منذ أيام نشرت مجلة “أطلانتك” الحوار والموضوع الأهم ربما في سنوات رئاسة باراك أوباما الثمانية، والتي قاربت على الانتهاء، بعنوان “عقيدة أوباما،” وهو الموضوع الذي تولى صياغته الصحافي المرموق جيفري جولدبرج بعد قيامه بمحاورة أوباما، والذي يشرح فيه باستفاضة تفاصيل التغيرات التي جلبها أوباما للبيت الأبيض ودوره عالميًا لا سيما التوجه الآسيوي، والمنطق الكامن خلف قرارات عدة أبرزها العدول عن ضرب نظام الأسد في سوريا عام 2013، والانفتاح على دول “مُعادية” للولايات المتحدة مثل إيران وكوبا وميانمار وغيرها من بلدان لاتينية، والالتزام بالهدوء في مواجهة المغامرات الروسية.
بيد أنه في الكثير من لحظات الحوار بدت هناك محاولة لصياغة “عقيدة” تتسم بها إدارة أوباما، وهي محاولة أضفت ربما لمسات درامية وعبقرية على سياسات الرجل، في حين لا يبدو أنها تتجاوز مجرد إستراتيجية لإدارة الضعف أو التراجع A Strategy for Managing Decline.
أوباما: إدارة الانصراف أم انصراف الإدارة؟
في حديثه عن الشرق الأوسط يُبدي أوباما استياءً من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، من إسرائيل وتركيا وحتى السعودية وباكستان، فهو يناقش دومًا في دوائره الخاصة جدوى التحالف مع باكستان أصلًا، ثم يتسائل عن فائدة الحفاظ على التفوق العسكري لإسرائيل على جيرانها، ويُبدي إحباطه من تحول أردوغان إلى قائد مستبد، وأخيرًا يشير للدور السلبي الذي لعبته دول الخليج أحيانًا في نمو الحركات الإرهابية التي انتهى بها الأمر في تضاد مع المصالح الأمريكية، علاوة على قمع السعودية تحديدًا لـ”نصف مجتمعها” (في إشارة للنساء.)
تبدو تلك الكلمات وكأنها في مقال لأحد الكتاب الأمريكيين الليبراليين، ولكن حين تخرج من رئيس الولايات المتحدة فإن وقعها على الأذان يكون صاعقًا، أو هكذا أراد المتكلم أو المحاور أو كلاهما، لكن في نهاية المطاف، ومع النظر قليلًا فيما قاله أوباما، يبدو صعبًا أن تكون معاملة السعودية للنساء، والمستمرة من عقود، كافية لخلق كل تلك المسافة بين واشنطن والرياض، وإقناع أوباما بالانفتاح قليلًا على إيران، لا سيما وأن معاملة إيران لمواطنيها ليست أفضل بكثير، علاوة على أن الإيرانيين أيضًا يدعمون جماعات متطرفة تضر بالمصالح الأمريكية، كما أن تحول أردوغان نحو الاستبداد يظل غير كافيًا لتفسير الفجوة بين البلدين، واللذين تمتعها بعلاقة متينة لعقود طويلة هيمن فيها الجيش التركي تمامًا على الحياة السياسية.
هي كلمات سطحية إذن في الحقيقة التي حاول بها أوباما تبرير ابتعاده عن السعودية وإسرائيل، والذي يعود إلى تباعد في وجهات النظر حول إيران، فالرجل لا يتكلم عن مواجهة إيران أو حتى احتوائها، بل مقاسمة الشرق الأوسط من حيث النفوذ بينها وبين الخليج السُني، أو ما أسماه السلام البارد بين الطرفين، وهو سلام قد يفيد المنطقة كلها، ولكن لا نعلم كيفية استفادة الولايات المتحدة منه بالتحديد، فالحُجة الرئيسية التي يسوقها أوباما هي أن المنطقة لم تعد مهمة للأمريكيين نظرًا لثورة النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة، والتي تجعلها في غير حاجة إلى نفط الخليج، وهو ما يعني أن “السلام البارد” ليس مفيدًا للمصالح الأمريكية، بل هو بديل للمنظومة التي رعت المصالح الأمريكية سابقًا، فالمصالح الأمريكية القديمة لم تعد موجودة أصلًا، فهي إما تضاءلت أو ربما تتلاشى تمامًا مستقبلًا.
أوباما في إحدى الاجتماعات مع فريقه
تباعًا، وجدت الولايات المتحدة نفسها في تلك المنطقة فجأة وكأنها لا تريد “الاستمرار في تلك العلاقة بها” إن جاز القول، وفي حاجة للبحث عن بديل للدور الأمريكي، والبديل الوحيد بالطبع يستحيل أن يتولاه طرف من الأطراف الصغيرة الموجودة بقدر ما يمكن أن تتولاه منظومة أمنية وسياسية واقتصادية جديدة تضم كافة الأطراف المتصارعة، والتي لا يملك أي منها قوة الولايات المتحدة أو حتى عُشرها، وهو ما يفسر إذن رغبة الولايات المتحدة في الانفتاح على إيران باعتبارها الحليف الممثل للقوى المعادية لها، وبالتالي الطرف القادر على إجبار الجميع للتوصل إلى “السلام البارد.”
