في أكتوبر الماضي، عندما بدأت روسيا تدخلها العسكري في سوريا، رفض الرئيس الأمريكي باراك أوباما فكرة أن روسيا يمكن أن تتحدى قيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
بعد شهرين من هذا، ومع تكثيف روسيا لحربها العسكرية في سوريا، ظل أوباما رافضا لإستراتيجية بوتين، مشيرا إلى تجربة أفغانستان التي لا تزال عالقة في الذاكرة.
قد تستمر واشنطن في الاستخفاف بمخاطر بروسيا، رغم أن موسكو ضخت بالفعل موارد في الصراع غير الحاسم، ولكن الولايات المتحدة وآخرين لا يمكنهم أن يميلوا بعيدا عن ساحة المعركة الجغرافية السياسية بالوكالة المعقدة بسبب وجود الجهاديين. المشكلة هي أن الطبقات إستراتيجية روسيا تميل إلى أن تكون كثيفة جدا للعين الغربية، كما كتب مركز “ستراتفور”، الاستخباري، للدراسات الإستراتيجية والأمنية في تقرير مطول نشره بتاريخ 16 فبراير من العام الجاري.
بالنسبة لروسيا، فإن ساحة المعركة السورية ليست حول دعم حليف من خلال الإنفاق المتهور، كما إنها ليست ببساطة حول إتباع إستراتيجية بديلة لهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”. سوريا هي أرض الفرص بالنسبة لروسيا. هذه الساحة تُمكَن روسيا، من خلال ضبط النفس والصبر وتحديد دقيق واستغلال نقاط قوة وضعف خصومها، من منافسة الغرب مجددا.
الواقعية السياسية على النمط الروسي
الاقتصاد الروسي يترنَح في ظلَ انخفاض أسعار النفط، الصراع على السلطة في الكرملين تكثف، الاضطرابات الاجتماعية في تزايد على الصعيد الوطني والولايات المتحدة تعزز الحلفاء الأوروبيين على طول الجهة الغربية لروسيا، وهذا المشهد لا يوحي بسجل جيد للزعيم الروسي، ولكن بوتين بارع في ممارسة السياسة الواقعية.
موسكو لديها من القسوة الواقعية والدهاء ما سوف تستخدمهما في محاولة للتعويض عن ضعفها الأكثر وضوحا.
في أسس السياسة الواقعية، كما كتب المؤرخ “جون بيو” عن السياسة الألمانية في بدايات تكوين الدولة: “لا تتحرك السياسة الواقعية في مستقبل ضبابي، ولكن في المجال الحاضر للرؤية، ولا تعتبر مهمتها تحقيق المثل العليا، ولكن بلوغ الغايات الملموسة، وتدرك، مع بعض التحفظات، أنها تكتفي بالنتائج الجزئية إذا كان التحصيل الكامل لأمر ما لا يمكن تحقيقه في الوقت الحاضر. في نهاية المطاف، فإن السياسة الواقعية هي عدو لجميع أنواع خداع الذات”.
ولهذا، تبدو موسكو سريعة في التصالح مع الحقائق غير المريحة، وسوف تأخذ ما يمكن أن تحصل عليه عندما تسنح الفرص.
والانتهازي البارع يوجد الفرصة أو يسعى لاستغلالها. وسوريا هي المحور المعاصر للصراع الجغرافي السياسي.
وقد أثارت روسيا انتباه برلين وواشنطن وأنقرة في ضربة واحدة من خلال تمكين الموالين لنظام الأسد من حصار، إذ فر نحو 100ألف من السوريين حلب خلال فبراير، وهذا العدد يمكن أن يتضاعف بسرعة إذا حوصرت المدينة.
وبالنسبة للمستشارة الألمانيةـ أنجيلا ميركل، فإن هذا يعني موجة أخرى من المهاجرين من شأنها أن تُغرق أوروبا في أوحال الأزمة مع إغلاق الحدود على طول طريق البلقان، وكذا استفادة القوى السياسية القومية من الخوف والاضطرابات إثر تدفق المهاجرين، واستغلال الدول المدينة في المحيط الجنوبي للأزمة لتوجيه الاتهام إلى برلين وبروكسل بإثقال كاهلهم بأزمة اللاجئين في وقت تضغطان عليهم بتدابير التقشف.
