تعد المسألة الكردية في سورية من أعقد التحديات الآنية والمستقبلية التي تواجه الدولة والمجتمع السوريين، وهي مشكلة حقيقية لا يمكن حلها بالتراضي أو التغاضي، تفرض نفسها مستندة إلى عوامل تاريخية وديموغرافية، وحديثًا إلى تفاعلات سياسية، إقليمية ودولية.
تحمل هذه المسألة رؤى تقسيمية خطرة الوقع على المجتمع السوري، تتجلى بطروحات قد تنهي وجه البلاد إلى الفيدرالية، مستغلة واقع الثورة السورية لاستيراد نموذج كردستان العراق وتطبيقه على الحالة السورية، متجاهلة نضال الشعب السوري لرفض أي موروث طائفي عرقي كرسه النظام الحاكم عبر أربعة عقود.
ولأن معظم السوريين ليس لديهم المعرفة الدقيقة بالأكراد السوريين من حيث كونهم جماعة إثنية تشكل نحو 8% من مجموع سكان سورية، وتتوزع على امتداد شمال شرق سورية من الحسكة إلى عفرين، وتنتشر بكثافة أقل في بعض المدن أبرزها حلب ودمشق، فإنه ينبغي العودة قليلًا إلى التاريخ للتعريف بالأكراد في الساحة السورية الداخلية؟
الأكراد قبل الثورة
تعود بداية ظهور التنظيمات الحزبية الكردية إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وبالتحديد إلى عام 1957 عندما أنشئ آنذاك أول حزب كردي، وهو الحزب الديمقراطي الكردي السوري، ومنذ ذلك الوقت وحتى وقتنا الحاضر برز خمسة عشر حزبًا على الساحة السورية تراوح بين ناشط وخامل أبرزها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بقيادة صالح مسلم محمد وهو امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي، وهو أكثر الأحزاب الكردية تنظيمًا وقاعدة شعبية، خصوصًا في عفرين بفضل اتساع موارده المالية.
وخلال الأعوام 1966 – 1970 دعم الحزب الديمقراطي الكردي توجهات القادة البعثيين، ثم جاءت مرحلة النظام السوري من 1970 إلى عام 2004 والتي تميزت باحتواء النظام للأحزاب الكردية وإقامة تفاهمات معها ومنحها بعض الحرية النسبية في أنشطتها، لكن من دون السماح لها بتشكيل مؤسسات حزبية رسمية استنادًا إلى رفضه بشكل مطلق لإقامة أي أحزاب سورية.
انتفاضة الأكراد 2004
انتفض الأكراد في آذار عام 2004 في عامودا والقامشلي وعفرين، وخرجوا في مظاهرات وقام بعضهم بأعمال شغب على خلفية مصادمات بين العرب والأكراد حدثت في أثناء مباراة كرة قدم بسبب هتافات تأييد من الأكراد للغزو الأمريكي للعراق قابلتها أخرى للعرب دعمت المقاومة العراقية في الفلوجة وصدام حسين، والتي انتهت بتدخل الأمن وقمع انتفاضتهم باستخدام القوة ما أدى لقتل وجرح العشرات واعتقال المئات.
وشكلت الانتفاضة رأيًا عامًا كرديًا مختلفًا عما قبل عام 2004 من حيث اشتداد المشاعر الكردية المناهضة للنظام السوري بعد مرحلة سابقة من التهادن والتوافق، إلا أن حزب الاتحاد الديمقراطي أخذ موقفًا سلبيًا ضد الانتفاضة بسبب تبعيته الشديدة للنظام، ومن ذلك الحين حتى عام 2011 اعتمدت قوات الأمن السوري وجودًا كثيفًا دائمًا بالقرب من القامشلي تحسبًا لأي احتجاجات سياسية.
