من المرشحين للإطاحة والإقصاء، ويُعتقد أن قرار تصفيتهم السياسية والإعلامية متخذًا من جانب مؤسسة الرئاسة وأذرعها لتخفيف الضغط عن النظام بصناعة حالة من التنفيس الشعبي في هذه الهوامش والأدوات التي يمكن أن يستبدلها النظام بسهولة فائقة.
لكن توابع هذه القرارات الأخيرة لن تمر دون موقف من هذه الطوائف التي يهدم النظام رموزها ما سيهدد مصالحها بشكل أو بآخر، وهو ما يحاول أحمد الزند فعله الآن برفضه لقرار الإقالة، ومحاولة الحشد من داخل السلك القضائي ممثلًا في بعض أعضاء وزارة العدل ومجلس نادي القضاة للضغط على الحكومة ومن ثم الرئاسة للعدول عن هذه القرارات.
ليتضح الآن أن عملية استبعاد طائفة من طوائف نظام الثالث من يوليو لن يكون يسيرًا مثل إشراكهم في الحكم، حيث راكمت هذه الطوائف معدلًا مقبولًا من السلطة والنفوذ يهيئها للتمرد على من أدخلها لهذا المربع، وهو ربما أحد أسرار اضطراب نظام الحكم في مصر حاليًا المتداخل مع عوامل أخرى كثيرة.