ولا يمكن لبوتين وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، ولكن التدخل العسكري الروسي في سوريا يمنحه القدرة على زيادة ألم ووجع أوروبا. وهذا يكسبه ورقة مفيدة لروسيا، حيث يسمح استخدامها بتقسيم القارة وربما انتزاع حق “الفيتو” من داخل الكتلة حول قضايا مثل استمرار العقوبات الروسية والاستجابة لطلب بولندا بإنشاء قواعد دائمة على الحدود الشرقية لأوروبا.
وبالنسبة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإن حصار حلب يمثل الهجوم من جميع الاتجاهات. ذلك أن محاولة روسيا تسريع تقسيم أوروبا تقوض شبكة مهمة من حلفاء الولايات المتحدة، في حين قد تفجر أزمة أكبر لا تبدو معها القارة، رغم كل تطورها، محصنة ضد الصراع الهمجي.
قد يدرك البيت الأبيض مكامن الخطر عند تقاطع الأزمة الأوروبية والحرب الأهلية السورية، ولكنه أيضا أقل استعدادا لإدارة دور روسيا في هذا الصراع. ومن المعروف جيدا أن روسيا قصفت العديد من الثوار الذين تحتاجهم الولايات المتحدة كوكلاء على الأرض في المعركة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
اللعب بالورقة الكردية
وبالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإن هجوم الموالين للأسد بدعم من روسيا على حلب يدفع بالضرورات الجغرافية السياسية لتركيا إلى الواجهة. والضغوط الأكثر وضوحا على تركيا هو احتمال مواصلة تدفق عشرات الآلاف من اللاجئين عبر الحدود في الوقت الذي تحدَ فيه أوروبا من تدفق المهاجرين على مستوى القارة. والحل الذي اقترحته تركيا منذ فترة طويلة لهذه المعضلة هو إنشاء “منطقة آمنة” في شمال سوريا، حيث يمكن استيعاب اللاجئين وحمايتهم.
مع البصمة الأمنية في شمال العراق، يمكن لتركيا إنشاء منطقة صدَ الأكراد في شمال سوريا. ومع تدهورت علاقتها مع تركيا، عززت روسيا اتصالاتها بالمتمردين الأكراد في سوريا الذين ينتمون إلى وحدات حماية الشعب (YPG). وهذه لعبة قديمة تجيدها روسيا.
إذ أبرز تقرير في ديسمبر 1946، صادر عن قسم الشرق الأدنى والأوسط في وزارة الخارجية السوفيتية، أن الحكومة القيصرية لعبت الورقة الكردية بشكل منتظم لإضعاف الإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر عندما أثارت سخط الأكراد من الحكومة التركية واشترت دعمهم بالمال والوعود المغرية.
كما وعدتهم روسيا اليوم باحتمال قيام دولة كردية موحدة ومستقلة تمتد من كردستان السورية “روج آفا” إلى شمال العراق.
في الواقع، قد مكَن هجوم الموالين للأسد على حلب، بدعم من روسيا، الوحدات الكردية السورية YPG من تجاوز مناطقها في شمال غرب سوريا شرقا نحو اعزاز على طول الحدود التركية.
من وجهة نظر تركيا: طالما تقف أنقرة وراء الحدود من الجانب التركي من دون أي تحرك، فإن ذلك يمثل أفضل فرصة لإنشاء “كانتون عفرين” الذي يربط في نهاية المطاف، إذا ما تحقق، مساحات شاسعة من المناطق التي يسيطر عليها الأكراد غربي نهر الفرات، وفرض أمر واقع: دويلة كردية على الحدود التركية.
وحتى لو حالت “العقبات المشروعة” دون تحقق هذا الاحتمال في ساحة المعركة في المستقبل القريب، فإن تركيا، رغم ذلك، تتحرك وفقا لهذه الافتراضات. وروسيا تعرف كيف تفزع تركيا، وتعرف أيضا كيف تستنفرها في مواجهة التهديد الكردي.
وفي خطوة علنية، تصرفت روسيا بكل حرية، الشهر الماضي، في فتح مكتب لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السياسي لوحدات YPG السورية، في موسكو، ودعت أعضاء من حزب المعارضة المؤيد للأكراد في تركيا “حزب الشعوب الديمقراطي” وحتى ممثلين عن المتمردين في شرق أوكرانيا.
