“كالرعد في سماء صافية، هكذا كان صدى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعودة الجزء الأكبر من القوات الروسية العاملة في سوريا”.
هكذا وصف تحليل قناة “روسيا اليوم” الخطوة الروسية المفاجئة التي أُعلنت بالأمس من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هذه الخطوة التي جاءت بعد أن أدت القوات الروسية المهمة الموكلة إليها بحسب تصريحات بوتين، لذلك أمر بانسحاب القسم الأكبر من القوات العسكرية من سوريا اعتبارًا من اليوم الثلاثاء.
كما أعلن بوتين في تصريحاته أن القوات الروسية في طرطوس وقاعدة حيميم العسكرية ستواصل عملها كالمعتاد، وسيعمل الجزء المتبقي من قواته في سوريا على مراقبة الهدنة، فيما استعرض وزير الدفاع الروسي بعض النتائج للتدخل العسكري الروسي في سوريا من وجهة نظر روسيا.
النظام الروسي أكد أن سحب قواته من سوريا لا يعني الامتناع بأي حال عن الالتزامات الخاصة بدعم نظام الأسد عسكريًا، بينما أكد بوتين أنه تحدث هاتفيًا مع بشار الأسد لإبلاغه بالقرار الروسي.
هذه الخطوة غير المتوقعة أتت أثناء انطلاق محادثات جديدة في جنيف حول الأزمة السورية، بعد أن نجحت الحملة العسكرية الروسية في فرض بشار الأسد ونظامه على طاولة المفاوضات الدولية بقوة الأرض منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سبتمبر من العام الماضي، والذي قلب الموازين العسكرية على الأراضي السورية لصالح نظام الأسد بالطبع.
القرار يجب أن يُقرأ كاملًا
قبل الشروع في أي تحليل أو تفسير لهذا القرار الروسي يجب على الجميع قراءته بتأنٍ شديد واستخلاص ما بين السطور، فالقرار لا يقول انسحاب عسكري روسي كامل من التراب السوري، وإنما تحدث عن ثبات في وضع قواته الروسية في قاعدتين عسكريتين في طرطوس وحيميم بمهام عسكرية واضحة، فيما نفى القرار أي تخلي عن نظام الأسد كما حاول البعض التمني في تعليقاته.
روسيا التي تملك قرابة 30 مقاتلة في سوريا، بالإضافة إلى مجموعات من الجنود المقاتلين في شكل قوات خاصة، مدعومين بالمستشارين العسكريين الروس المتواجدين على الأراضي السورية من أول يوم منذ اندلاع الثورة السورية، ساعدت النظام الأسدي عسكريًا لقرابة 5 سنوات.
وكانت نقطة المنحنى الصاعد في هذه المساعدات العسكرية الروسية هي لحظة التدخل المباشر في سبتمبر من العام الماضي، والتي حققت أهدافها بالفعل كما أشار بوتين ووزير دفاعه بالأمس، تلك الأهداف التي صبت في اتجاه غايات بوتين التي أعلن عنها العام الماضي، وهي أن روسيا تهدف من تدخلها في سوريا إلى “استقرار السلطة الشرعية ” و”تهيئة الظروف الملائمة لتسوية سياسية”.
وبالفعل استعاد النظام السوري سيطرته مرة أخرى على المناطق الحيوية في سوريا بعد أن فقد 70% من أراضي سوريا قبيل التدخل الروسي العسكري المباشر واستقرت سلطته عليها، ونجحت روسيا بعد ذلك في إطلاق عملية سياسية كان الأسد ونظامه جزءًا رئيسًا منها.
القرار غير متوقع ولكنه ليس بالمفاجأة الكبرى
لما لا يمكن اعتبار الخطوة الروسية هذه تحولًا استراتيجيًا مفاجئًا في الملف السوري رغم أن الإجراء الروسي لم يكن متوقعًا؟ في الحقيقة يمكننا الإجابة على هذا التساؤل إذا علمنا بسياق أهداف التدخل الروسي العسكري المباشر والذي ساعد بوتين على اتخاذ مثل هذه الخطوة.
فالروس ضمنوا أن للنظام السوري وفدًا حاضرًا في مفاوضات سياسية، كما قضت القوات الروسية على حصار المعارضة المسلحة لنظام الأسد وحدت من قدراتها بل وفرضت الحصار عليها بعد ذلك من قوات النظام.
وأفشلت روسيا بتدخلها الخطة التركية الرامية إلى إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، وساهمت بتنسيق مع الولايات المتحدة في زرع الشوكة الكردية على الحدود التركية، ما يعاني ورقة ضغط جديدة في الملف السوري بيد الروس أمام الأتراك في أي تفاوضات قادمة.
بعد هذا السياق يمكن أن يتخذ بوتين قرار انسحاب الجزء الأكبر من قواته العسكرية بكل هدوء، ويمكن تفهم القرار في إطار تخفيف النفقات العسكرية هناك، مع ملاحظة بقاء دور القواعد العسكرية الروسية في سوريا، واستمرار دعم النظام السوري لوجيستيًا وعسكريًا.
هذا الأمر ربما سيعطي الروس هامشًا من المناورات السياسية في الفترة القادمة، حيث ظهر السيد بوتين بمظهر الحريص على مسار العملية السياسية والعامل على إنجاحها.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الروس في هذه المرة ينظرون إلى تجارب سابقة كأفغانستان والشيشان وغيرها، لذا كان التحرك في الداخل السوري حذرًا للغاية، ومكبلًا بإرث الماضي المندفع.