تلك السياسة في الحقيقة، حتى الآن، لم تؤدي إلا لعناد من حلفاء واشنطن بوجه إيران، واشتعال الصراع بينما يستمر “الانصراف الأمريكي” عن المنطقة بفعل تضاؤل مصالحها هناك، وهو ما يعني ببساطة أن سياسة أوباما بالشرق الأوسط لم تكن ناجحة في الحفاظ على المصالح الأمريكية، غير الموجودة حاليًا هناك، أو الموجودة ربما لكن بدون تعريف واضح لطبيعتها الجديدة، ولم تنجح حتى في الحفاظ على حلفاء واشنطن التقليديين بل خسرتهم نسبيًا، في نفس الوقت الذي لم يؤدي فيه الانفتاح على إيران سوى لمكاسب دبلوماسية لطهران، دون أن تقدم إيران أية تنازلات حقيقية سوى تقييد برنامجها النووي، وهو مطلب لا يسمن ولا يغني من جوع لا في الرياض ولا في تل أبيب.
بالمثل يبدو أوباما غاضبًا من تركيا وباكستان، لكن الحقيقة هي أن طبيعة المصالح الأمريكية قد تغيرت في محيطيهما، فالرجل يتحدث صراحة عن دور تقليدي تاريخي لروسيا في أوكرانيا وحتمية وقوعها فريسة للروس بين الحين والآخر، في نوع من الاستسلام للوضع الجديد المفروض من موسكو، وهو ما يعني احتواءه للتمدد الروسي لا أكثر مع انقلاب القبلة الاقتصادية الأمريكية من الأطلنطي إلى الهادي، ومن أوروبا إلى آسيا، والصياغة هنا هي عدم الرغبة في “إشعال المنطقة” أو الوقوع في “فخ بوش” وغيرها من مصطلحات لم نسمعها من رئيس أمريكي من قبل، وفي نفس السياق يأتي اهتمامه بالعلاقات مع الهند لموازنة الصين في آسيا، والذي يغير من طبيعة علاقة واشنطن بباكستان، فالملف الأفغاني لم يعد بنفس الأهمية للأمريكيين كما كان، والعدو الرئيسي لباكستان بات مهمًا في المحيط الهادي، وهو ما يعني ببساطة سقوط أسباب التحالف الأمريكي الباكستاني.
في كل ذلك يصعب رؤية أية عقيدة خاصة بـ”أوباما،” فالرجل إما أنه سأم التحالفات التقليدية لواشنطن وقرر ضرب مصالح حلفائه السعوديين والإسرائيليين عرض الحائط وفق أهوائه الشخصية، وهو أمر مستبعد ولا يرقي لعقيدة بأي حال، وإما أنه تصرف وفق إملاءات المصالح الأمريكية الجديدة، والتي لم تعد بنفس الأهمية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا بكل بساطة، وهو ما يعني أن كل ما لدينا لتقييمه هو إدارته للـ”انصراف الأمريكي” من حيث وقعه على استقرار تلك المناطق، وهو تقييم لن يكون في صالح أوباما بطبيعة الحال كما أشار محللون كُثر بعد حواره، والذي بث صورة اتسمت بالضعف تارة والتخبط تارة أخرى أشارت لـ”أعداء” الولايات المتحدة بأن ثمة فرصة سانحة للتمدد استغلتها تلك الأطراف بالفعل، وأطلقت العنان لحلفائه من ناحية أخرى بحشد كل طاقاتهم لمواجهة هذا التمدد دون الاكتراث برأي واشنطن من الآن وصاعدًا، وهو ما يصعب اعتباره إدارة جيدة للانصراف بقدر ما يبدو فعليًا انصرافًا عن إدارة المشهد.
القبلة الآسيوية أيضًا تشي بسياسات الضعف الأمريكية
أوباما ونظيره الصيني شي جينبينغ في زيارة لبكين
يتحدث أوباما بعد ذلك عن أهمية العلاقات مع آسيا، وإدارة العلاقات مع الصين باعتبارها الضمان الوحيد للاستقرار العالمي، والاتجاه نحو آسيا هو الحُجة لانصرافه عن الدور الأمريكي التقليدي في أوروبا والشرق الأوسط، إلا أنه على غرار تلك المناطق، تعاني الولايات المتحدة في فترة أوباما من تحركات صينية عسكرية غير مسبوقة في البحار الإقليمية بدون ردود عسكرية حاسمة من واشنطن، فعلى مدار سنوات أوباما تحركت الصين ولأول مرة في تاريخها لرسم حدود ما تعتقد أنها مياهها الإقليمية في بحر جنوب الصين والبحر الأصفر، وردمت جزرًا بشكل سريع ودججتها بمحطات الرادار والتجسس وغيرها من بنى تحتية ستتيح لها بث قوتها العسكرية في المحيط الهادي، والذي سيشكل ركيزة نصف الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة، ومعبر أكثر من 5 تريليون دولار من السلع المتجهة ناحية الأسواق الأمريكية سنويًا.
