يبدأ الدكتور صُفّار الفصلالأول في كتابه والمُعنون ب (أزمة التأسيس الفلسفي عند نجيب محفوظ ) بطرح سؤال تمهيدي وجوهري: هل لدينا – نحن العرب – فلسفة أصيلة؟ ، ويكتسب هذا السؤال أهميته لدى الكاتب بإثبات شرعية المشروع الفلسفي لدينا من عدمها. وبين محاولة ابن رشد لممارسة التفلسف على أحكام الشريعة الإسلامية كأداة للتفكير والإجتهاد بأفاق جديدة، وبين ما أقره المؤتمر الفلسفي العربي الأول عام 1985 في الجامعة الأردنية بقسوة وربما بمحاولة لوضعنا أمام حقيقة مشاريعنا الفلسفية وهي حسب ما خلص إليه المؤتمر مُجرد تحليلات وتحليق دقيق فوق نصوص فلسفية كُتبت سابقاً لفلاسفة حقيقين، أي بمعنى آخر : لا توجد لدينا مشاريع فلسفية أصيلة وجديدة. أما الدكتور صُفّار فلا يبدو أنه كان مُرتاحاً لما وصل إليه المؤتمر وإلّا لما أعاد التساؤل مجدداً: هل لدينا فلسفة؟، وحتى يكون تساؤله موضوعياً منهجياً وليس مجرد تذمر نَكِد، اختار التعرّض للخبرة كأداة للوصول إلى إجابة مُنصفة وعادلة ومنهجية لتساؤله.
نجيب محفوظ : إجهاض حمل في خارج الرحم
التحق نجيب محفوظ في كلية الآداب عام 1930 لدراسة الفلسفة، وبدأ بكتابة سلسلة مقالات فلسفية حتى عام 1936، وفي أثناء كتابته لرسالة الماجستير والتي كانت بعنوان ( مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية)، قرر محفوظ الإنسحاب من ميدان الفلسفة وعدم إكمال رسالته. فما الذي دفعه إلى ذلك يا تُرى؟ وهل كان تحوّله من الفلسفة إلى الأدب هروباً من مواجهة الأسئلة الكونية التي كانت تعتمل في صدره؟ وهل حضرت الفلسفة في شخصياته الروائية أم حضر موقفه الخاص من الفلسفة فيها؟ وإن كانت الإجابة أن محفوظ وضع أثقال أسئلته الخاصة على لسان شخصياته، فهل هذا يُعتبر سبيلاً من سُبل التفلسف ؟.
عيد ميلاد سعيد
ينتهج الدكتور صُفّار أسلوب القراءة المتوازية الذي اقترحه الدكتور أحمد عبدالحليم لأعمال نجيب محفوظ الروائية ، فيقرأ السُكرية بالتوازي مع المقالات التي كتبها محفوظ في مطلع الثلاثينيات، كما ويستفيد مما يُسمى بعلم احتمالات النصوص، وفيه يُدرس النص بمُختلف الفهوم الذي يمكن أن يحملها، اقتصادية كانت أم سياسية أم فلسفية أو غير ذلك، فيُسلط الضوء على شخصية كمال عبد الجواد في السُكرية، الذي يتململ شاكياً أنه لا يُمارس الفلسفة فعلياً كنشاط إنما يردد ما قاله غيره من الفلاسفة كالببغاء، فيقف من الفلسفة موقف السائح في المتحف، فلا هو يملك التُحف المعروضة ولا هو يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً. فهل تجاوز نجيب محفوظ كمال عبد الجواد وتخلى عن موقف اللاموقف إزاء الفلسفة؟
يرسم لنا الدكتور صُفّار قوسين ندرس من خلالهما الإجابة عن السؤال السابق، في مقالتين لمحفوظ نُشرت الأولى عام 1930 وهي( احتضار معتقدات وتوالد مُعتقدات ) أما الثانية ونُشرت عام 1936 بعنوان ( فكرة الله في الفلسفة ). في الأولى يتبنى محفوظ رؤية الحداثة للتراث، فهو يرى أن المُعتقدات القديمة لابدّ أن تهدمها أفكار جديدة خلّاقة – وقد اقترح الاشتراكية كأفق جديد- تتابعاً مع إيمانه بالتطوّر كسنة كونية ، أما في الثانية فيعود إلى الدين كأساس للحضارات القديمة وكعنصر سامي أصيل لا يمكن تجاوزه أو تهميشه، فيخلُص إلى ترتيب تناول المُفكرين للدين إلى ثلاثة صنوف: الفلاسفة عن طريق العقل، وعلماء الإجتماع بواسطة المنهج العلمي، والمتصوفة من خلال القلب والشعور، فلا يرتاح نجيب للأولى ويرى أنها لم تنجح في شفاء غليل الأسئلة التي تحترق داخله، أما الثانية فيرى أنها تحاول ردّ السماوي إلى الأرضي، والثالثة يقف أمامها عاجزاً كونها تنضوي على الخصوصية الروحانية لتجربة الإنسان في العروج إلى السماء.
