جاءت تهديدات الأمير الداعشي المفوض لإدارة الولايات الليبيّة عبد القادر النجدي بغزو تونس في القريب العاجل، والذي أشار في حديثه المطول مع صحيفة “النبأ” الناطقة باسم تنظيم الدولة الإسلامية إلى أن الساتر الترابي الذي أقامته السلطات التونسية على الحدود الليبية لن يمنع التنظيم من دخول البلاد.
ثم بعدها بأيام قليلة تتعرض ثكنة عسكرية ومركزي أمن بمدينة بن قردان الحدودية مع ليبيا إلى هجمات تسفر عن سقوط 28 إرهابيًا و9 عناصر أمن وجندي واحد و7 مدنيين في المواجهات بين قوات الأمن والجيش من جهة ومجموعات إرهابية مسلحة، لتكشف النقاب عن مخطط دموي فوضوي يحاك الآن ضد تونس والدول المجاورة لها، فهل تسقط تونس في فخ الداعشيين وتصبح ولاية تابعة لهذا التنظيم؟ ولماذا تونس في هذا التوقيت خصوصًا؟ هذا ما تسعى “نون بوست” للإجابة عنه من خلال هذه الإطلالة السريعة.
تونس والتنظيمات الإرهابية
المتابع لخريطة الإرهاب والتطرف بتونس خلال ألعقود الأخيرة يجد أن هناك خطًا مشتركًا في الفكر والمعتقد وآليات التنفيذ بين الجماعات الإرهابية في تونس وليبيا، إما بحكم الجوار الجغرافي أو الأهداف المشتركة.
ومنذ ثورة 2011 تصاعدت وتيرة نشاط الجماعات المتطرفة في تونس وليبيا، حيث واصل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي دوره التنظيمي، خاصة في تهريب الأسلحة من ليبيا عبر تونس.
وبالرغم من حملة الاعتقالات الواسعة التي شهدتها الجماعات المتطرفة بسبب التخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية في مايو ويونيو من عام 2011، وفبراير وديسمبر من عام 2012، ومايو ويونيو من عام 2013، ومايو ويونيو وأغسطس من عام 2014، ومارس ويونيو من عام 2015، إضافة إلى حملة الاعتقالات التي شهدتها في مارس الجاري، إلا أن التصميم على مواصلة تنفيذ العمليات الارهابية بهدف إثارة الفوضى في تونس وليبيا هو الشعار الذي ترفعه تلك الجماعات.
وتشير التقارير الصادرة عن مراكز الدراسات والأبحاث أن التضييق الأمني على تلك الجماعات المتطرفة، ساهم بشكل كبير في تعزيز العلاقة بين المقاتلين التونسيين والليبيين من خلال التنظيمين الشقيقين “أنصار الشريعة في تونس” و”أنصار الشريعة في ليبيا”، حيث احتذى تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا بالنهج الدعوى الذي اتبعه أنصار الشريعة في تونس، بينما قدم التونسيون المساعدة اللازمة لتطبيقه.
ومن الشواهد التي تجسد حجم التعاون بين الجانبين، خضوع تونسيين للتدريب في ليبيا منذ وقت مبكر يعود إلى ربيع عام 2012، ومن المرجح أن الانتحاري الأول الذي فشل في تنفيذ الهجوم على سوسة في أكتوبر 2013 تدرب في تلك المعسكرات، أما في ليبيا، فقد كانت العديد من الهجمات التي استهدفت المنشآت الدبلوماسية التونسية، أمثال تلك التي وقعت ضد سفارتها ومرتين ضد قنصليتها في يونيو 2012، مرتبطاة بتنظيم أنصار الشريعة في ليبيا، بل هناك قضية التونسي علي عاني الحرزي الذي لقي حتفه مؤخرًا في إحدى الضربات الجوية الأمريكية على العراق بينما كان يقاتل في صفوف داعش، مع الإشارة إلى أنه أحد متزعّمي الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي في سبتمبر 2012، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأنصار الشريعة في ليبيا.
إضافة إلى ذلك فإنه في أعقاب تصنيف الحكومة التونسية لتنظيم أنصار الشريعة في تونس كمنظمة إرهابية في أواخر أغسطس 2013، فإن كل من لم ينفصل عن التنظيم، قد تم اعتقاله أو انضم إلى الجهاد في سوريا أو التحق بصفوف كتيبة عقبة بن نافع في جبل شامبي، أو فرّ إلى ليبيا وإلى أنصار الشريعة في ليبيا، بمن فيهم زعيم أنصار الشريعة في تونس أبو عياض التونسي، بالإضافة إلى ذلك، وكنتيجة للانقسام الذي تعرض له تنظيم أنصار الشريعة في تونس، حدث دمجٌ قصير الأجل بين شبكات المقاتلين التونسيين والليبيين من خلال تغيير اسم أنصار الشريعة في تونس إلى شباب التوحيد.
