في خطوة غير متوقعة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سحب القوات الرئيسية الروسية من سوريا بدءًا من الثلاثاء، إلا أن الملاحظ أن الوضع العسكري على الأرض لم يشهد إلا تغيرًا طفيفًا باستثناء ريف اللاذقية الشمالي (جبلي الأكراد والتركمان) وبعض مناطق ريف حلب، الذي قاتلت فيه المليشيات الشيعية بقيادة الحرس الثوري الإيراني.
ولكن يجب كذلك ألا ننسى بأن الروس أصبح لديهم قاعدتين في سوريا قاعدة بحرية بطرطوس وقاعدة جوية بحميميم، وهذا يعني أن روسيا لم تنسحب كليًا من سوريا، وأن تخطيطها لتأسيس سوريا الفيدرالية لم يتوقف، كما أن الخطوة الروسية هي للضغط على بشار الأسد لقبول الفترة الانتقالية والابتعاد عن المشهد السياسي، لأن وجوده على رأس السلطة أكبر عائق أمام أي حل سياسي، فالمفاوضات تهدف في أساسها لتنحية الأسد بصفقة تحفظ مصالح واشنطن وموسكو، كما أن أمريكا دفعت بالتنسيق مع روسيا باتجاه الحل السياسي، حيث توقفت إمدادات الدول الإسلامية لجماعات الثوار لتقبل بالجلوس على طاولة التفاوض.
مفاجأة بوتين
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في الكرملين مع وزيري الدفاع والخارجية الروسيين، أنه اعتبارًا من الثلاثاء 15 مارس قد أمر ببدء سحب الجزء الرئيسي من القوة العسكرية الروسية في سوريا.
وأضاف بوتين: أبلغت بشار الأسد أننا سننسحب من البلاد، وأكد أن القوات الروسية في سوريا أوجدت ظروفًا ملائمة لعملية السلام، وأشار إلى أن العمليات العسكرية الروسية حققت أهدافها، وأعطى بوتين توجيهاته بتقليص دور روسيا العسكري وإبداله بالدور الدبلوماسي حيال الأزمة السورية.
ونقل بوتين “تمنياته لرئيس النظام السوري بشار الأسد بالوصول إلى حلول سلمية للأزمة السورية عبر محادثات جنيف”، وأكد أن القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس ستواصلان عملهما كما في السابق.
أسباب القرار
لا شك أن ذلك التدخل العسكري أضر بصورة روسيا في العالم الإسلامي، خصوصًا مع قصفها الذي طال المدنيين والمساجد والمشافي والمخابز، كما أنه أدى إلى أضرار كبيرة أصابت عصب الاقتصاد الروسي، خصوصًا مع العقوبات الأوروبية (بسبب أوكرانيا) والتوتر السياسي والاقتصادي مع تركيا بعد حادثة اسقاط السوخوي، والمعروف أن أي تدخل العسكري يتطلب زيادة الإنفاق العسكري، وتقليص الإنفاق على قطاعات حيوية أخرى، وبالفعل ففاتورة الخسائر التي تحملها الاقتصاد الروسي بسبب التدخل العسكري في سوريا، كانت “باهظة الثمن”.
كما أن الجولات المكوكية الدبلوماسية المستمرة والتوصل إلى الهدنة وتوحد المعارضة السورية (بعد مؤتمر الرياض) والجلوس على طاولة المفاوضات في جنيف كلها عوامل أدت بلا شك إلى اتخاذ هذا القرار.
وقد جاء تشكل التحالف العسكري الإسلامي ليوجه رسالة إلى روسيا، أن الساحة ليست خالية أمامها، وأن الدول الإسلامية لن تسمح بالتدخل في شؤونها، خصوصًا مع تصريحات وزير الخارجية السعودي بأنه من الممكن أن يتم تزويد الثوار في سوريا بأسلحة مضادة للطائرات وبأسلحة نوعية أخرى إذا لم يرحل “الأسد”، وقد حملت رسالة وصول طائرات عسكرية خليجية إلى القاعدة العسكرية الرئيسية في جنوب تركيا وإعلان التحالف الإسلامي عن عزمه شن عمليات برية وشيكة لاجتثاث المليشيات الإرهابية في سوريا (ومنها المليشيات الشيعية متعددة الجنسيات) رسالة واضحة لموسكو، بأن الزمان تغير، وأن معركتها في سوريا خاسرة.