هنا نخلُص بأن نجيب وقع مُجدداً في اللاأدرية ولم يبرح موقف اللاموقف الذي شخّص به كمال عبدالجواد نفسه، ويصف الدكتور صُفّار مشهد التأزّم هنا عند نجيب بأنه حمل خارج الرحم، فنجيب لم يفلح في التفلسف الفريد وعبّر عن ذلك بنزوحه إلى الأدب، وإن أكسب هذا أعماله الأدبية فردانية خاصة لم تُكرر بعده. في سياق شكوى كمال عبد الجواد عن مشكلته المُتأزمة مع الفلسفة، يخاطبه رياض قلدس قائلاً: تقرأ وتفهم، مؤرخ بلا تاريخ ، أرجو أن تعد يوم خروجك من هذا الموقف يوم عيد ميلادك السعيد). فهل شهد محفوظ عيد ميلاده السعيد عندما رحل إلى الأدب؟
كإجابة على السؤال الأعلى، يُسلط الدكتور صُفّار الضوء على جانبين من محفوظ: جانب ضيقه بالحيز الفلسفي، وجانب انسيابه في رحاب الأدب، فبعدما أن فقد محفوظ إيمانه بالإشتراكية كطريق في التطور وطرح المعتقدات القديمة، أخذ يعدو حائماً داخل مضمار الفلسفة ، طارحاً سؤالاً في غاية الأهمية وهو : هل تتحدد الفلسفة حسب موضوعاتها؟، فيقارب في نص ( اللص والكلاب) إحساسه عن ضيق الفلسفة في إستيعاب ما يعتمل داخل صدر الإنسان من أسئلة، وجمودها في التعبير عن القلق البدائي والذي يحدث أن يصاحب الإنسان حتى مماته.
في شخصية اللص ( الإشتراكي ) الذي يتحول إلى لص أصلاً لمحاولته لتطبيق مفهوم ( التأميم) بنفسه عوضاً عن الدولة الذي يفترض بها هي أن تطبقه، أما شخصية الشيخ الصوفي فهي تعبر عن إستعادة نجيب لإيمانه بضرورة الدين كفاعل في التاريخ الإنساني، فيحاول أن يقفز باللص من نظرته المادية للأشياء داعياً إياه بأن يتوضأ ويُصلي، وعلى الرغم من إلتباس التواصل بين الشخصيتين لإختلاف النموذج الفكري الذي يتبناه كل منهما والذي قد يُعبر عن لاأدرية نجيب، إلا أنه يُفضي إلى محاولة جريئة قدمها محفوظ للتفلسف من داخل حقول الأدب، والتي يتبدّى واضحاً أن نجيب اختار فُسحتها عوضاً عن حدود الفلسفة التي ضاقت به،والأغلب كما يرى الدكتور صُفّار أن هذه المحاولة لمحفوظ جاءت من رحم تأثره بفلسفة برجسون التي تنظر للعقل كأداة آلية لإنجاز الأعمال اليومية، وتُعلي من الروح كمعراج للتفكير والتدبّر وإدراك ما لا يُمكن أن يُدرك بالعقل الآلي الجامد.
وهنا سيصعب علينا أن نضع كمال عبد الجواد بجانب نجيب محفوظ ونوحدهما في موقف واحد، فمحفوظ بالنهاية استطاع أن يُدرك فعل التفلسف إلا أنه ببساطة اختار حيزاً آخراً فريداُ وواسعاً لممارسته.
قراءة في أدوات الدكتور صُفّار
النموذج المُركّب في تحليل النماذج الفكريّة كما يُسميه الدكتور عبدالوهاب المسيري،هو ما أبدع الدكتور صُفّار في استخدامه كأداة لدراسة تجربة نجيب محفوظ وبناء إجاباته،فسيلاحظ القارئ أنّ الأفكار كانت تُبنى على التوالي وكانت تُصف فوق بعضها البعض حتى يكتمل النموذج، كما ويظهر كثرة تأمله في أفكار محفوظ وتدقيقه النقدي في متن النصوص الأدبية ، الأمر الذي مكنّه من بناء دراسة تنظر إلى أزمة التفلسف لدينا برؤيا المُجرب أو على أقل تقدير، الناظر في التجربة.