وفيما يتعدى إطار الشبكات التابعة لكل من أنصار الشريعة في تونس وأنصار الشريعة في ليبيا، تنامت الحركة التونسية في ليبيا مع تنظيم الدولة الإسلامية منذ خريف 2014، حيث تعتقد الحكومة التونسية أن ما يقرب من ألف تونسي يحاربون حاليًا في ليبيا أو يتدربون فيها، وهو ما يزيد من مخاوفها من استمرار الهجمات الإرهابية في المستقبل، لاسيما في ظل صعوبة ضبط أمن الحدود مع ليبيا.
إدارة التوحش والفوضى
العديد من الأطروحات المقدمة من خبراء أمنيين ومحللين سياسيين تصب معظمها في أن العمليات الارهابية التي تقوم بها الجماعات المتطرفة في تونس، تهدف إلى الاحتلال أو إقامة إماراة إسلامية جديدة، وهو ما كشفت عنه تهديدات الأمير الداعشي المفوض لإدارة الولايات الليبيّة، كما أشار لذلك السبسي ورئيس حكومته، لكن في المقابل هناك من يرى أن العمليات الأخيرة هدفها في المقام الأول إسقاط الدولة في الفوضى العامة، وهو ما نوه إليه الباحث الأمني ورجل الدين التونسي فريد الباجي، والذي أكد أن تونس تمر الآن بالمرحلة ما قبل الأخيرة لإعلان الجماعات الإرهابية ما أسموه “النفير العام” لإغراق تونس في مستنقع اللااستقرار والفوضى.
الباجي أستند في تشخيصه للحالة التي تعيشها تونس الأن إلى كتاب “إدارة التوحش” للقيادي المتطرف أبو بكر ناجي، والذي قسم مراحل إسقاط الدولة التونسية على أيدي الجماعات الإرهابية إلى عدة مراحل، المرحلة الأولى “مرحلة التأسيس” وتبدأ بالدعوة والتجنيد والتعبئة البشرية، وقد أخذت تلك الجماعات فرصتها لسنتين ونصف في الفترة الماضية بعد الثورة بامتياز ونجحت في ذلك نجاحًا كبيرًا، حيث قاموا بتخزين كميات كبيرة من الأسلحة، وجندوا الآلاف من الأعضاء.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الاغتيالات والكمائن ونشر الفوضى والقيام بعمليات صغيرة مفاجئة ومباغتة ومتعددة بوتيرة متزايدة نسبيًا وتسمى بمرحلة الإنهاك لمزيد من الاختراق الأمني.
المرحلة الثالثة وهي مرحلة الانغماس الفردي كعملية باردو والثكنة العسكرية ببوشوشة والهجوم الأخير في سوسة وتسمى بعمليات “الذئب المنفرد”، المرحلة الرابعة ما قبل الأخيرة وهي الانغماس الجماعي، وقد بدأت في بن قردان بوتيرة متزايدة منذ مدة.
الباحث الأمني التونسي أشار أن المرحلة التي وصل إليها الإرهابيون في تونس هذه الأيام تسمى مرحلة “الانغماس الجماعي”، وتتلخص بإعداد كتيبة مقاتلين وإرسالها إلى منطقة معينة في البلاد، وليس المقصود هنا هو الاحتلال كما يعتقد البعض، فهم لا يريدون الاحتلال إنما يريدون ضرب الدولة في مؤسساتها الأمنية والعسكرية، وكل من يشاركون في هذه الكتيبة أعدوا أنفسهم مسبقًا للموت، وهو ما جاء نصًا في كتاب “إدارة التوحش”: وإذا أحس المهاجمون بالارتباك فسيخرج آلاف من الخلايا المتأهبة (وليس النائمة كما يزعم البعض) بخطط معروفة وهي الهجوم على الثكنات وبيوت العسكريين والأمنيين المبرمجة سالفًا وهي بداية النهاية لإعلان النفير العام.
