يجلس في مقدمة الصفوف، داخل مقهى الحي، عيناه لا تفارقان شاشة التلفزة، بل بالأحرى نتيجة المباراة أعلى الشاشة، يحتسي كأس قهوة بيدين مرتعشتين يحملان ورقة صغيرة، كأنه أمام أمر مصيري سيغير مجرى حياته بالكامل.
“صالح” شاب تونسي، يبلغ من العمر 30 ربيعًا، حاصل على الشهادة الجامعية في الإعلامية الصناعية، اعتاد الجلوس منزويًا في إحدى زوايا المقهى إلا إذا كانت هناك مباراة رياضية فإنه يتصدر المقاعد، لا يكلم أحدًا والجميع يكلمه ويسأله بشغف “هل ربحت؟”.
منذ أربعة أشهر، ربح صالح ثلاثة آلاف يورو بخط قلم ملأ قصاصة لم يتجاوز وقته معاها بعض الدقائق لا أكثر، منذ تلك الفترة لم يمر أسبوع دون أن يلعب هذا الشاب التونسي لعبة الـ “بي – وين”، أو “القمار الإلكتروني”، هدفه الربح والثراء السريع بعد أن غلقت أبواب التشغيل أمامه.
“لم أكن ألعب القمار، حتى إني أكرهه، إلا أن الظروف حتمت عليّ ذلك”. بوجه شاحب وشفتين تحترقان بخليط التبغ والقهوة يتحدث صالح.
أضاف “حصلت على الشهادة الجامعية منذ 6 سنوات، حلمت أن المستقبل ينتظرني ورغد العيش يترقبني، إلا أنه لا هذا وذاك تحقق بل البطالة كانت مصيري والحيطان رفيقي والمقهى هدفي اليومي”.
يصمت لبعض الدقائق ويهز عينيه نحو أعلى شاشة التلفزة حيث نتيجة المباراة ثم قال: “أنظر لم يتبق من الوقت إلا القليل وأربح 500 يورو،هذه الورقة – يريني قصاصة بين يديه تحمل رموزًا وأسماء فرق رياضية – تحمل بين طياتها مستقبلي الذي عجزت الدولة أن تحققه رغم طول انتظار”، ويتابع” لست الوحيد بين شباب الحي الذي يلعب القمار الإلكتروني فغيري عديد وقليل من هم لا يلعبون، نربح يومًا ونخسر آخر تلك سنن الحياة”.
رغم حداثة عهد شباب تونس بلعبة “بلانات وين”، إلا أنها أخذت تسري سيران الدم في العروق لتنتشر بين جل الشباب في كامل مدن البلاد وقراها، وتفتح هذه اللعبة باب المراهنة على كل رياضات العالم الجماعية منها والفردية حتى في الرياضات الإلكترونية والافتراضية.
بلغت نسبة البطالة في تونس حسب إحصائيات رسمية صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء 15.2% بواقع 601.4 ألف شخص إلى نهاية مارس 2015 من مجموع السكان الناشطين الذين بلغ عددهم 3.991 مليون مقابل 605.8 ألف عاطل عن العمل في الفترة ذاتها من 2014، منهم 222.9 ألف عاطل من حاملي الشهادات العليا إلى نهاية مارس 2015، وتقدر بذلك البطالة لدى هذه الشريحة بنسبة 30% مرشحة للازدياد، خاصة في ظل ارتفاع عدد الخريجين الجدد من الجامعة التونسية ليبلغ قرابة 80 ألف سنويًا، بعد أن كان لا يتجاوز 40 ألفًا، إلى جانب تواصل تراجع نسب النمو الاقتصادي ووقعه السلبي على توفير فرص الشغل.
يقول صالح إنه يذهب كل يومين لدكان وسط الحي خصصه صاحبه لهذه اللعبة، ينتظر حلول دوره ليسلم صاحب المحل ورقة صغيرة تحمل بعض الرموز المكونة من 4 أرقام ثم يأخذ صاحب المحل الورقة من يديه ويدوّن مجموعة من الأرقام هي عبارة عن رموز تخص رياضة معينة أدخلها في جهاز الكمبيوتر أمامه ليرجعها له مرة ثانية ويسلم الشاب ورقة المباريات أو الألعاب المختارة مقابل مبلغ من المال بعملة اليورو يدفع الشاب ما يعادله بالدينار التونسي.
وأكد صالح ان ارتفاع عدد الفائزين كل أسبوع جعل العديد من الشباب يقبلون على المقامرة ويراهنون على حلم الثروة والربح السريع دون تعب يذكر.