موقف واشنطن
الأمريكيون فيما نقلته وكالة رويترز عنهم أكدوا أنهم لم يتلقوا أي تحذير مسبق بخصوص بيان بوتين.
وفي السياق ذاته تعامل البيت الأبيض بحذر مع الإعلان الروسي عن سحب القسم الأكبر من قواته المنتشرة في سوريا، واعتبر أنه من السابق لأوانه التكهن بالتداعيات المحتملة لقرار من هذا النوع على المفاوضات الجارية في جنيف، حيث قال جوش إيرنست المتحدث باسم الرئيس الأمريكي باراك أوباما في تصريحات له، أنه “لا بد لنا من أن نعرف بدقة ما هي النوايا الروسية”، وأضاف في مؤتمره الصحفي “من الصعب علي أن أقيم التداعيات المحتملة لهذا القرار على المفاوضات الجارية”.
هذا الموقف الأمريكي يعكس ارتباكًا بعض الشيء من الخطوة الروسية، لكن واشنطن تتعامل مع الأمر بتداعياته وليس بالأخبار المتدوالة على صفحات الجرائد، لذا نقلت وكالة رويترز عن مصادر أمريكية وروسية فيما بعد عن وجود اتصال بين الرئيس الأمريكي والروسي للتباحث في القرار الروسي الأخير، وعليه ربما ستبنى الأجندة القادمة في المفاوضات.
ولا يمكن التغافل في هذا الاتجاه عن التصريحات الروسية السابقة لوزير الخارجية سيرغي لافرورف، التي أكد فيها استعداد الجانب الروسي للتعاون مع الولايات المتحدة في إطار محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الرقة، وهو ما يعني أن الأجندة القادمة هي التي ستحدد مدى تنفيذ الروس لقرار انسحابهم العسكري، الذي يمكن أن تتراجع عنه بحجة العودة لتحرير الرقة مع الولايات المتحدة.
اللاعبون الآخرون
هذا القرار له تأثيره على اللاعبين الآخرين في الأزمة السورية بعيدًا عن الولايات المتحدة وروسيا، على الصعيد الإقليمي هناك الأتراك والسعوديين والإيرانيين الذين يراقبون عن كثب الأوضاع في سوريا.
في تركيا سيفتح القرار أمامهم فرصة جديدة لإعادة تقييم دورهم في سوريا في الفترة الماضية والذي قيدته روسيا بتدخلها العسكري، وكذلك مسألة التوقيت الذي اتخذ فيها القرار سيجعل على الأتراك دورًا هامًا في اتخاذ قرارات مجابهة تعيد مجال التأثير الخاص بها في سوريا إلى قوته، خاصة في الحلول السياسية المقبلة أو في أي حل عسكري متوقع.
الموقف السعودي من الخطوة ربما سيركز على المعادلة السياسية في الفترة القادمة في ظل ثبات الأرض بعد انسحاب الروس وعدم نيتهم التقدم أكثر من ذلك، وهو الأمر الذي كان من شأنه سحق التأثير السعودي على الأراضي السورية المتمثل في الجماعات المسلحة المعارضة التي تتلقى دعمًا مباشرًا منها.
وربما يحدث تلاقي سعودي تركي ولكنه باحتمال أضعف لوضع شكل جديد للأرض في ظل الانسحاب الروسي، ولكن لا دليل على نية أي من الطرفين السعي في هذا الاتجاه ولو في هذه الآونة على أقل تقدير.
أما الإيرانيون فقد تلقوا الخبر بصورة باردة حيث لا تعليق محوري على الأمر، وهو ما ينم عن اتخاذ الروس لهذه الخطوة بشكل منفرد حتى الآن، في ظل الحديث عن تنامي الخلاف الروسي الإيراني على الشكل النهائي الذي ينتهي به الصراع بين الفيدرالية والتقسيم أو الحل السياسي القائم على استبعاد الأسد.
المستقبل
على ضوء مواقف الأطراف المختلفة من القرار الروسي بين الترحيب الحذر والمواقف الدبلوماسية الباهتة، تنتظر سوريا حلًا على وقع متغيرات جديدة من الجانب الروسي.
ينظر البعض من خلال هذه المستجدات إلى حدوث انفراجة على خطى الحل السياسي، لكن البعض الآخر يرى أن ترجمة الخطوات الروسية على الأرض أهم من أي شيء آخر، خاصة وأنه لا تزال روسيا متمسكة بخيار الأسد حتى بعد خطوة الانسحاب، وهو أمر ليس محل اتفاق إلى الآن.
وعليه فإن دي ميستورا أكد أن الخيار البديل للمفاوضات الحالية سيكون حربًا أسوأ، وهو ما يشير أن تلك الانفراجة المزعومة لم تؤت أكلها حتى الآن.
فيما يتحدث مراقبون عن الذهاب بخطى حثيثة نحو سيناريو التقسيم بعد أن سطرت روسيا خريطة بالقوة في سوريا تغيرت خلالها الديمغرافية السورية إلى حد كبير، ولن يُفسد هذه الخطة سوى تدخل عسكري آخر يعيد تشكيل الأرض.
ولكن إلى الآن لا أحد يعرف ما ستؤول إليه الأمور مستقبلًا إلا بعد رؤية الخطوة الروسية القادمة والأمريكية أيضًا، إلا إذا اتفقت الدولتان على وضع مشترك في الأزمة، وهو أمر غير معروف حتى اللحظة بسبب غياب الكثير من المعلومات.