منح الشرعية للجماعات المتمردة الكردية، والتي تحاول تركيا بشق الأنفس استبعادها من طاولة المفاوضات، مع تمكين التقدم الميداني للمتمردين الأكراد في ساحة المعركة السورية، لم يكن من السهل على أردوغان تحملهما.
ولن تسمح تركيا لنفسها أن تكون مُكبلة من قبل الروس، وسوف تفعل كل ما يتطلبه الأمر لدفع الولايات المتحدة لتمكينها من التحرك العسكري في شمال سوريا.
ومختصر الرسالة التركية إلى واشنطن، أن الحكومة التركية لا يمكن اعتبارها مجرد عشيرة أخرى أو فصيل على أرض المعركة السورية، ذلك أن الدولة القومية مع المصالح الوطنية على المحك.
قد لا تمانع الولايات المتحدة في هجوم تركيا على شمال سوريا لو كان ذلك موجها نحو تضييق الخناق على مناطق “تنظيم الدولة”، ولكن تبقى هناك مسألة التعامل مع موسكو.
وتركيا، ناهيك عن السعودية والإمارات، ليست على وشك اتخاذ خطوة متهورة في شمال سوريا. وجميع الدول الثلاث تدرك المخاطر المرتبطة بوضع قوات مكشوفة على الأرض وتحت سماء تحلق فيها المقاتلات الروسية -وربما حتى إيران-.
انتشار اللاعبين في ساحة المعركة أمر واقع لا مفر منه، ولكن مهمة التخفيف من احتمالات المناوشات تقع على عاتق واشنطن.
إعادة التفاوض مرة أخرى إلى واشنطن
مع دخول حلب في اللعب، كل ما كان على بوتين القيام به هو انتظار مكالمة هاتفية. يوم 13 فبراير، أبلغ البيت الأبيض وسائل الإعلام أن أوباما كلَم بوتين وحثه على إنهاء الحملة الروسية في سوريا.
يمكننا أن نفترض أن المحادثة ذهبت إلى أبعد من طلب الولايات المتحدة من روسيا وقف ذلك. إذ إن روسيا صمَمت تدخلها في سوريا على أمل أن يصل ذروته بتفاهم مع الولايات المتحدة.
سوريا تزخر بطبقة من المصلحة الإستراتيجية بالنسبة للروس، ولكن سوريا في حد ذاتها تحجب الحقيقة الروسية الملحَة في إبطاء زحف القوات العسكرية الغربية في المحيط السوفيتي السابق لموسكو.
ففي حين تظل أوكرانيا غارقة في أزمة سياسية بحكومة هشة في كييف، فإن كتلة متماسكة على نحو متزايد من البلدان في أوروبا الشرقية تتشكل حول مجموعة فيزيغراد (بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا).
وفي هذا السياق، تدفع بولندا، على وجه الخصوص، باتجاه تكثيف حضور أكثر قوة لحلف شمال الأطلسي في الجناح أوروبا الشرقية مع روسيا. ولتحسين فرصها في إقناع حلف شمال الأطلسي في تحصين موقفها، أرسلت بولندا بضعة مقاتلات حربية من طراز F-16 لدعم البعثة في سوريا لإظهار حسن النية.
وفي هذه الأثناء، تتواصل المناقشات بين واشنطن وبوخارست حول تعزيز نشر حلف شمال الأطلسي على ضفاف البحر الأسود.
وهذه كلها تدابير تشير إلى أن الولايات المتحدة يمكنها أن تصعَد أو تهدئ اعتمادا على إرادتها في كيفية توجيه المفاوضات التي تجريها مع موسكو.
يمكن للولايات المتحدة أن تضمن لموسكو أن الحدود سيتم وضعها بناء على خطط الناتو لأوروبا، غير أن هذه الضمانات يمكن أن تنتهي صلاحيتها مع الرئيس الجديد في البيت الأبيض في يناير 2017.
صحيح أن روسيا لعبت الورقة الكردية بشكل فعال ضد تركيا، ولكن يمكن لموسكو، في نهاية المطاف، أن تذوق مرارة طعم الدواء الذي وصفته. فقد انتشرت الاحتجاجات الروسية وزاد حجمها في جميع أنحاء البلاد بشكل كبير خلال العام الماضي بسبب الأزمة الاقتصادية، وهذه إحدى أهم نقاط الضعف في الموقف الروسي الحاليَ.
المصدر: ستراتفور – ترجمة إيوان 24