الأكراد 2005 – 2011
بقيت الأحزاب الكردية تعمل ضمن الوسط الكردي حتى ظهور ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي في تشرين الأول/ أكتوبر 2005، إذ انضمت بعض الأحزاب الكردية إلى هذا الائتلاف إلى جانب المعارضة العربية السورية، وتعاملت معه على أنه تحالف مرحلي ليس أكثر، وظهر ذلك تدريجيًا من خلال اشتداد نبرة الخطاب السياسي الحزبي الكردي برفض السكان العرب في الجزيرة السورية ووصفهم بالمستوطنين.
جدير بالذكر أن الأحزاب الكردية هي القوى الوحيدة التي خبرت الحياة السياسية الحزبية في سورية وتمرست في الفعل المعارض في الشوارع منذ القضاء على الإخوان المسلمين في عام 1982.
ما هي أهداف الأحزاب الكردية قبل 2011؟
لطالما تجنبت الأحزاب الكردية كلها التصريح علانية بحلم الاستقلال باستثناء “تيار المستقبل” الذي كان يطالب بـ “دولة مستقلة للأكراد أو إلحاق المناطق الكردية في سورية بكردستان”، كما رفضت أيضًا اتباع نهج الكفاح المسلح للحصول على الحقوق الكردية، ولكنها على اختلاف برامجها السياسية اشتركت بالمطالبة بالاعتراف الدستوري بالأكراد كقومية ثانية في سورية والإقرار بأن الشعب الكردي يعيش على أرضه التاريخية، كما طالبت بمنح الجنسية لمن حرم منها من الأكراد في عام 1962 وبإلغاء قانون 41 لعام 2004 والمرسوم 49 لعام 2008، والجدير بالذكر أن معظم هذه المطالبات الأخيرة كلها قد تحققت في عام 2011 في محاولة لاحتواء الأكراد.
تقارب كرد/ سلطة بداية الثورة
وجدت الأحزاب الكردية في احتجاجات الشعب السوري بعد آذار عام 2011 فرصة ملائمة لتحصل من خلالها على تنازلات من النظام الحاكم بشكل مستمر في مقابل عدم تحالفها الصريح والواضح مع قوى المعارضة.
ولذلك شددت في بداية الثورة على عدم الانخراط في التظاهرات بالتزامن مع دعوة التحالف الديمقرطي الكردي “الذي كان يضم الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي وحزب الوحدة الديمقراطي وشخصيات كردية” بشار الأسد للقيام بإصلاحات سياسية واجتماعية بغية تحصين البلاد والحفاظ على السلم الأهلي وبناء الدولة الديمقراطية.
وقد سجلت أول تظاهرة تدعم الثورة السورية في مطالبها في 1 نيسان عام 2011 في مدينتي عامودا وعين العرب، وشارك فيها مئات المتظاهرين المستقلين الذين رفعوا شعارات تتواءم مع مطالب السوريين وتغيب عنها أي مطالب فئوية قومية كردية.
وبعد خمسة أيام، أي في 5 نيسان، وعد الرئيس السوري الأكراد بمنحهم الجنسية السورية وفي 7 نيسان أصدر الأسد مرسومًا تشريعيًا رقم 49 يقضي بمنح المسجلين في سجلات أجانب الحسكة الجنسية العربية السورية، فضلًا عن المرسوم 43 لتسهيل شؤونهم الإدارية في مدينة الحسكة من دون العودة إلى العاصمة دمشق.
وهكذا، كان النظام السوري قد قدم تنازلات للأحزاب الكردية لم تأت نتيجة مفاوضات أنهكته، بل ثمرة التقاء مصالح الطرفين، ولم يسقط أي قتيل كردي إلى أن اغتيل مشعل التمو، القيادي في تيار المستقبل، في 7 تشرين الأول 2011 ، وتتجه أصابع الاتهام إلى النظام السوري إلا أن بعض الشخصيات الكردية تلمح إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو من يقف وراء العملية بحكم قدرة التمو على استقطاب شرائح شبابية ومنافسته لحزب الاتحاد الديمقراطي.
عموما اتسمت التظاهرات الكردية بمحدودية المشاركة، مئات أو بضعة ألوف، مقارنة بمشاركة مئة ألف شخص في تشييع مشعل أو مئتي ألف شخص في إحياء ذكرى الانتفاضة الكردية، ما يؤكد أن الأكراد حافظوا على هدوئهم ولم يدخلوا في أي صدامات مع القوى الأمنية في القرى والبلدات التي يقطنوها.