لم يتعدى التجاوب الأمريكي مع التوسع الصيني محاولة خلق تحالفات مع الأطراف القلقة من الصين لاحتوائها، وهو ما يشير مرة أخرى إلى أن أوباما لم يرى في فترة رئاسته قدرة واشنطن منفردة على الوقوف للصين، فالرجل انكب على سياسة خلق اصطفاف مع أطراف أخرى في القارتين المطلتين على المحيط الهادي (الآسيوية واللاتينية) بوجه الصين، مثل اليابان وأستراليا وشيلي وكندا وكوريا الجنوبية وغيرها، وكأن الصين هنا هي القوة الأولى، والولايات المتحدة هي القوة الثانية.
ليس أدل على ذلك من الانفتاح التاريخي على فيتنام، الغريم القديم، والذي قام بموجبه جون كيري بخرق بروتوكول البيت الأبيض، والسماح للأمين العام للحزب الشيوعي الفيتنامي بلقاء أوباما رُغم أنه ليس رئيسًا لدولته، والمقابل بالطبع هو إقناع فيتنام بدخول معاهدة المحيط الهادي للتجارة، والتي ستضم اليابان والعديد من دول أمريكا اللاتينية المطلة على المحيط الهادي وأستراليا لها، لإحداث توازن اقتصادي مع الصين، بل إن هناك حديث عن استضافة فيتنام في المستقبل القريب لقاعدة أمريكية لحمايتها من النفوذ الصيني الذي يتهددها.
أوباما مع نظيره الكوبي راوؤل كاسترو
اهتمام أوباما بأمريكا اللاتينية يأتي في نفس سياق الاهتمام بالمحيط الهادي، فالانفتاح على العديد من الدول المعادية للولايات المتحدة هناك منذ الحرب الباردة، وأبرزها كوبا، يصوغه أوباما باعتباره توجه جديد للولايات المتحدة للحوار مع “أعدائها،” لكن خلف تلك الصياغة تكمن حتميات الموقف الأكثر ضعفًا للسياسة الأمريكية في عهده، والذي تطلب منه الانفتاح على كسب أصدقاء جدد قدر الإمكان، لا سيما في قارة تعتبرها واشنطن “ساحتها الخلفية.”
في نهاية المطاف، ومع الإقرار بأهمية المكاسب الأمريكية دبلوماسيًا من الانفتاح على تلك الأطراف، إلا أن خطاب المصالحة مع كوبا وإيران وفيتنام، بل و”استيعاب” بوتين كما وصفه أوباما، لا يحقق ما ادعاه أوباما من أنه يقلل من حدة “العداوة” بين مصالح هؤلاء ومصالح واشنطن، ولا يغير من طبيعة مصالح هؤلاء ورغبتهم في تحقيقها بل وقيام بعضهم بتحقيقها بالفعل تحت نظر الإدارة الأمريكية، فـ”الانفتاح” على كوبا وإيران وغيرها يظل أمرًا تم برغبة أمريكية في فتح قنوات دبلوماسية جديدة للولايات المتحدة، والتي باتت ربما أكثر ضعفًا من تحمل كل تلك العداوات على الساحة الدولية ليس إلا، في حين لا يبدو أن انفتاحًا كهذا قد قلل كثيرًا من قبضة الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان، بل لربما سيعزز من أرصده تلك الأنظمة بجنيها ثمار الانفتاح الاقتصادي دون تغيير بنيتها السياسية، كما جرى مع الصين سابقًا في الثمانينيات.
***
يبقى السؤال الآن ما إذا كان أوباما قد رسم باختياره سياساته الضعيفة في حين لا يزال ممكنًا لواشنطن أن تبث قوتها عالميًا أكثر مما أتاح لها أوباما، أم أن سياساته كانت حتمية فعلًا لتراجع القوة الأمريكية؟ قد نعرف الإجابة عن هذا السؤال بعد خروجه من البيت الأبيض، ومباشرة الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة لمهامه على المسرح الدولي، والذي سيتسنى له هندسة سياسة مخالفة وأكثر قوة وحضورًا من سلفه إن استطاع، أو سيضطر للالتزام بالخط الجديد إن ألزمه تراجع قوة بلاده عالميًا على ذلك.
في كلا الحالتين لن تعدو “عقيدة أوباما” كونها صياغة جذابة، إما لسياسات الضعف التي سار عليها أوباما باختياره، وفي تلك الحالة فإن جولدبرج كصحافي لعله قدم خدمة جليلة بإظهار تلك السياسة السلبية في تحركاتها، وغير المسبوقة للبيت الأبيض ربما منذ الحرب العالمية الثانية، بمظهر إيجابي وعبقري، وإما أنها بالفعل صياغة لهندسة تراجع الولايات المتحدة عالميًا، وفي تلك الحالة فإن الإستراتيجية ستستمر لما بعد أوباما، وسيكون من المبالغة، ومن المجاملة لشخص أوباما، تسميتها بـ”عقيدة أوباما” وكأنها ملمح خاص لرئاسته هو فقط.