ودلل على فكرته بما جاء على لسان المتطرف أبو بكر ناجي، الذي يتحدث عن ضرورة “انغماس جماعـة قليلة من المجاهدين في العدو الكثير، بقصد النكاية فيه، وتحصيل مصلحة راجحة، مع اليقين بالموت في سبيل الله، والمصلحة المقصودة هي جس النبض لمعرفة قدرة العدو على الصمود ومقدار تحمله وثباته، وبناء على ذلك يقدرون كيف يزيدون في عدد الانغماسيين، في مناطق عدة في الوقت نفسه لبداية الإعلان عن النفير العام”.
واختتم الباجي حديثه بالتأكيد على أن العملية الإرهابية الجبانة الأخيرة لم تكن في حقيقة الأمر من أجل إقامة إمارة في بن قردان حالًا، بل هي عملية استراتيجية ضمن المرحلة الرابعة قبل الغزو والنفير العام، فأربعون إرهابيًا لا يسقطون دولة قائمة، ولكن المعلوم أن الإرهابيين هم بصدد التقدم في مراحلهم، على حد قوله.
لماذا تونس؟
الكثير من الأسئلة التي طرحت نفسها بقوة على موائد الفكر والتحليل تتعلق بدلالات اختيار تونس خصيصًا بهذا الوعيد، وما هي دوافع تنظيم داعش وغيره من التنظيمات المتطرفة الأخرى للسيطرة على تونس أو على الأقل إحداث حالة من الفوضى العارمة بداخلها؟
الكاتب والمحلل أسامة الهتيمي، الباحث في قضايا الإسلام السياسي يرى أن ثمة سببان رئيسيان يدفعان تنظيم داعش للتركيز خلال الفترة المقبلة على تونس، وهما أن تونس أحد خيارين لا ثالث لهما فيما يخص رغبة التنظيم في التمدد في منطقة شمال أفريقيا، فإما أن يتحرك التنظيم باتجاه الشرق ناحية مصر، وإما في اتجاه الغرب ناحية تونس، ومن ثم ووفق المعطيات الأمنية فإن التحرك باتجاه مصر ربما يكبد التنظيم خسائر فادحة ويدخله في معارك لا قبل لها بها في الوقت الحالي، خاصة وأن قوات الجيش المصري تنبهت لهذا الأمر منذ فترة، فاتخذت استعدادات أمنية مكثفة، فضلاً عن المنطقة تتسم بقلة عدد السكان، وبالتالي فهي أرض مكشوفة في حين أن بعض عناصر التنظيم تتواجد بالفعل في المنطقة الشرقية لمصر.
أما السبب الثاني – والحديث للهتيمي – فهو سياسي بالدرجة الأولى يعود لتلك الفترة التي تولت فيها حركة النهضة التونسية مقاليد الأمور في تونس، وأرادت خلالها أن تحدث حالة من التصالح مع التنظيمات والتكوينات الإسلامية، فأعطت مساحة من حرية التحرك للجميع بهدف الاحتواء، وهي استراتيجية كان يمكن أن تأتي أكلها لو أن النهضة استمرت في الحكم وهو ما لم يحدث، الأمر الذي أصاب التنظيمات المسلحة ومنها داعش بانتكاسة حيث استشعرت أنه لا جدوى من مسألة التنافس السياسي، وأنه لا حل إلا العنف والسلاح، فالديمقراطية – ووفق هؤلاء – أقصت الإسلام وأبعدته عن أن يكون الحاكم في هذا البلد، وعليه فإن التنظيم يحاول أن يستغل حالة الاحتقان لدى بعض الأطراف ليصعد من معركته ضد السلطة في تونس.
الهتيمي يؤكد أن هناك مغزى سياسي آخر يتعلق بتركيز داعش على تونس، يتعلق بأنها تسعى لإجهاض أي نموذج ثوري ناجح، وهي في ذلك تتوافق مع كل الأنظمة المستبدة التي تتوجس خيفة من نجاح التجارب الديمقراطية في عالمنا العربي، إذ إن نجاح هذه التجربة هو نموذج تطبيقي وعملي للرد على الأفكار العنيفة التي لا تؤمن إلا بالسلاح.
ويؤكد ما ذهبنا إليه أن سلوك داعش لا يخلو من تناقضية غريبة إذ هي وفي الوقت الذي تسعى فيه لاستغلال مناخ الديمقراطية في تونس كونها من بلدان الربيع العربي التي نجحت حتى الآن وإلى حد كبير في انتزاع الحرية من استبداد زين العابدين وطغمته، نجدها تدفع البلاد وسلطاتها إلى اتخاذ إجراءات أمنية أكثر تشددًا تحمل بين طياتها الكثير من شواهد التضييق ومصادرة الحريات.