حراك الأكراد خلال الثورة
مع تصاعد المواقف الدولية الغربية والعربية وارتفاع حدة الأصوات التي تدعو الأسد إلى التنحي في 15 آب 2011، شعرت الأحزاب الكردية بضرورة إنضاج الموقف الكردي وتأطير نفسها في كيان سياسي من شأنه السيطرة على مئات الشباب الأكراد المحتجين والمنضويين تحت المطالب الثورة السورية لاستقطابهم، لبناء عنوان سياسي قومي للأكراد وحدهم، فكان المؤتمر الوطني الكردي في تشرين الأول/ أكتوبر 2011.
وبدأ النهج المسلح طريقه بين الأحزاب الكردية بإرسال المجندين الأكراد المنشقين عن الجيش للتدريب في إقليم شمال العراق لتسلم بعد ذلك الإدارات والدوار الحكومية في بعض المناطق الكردية في شمال شرق سورية.
عسكرة الأكراد
بدأ يلمع نجم المسلحين الأكراد تدريجيًا على الأرض بعد سيطرتهم على مدينة الشدادي في محافظة الحسكة بالتحالف مع النظام السوري، والاستيلاء عليها بعد معارك مع جبهة النصرة وأحرار الشام.
ثم انتقلت المعارك إلى عين العرب “كوباني” بعد اقتحام تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” للمنطقة وقيامه بمحرقة أدت إلى تهجيرمعظم الأكراد المدنيين من المدينة، وانتهت المعركة لصالح وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح السياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي.
تدور معارك في الوقت الراهن بين الطرفين تهدف إلى خراج التنظيم من محافظة الحسكة، واستكمال قطع أبرز طريق بري يربط بين مواقع التنظيم في العراق (الموصل) وفي سورية (الرقة)، وتشكل مدينة الشدادي على هذا الطريق بوابته الرئيسية له، وقد تمت السيطرة على نحو مائتي كيلومتر تشكل حزامًا أمنيًا أو خطًا دفاعيًا متقدمًا يحيط بمناطق سيطرة الوحدات من جهة الغرب، لمنع تكرار سيناريو الهجوم على تل أبيض، أي أن التقدم لم يرافقه توسع في السيطرة باتجاه الغرب (عمق مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في ريف الرقة الشرقي والجنوبي الشرقي).
الخلافات بشأن مشاركة الاتحاد الديمقراطي في مفاوضات جنيف
لم تتم دعوة الاتحاد الديمقراطي إلى أي جولة من جولات جنيف على الرغم من احتكاره للمشهد السياسي الكردي، وكان الحضور الكردي متمثل بالمجلس الوطني الكردي، ما عزز الانقسام بين الكتلتين الكرديتين في الأوساط الكردية، خصوصًا أن الاتحاد لا يعترف أصلًا بالمجلس، ويراه معاديًا لتطلعات القومية الكردية، لذلك سعى الاتحاد من خلال علاقاته بالأطراف الدولية ودوره بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” إلى المشاركة في جنيف، لكن محاولاته باءت بالفشل، إذ لم تُبدِ واشنطن أي رغبة في العمل على ضَمِّ حليفتها إلى المحادثات، وطلبت من رئيس الحزب صالح مسلم ترك جنيف، إرضاءً لتركيا التي اشترطت خروجه من المدينة مقابل استمرارها في دعم المحادثات.
مستقبل مرهون بأمريكا
إن مستقبل وضع الأكراد في سورية مرتبط تمامًا إلى حد كبير اليوم بقرارات أمريكا فيما يتعلق بحربها على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إذ طالما أن الحرب مستمرة سيستمرالدعم اللوجستي والسياسي للاتحاد الديمقراطي، وسيبقى يشكل رقما صعبًا في المعادلة السورية لا يمكن تجاوزه من دون ضغط أمريكي أو بروز دور جديد للقوى الكردية الأخرى.