تصريحات سبقت القرار
الغريب أن التصريحات الدبلوماسية التي سبقت القرار الروسي تؤكد أن روسيا وإيران قد غيروا بعض أفكارهم بشأن “الأسد”، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في معرض تعليقه على تصريح المعلّم بأن “الأسد خط أحمر”، أنها “محاولة واضحة من الأسد لتعطيل العملية السياسية”، وطالب الرئيس الروسي بأن “ينظر كيف يتصرف بشار الأسد”، وأضاف كيري متّهمًا رئيس النظام السوري بالتعطيل المتعمّد، ومؤكدًا موافقة الروس والإيرانيين على طرح بند مصير الأسد في المفاوضات، بأنه أرسل “وزير خارجيته كي يخرّب ما وافق عليه الرئيس بوتين والإيرانيون”.
رؤية تحليلية
يقول الدكتور أسامة الأشقر: “عندما دخلت روسيا إلى سوريا فإنها تقدّمت بكل ثقلها وعينها نحو واشنطن وأوروبا ومصالحها الاستراتيجية، وقدّرت أنها قادرة على لعب دور سياسي في سوريا يحمي نفوذها ويؤكده، ويفكك مشكلاتها في القرم وشرق أوروبا، وقادت روسيا الدبلوماسية السورية نحو التفاوض وفق اتفاقية جنيف الأولى التي تؤسس لحكم انتقالي، كان الخطأ الروسي أنه قرر أن بشار الأسد ليس مشكلة في أي اتفاق ولكن لا تبدأوا به، فنحن سنجعله يتخلى عن الحكم ويسلم السلطة”.
وتابع المحلل السياسي: “كان بشار الأسد يستخدم روسيا أيضًا، استدرجها للوحل المغليّ، واستخدمها ضد استطالة النفوذ الديني الإيراني ونفوذ حزب الله في سوريا الذين استغلوا حضورهم العسكري للقيام بمهمتهم الحقيقة وهي إعادة الطائفة العلوية النصيرية إلى أحضان الديانة الإثني عشرية الشيعية لتكون إطلالتهم مباشرة على الساحل الشرقي كله للبحر المتوسط”، وأضاف “كان الروس يشعرون بقيمتهم ويشعرون بحاجة بشار الأسد إليهم، فهم الذين أقنعوه بالكثير من المبادرات السياسية الداخلية، وهم الذين دفعوه للتفاوض في جنيف، وهم الذين دفعوه لفتح سجونه في عمليات تبادل، وهم الذين فرضوا عليه هدنة لا يريدها، وهم الذين أجبروه على فك الحصار الشامل عن مناطق منكوبة في سوريا، نقلوه إلى بوتين في طائرة شحن، منعوا حزب الله من الرد على الإسرائيليين، ومنعوا فتح جبهة إشغال في الجولان، فهم سادة سوريا الآن، إنهم يحكمون كل شيء، أصبح الروس مزعجين جدًا لبشار الأسد”.
وكشف الأشقر أن اللحظة الحاسمة كانت يوم قرر بشار أن يوقف الروس عند حدهم بأنه ليس نقطة تفاوض في جنيف، وأنه لن يتنازل لأحد عن موقعه، ولن يسمح بحكومة انتقالية كما اتفق الروس مع الأمريكيين، لذا لم يعد الآن سوى أن يلتف الجميع حول السوريين وحدهم ليقرروا كيف سيتعاملون مع الأسد الوحيد في الميدان”.