غير بعيد من صالح جلس ثلاثة صبية يكتبون أرقامًا لا يفهم منطقَها ولا سرها إلا صاحبها باعتبار أن اختيار المقابلة التي يتم الرهان عليها من 4 أرقام هو عبارة عن رمز لها ثم يقوم بالتكهن بالنتيجة النهائية أو بعدد الأهداف في المباراة أو في أحد الشوطين ويتم بين الفينة والأخرى تبادل بعض الأرقام لبعض الفرق الأوروبية أو الأمريكية أو التركية.
رغم تأكيده على تأثيراتها السلبية خاصة على سلوكيات الشباب الذي يقبل على مثل هذه الألعاب، حيث يفقد المتراهن إنسانيته ليصبح أسيرًا لورقة بيده وسيجارة في فمه وقهوة يترشفها مشدودًا إلى نتائج مباريات، يفرح إذا ما فاز ولو باليسير ويضرب يد بيد إذا ما فشل أو خانته مقابلة واحدة من التي راهن عليها، فإنه يقول “ربح بعض المبالغ وإن كانت بسيطة في أغلبها يدفعني إلى أن أواصل اللعب مع أمل متجدد كل يوم”.
فجأة، انتفض صالح ورمى الورقة التي بين يديه وقال “ككل يوم يتغير كل شيء في آخر المباراة وأخسر، يا له من حظ تعيس”.
لعبة “بلانات وين” أو “بي وين”، إضافة إلى كونها تكرس منطق التواكل والبخل وعدم العطاء والبذل بين شباب تونس، فإن تأثيرها على اقتصاد البلاد كبير ومكلف.
من جهته وصف رئيس مدير عام الشركة التونسية للنهوض بالرياضة في تونس محمد الهادي البرقوقي، في وقت سابق، لعبة الـ “بي وين” بالجرثومة التي تنخر الاقتصاد الوطني، مؤكدًا أنها تكبد الشركة التونسية للنهوض بالرياضة خسائر مادية لا يمكن حصرها، مضيفًا أن خسارة الشركة تقدّر بعدد العملاء الذين فقدتهم بعد أن اختاروا الانخراط في هذه اللعبة المارقة عن كل النظم القانونية والتنظيمية المعمول بها في مجال الرهانات، حسب قوله.
وشدد البرقوقي على أن تأثيرات هذه اللعبة سلبية على الاقتصاد الوطني بدرجة أولى خاصة وأنها تفسح المجال لشبابنا للاحتكاك بشبكات خطيرة تنشط خارج البلاد هدفها الأول ولوج الأسواق المحلية وضرب الاقتصادات الوطنية.
وأكّد البرقوقي أن الشركة اتخذت جملة من الإجراءات الردعية الصارمة في حق النقاط التابعة لها والتي تبين انخراطها في هذا الرهان غير القانوني، مبينًا أنه تم اتخاذ قرارًا بإغلاق عدد من نقاط البيع خاصة منها المرتبطة مع شركة النهوض بالرياضة بعقود تمنع الانخراط في رهانات لا صلة لها بالشركة.
ويرجع متابعون انتشار لعبة البلانات بين الشباب بسبب أن هذه اللعبة ضمن خانة أسهل الطرق للربح السريع إضافة إلى حالة الفراغ الذي أصبح عليها شباب تونس وتفشي البطالة بينهم بارقام قياسية.
وأشارت أنباء إلى أنّ الحكومة التونسية ستشرع في إغلاق مراكز هذه الشركات غير القانونية وتشديد الخناق على الرهان المباشر على الإنترنت، خاصة أن قانون المالية لسنة 2016 نص على أن الدولة التونسية لها نسبة 25% من أرباح المسابقات القانونية.
وصدرت مؤخرًا تعليمات إلى كافة الفرق الأمنية بتونس للقيام بتحقيقات حول الانتشار الواسع للعبة “بلانات وين” (Planet win) بعدما تبين لوزارة المالية التونسية وجود أموال طائلة يتم استعمالها في السوق السوداء دون مرورها عبر الضريبة والسوق العادية مما جعل الدولة تتعرض إلى خسارة مالية كبيرة، وتم في الفترة الأخيرة غلق العديد من المحلات المخصصة لهذه اللعبة وحجز جميع المعدّات، وألقت فرقة الأبحاث والتفتيش للحرس الوطني بالمنيهلة من محافظة أريانة القبض على عامل يومي عمره 26 سنة بصدد تعاطي لعبة الرهان الرياضي “بلانات وين” داخل محل إنترنت بالجهة.