ردود الأفعال
في أول ردود الأفعال على القرار الروسي، رحبت المعارضة السورية بإعلان روسيا أنها ستبدأ سحب قواتها من سوريا، قائلة إن الانسحاب الجاد سيضغط على السلطات السورية، ويعطي محادثات السلام قوة دفع إيجابية.
وقال سالم المسلط، المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات إنه إذا كانت هناك جدية في تنفيذ الانسحاب فسيعطي ذلك دفعة إيجابية للمحادثات، كما ستشكّل عنصرًا أساسيًا للضغط على النظام، وستتغير الأمور كثيرًا نتيجة لذلك.
وقال مسؤول أمريكي: “لا مؤشرات على استعداد القوات الروسية لبدء انسحابها من سوريا”، في حين رأت وسائل إعلام إسرائيلية أن إعلان بوتين سحب قواته من سوريا فاجأ كل دول العالم بما في ذلك إسرائيل.
الحصاد العسكري لمغامرة بوتين
“تدخلت روسيا لإنقاذ بشار وإحيائه فنفّذت أكثر من 4500 غارة جوية على الشعب السوري، قتلت خلالها 3700 مدني من بينهم 616 طفلاً”، ورغم أن روسيا اتخذت من داعش ذريعة لتنفيذ غاراتها، إلا أن غالبية ضرباتهم تركزت على مناطق تبعد عن نقاط سيطرة داعش 400 كيلومتر، حيث استهدفت معظم الغارات الروسية فصائل المعارضة.
ورغم مرور شهور على التدخل الروسي بالقصف الجوي والبري والبحري، واستخدام أسلحة تعتبرها موسكو فخر صناعتها، إلا أن الروس لم يساعدوا نظام الأسد سوى في احتلال 1.3% من الأراضي السورية.
ووفقًا لأرقام مؤسسة البحوث الدولية، فإن تكلفة الغارات الجوية لروسيا وحشدها العسكري في سوريا، يبلغ بين 2.4 و4 ملايين دولار يوميًا، فيما يعتقد أن التكلفة اليومية لتحليق المقاتلات الروسية بمعدل 90 دقيقة، والمروحيات قرابة الساعة، ارتفع إلى 710 ألف دولار، كما أن الطائرات الحربية الروسية تلقي يوميًا قنابل وقذائف تقدر تكلفتها بنحو 750 ألف دولار.
كما تبلغ النفقات اللوجستية اليومية لقرابة 1500 عسكري روسي في سوريا، 440 ألف دولار، وتصل التكلفة اليومية للوحدات الموجوة في قاعدة طرطوس على البحر المتوسط في سوريا، والقاعدة في بحر قزوين قرابة 200 ألف دولار، بينما يعتقد أن ترتفع كلفة النفقات اليومية للأنشطة الاستخباراتية، والاتصالات، والأمور اللوجستية الأخرى لروسيا في سوريا إلى 250 ألف دولار.
وفي السياق ذاته، تمكنت فصائل المعارضة من قتل 1931 جنديًا نظاميًا منذ بداية التدخل الروسي، وقتل 2070 عنصرًا من المليشيات الشيعية التي تقاتل في سوريا، شملت أعداد كبيرة من “القوة الضاربة” لتلك المليشيات.
هذه العوامل وغيرها تؤكد أننا أمام مرحلة جديدة من مراحل الصراع في سوريا، وهذا ما ستكشفه لنا الأيام الأسابيع القادمة، فروسيا تخلت عن الأسد ولكنها أرادت الحفاظ على نظامه، ولكنه مصمم على التمسك بالسلطة، وهو ما يعني أن روسيا قررت أن تتركه لمصيره المحتوم، أو على الأقل أن تمارس الضغط الأخير عليه لينسحب من المشهد السياسي، فاستراتجية الأسد فشلت فشلاً ذريعًا، فهو لم يعد مقبول شعبيًا ولا إقليميًا ولا دوليًا، وحتى الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية متعددة الجنسيات التي استعان بها لم تسعفه وإنما أخرت فقط هزيمته المحتومة.