فجأة ودون سابق إنذار، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ببدء عملية سحب الجزء الرئيس من القوة العسكرية الروسية في سوريا ابتداءً من الثلاثاء، وهو ما أحدث ضجة كبرى داخل أكبر مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية العالمية، التي وقف خبراؤها حائرين أما هذا القرار المصيري الذي لم يأت بين عشية وضحاها ولم يظهر للمتابعين لمسار الأحداث في المنطقة مقدمات منطقية وحسابات استراتيجية ترجح إمكانية حدوثه.
فمع دخول الروس بطائراتهم وعتادهم واستخباراتهم نهاية شهر سبتمبر الماضي إلى سوريا، تغيرت موازين القوى وإن كان التغير محدودًا على الأرض لصالح النظام، وتعادلت موازين القوى بين 3 أطراف رئيسية هم على التوالي الأكراد والنظام وتنظيم الدولة الإسلامية، في مقابل شبه انهيار لجل جماعات المعارضة المسلحة التي أثر فيها القصف البري والجوي للقوات الروسية.
في الحقيقة نجهل تفاصيل وأهداف القرار الروسي الأخير، ولكننا نعتقد أنه لم يأت من فراغ وأن مبناه ومعناه جاء بعد صفقة كبيرة عقدت بين الأطراف المتداخلة في النزاع السوري وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي يريد منا مسؤولوها أن ننساق مصدقين أنهم لا يعلمون مسبقًا بهذه الخطوة الروسية.
لن نتحدث كثيرًا عن الأسباب والدوافع، لكن في المقابل لن نترك جانبًا مهما ينبغي الحديث عنه بعد هذا الانسحاب المفاجئ، ألا وهو موقع تنظيم الدولة الإسلامية من هذه الخطوة التصعيدية الروسية الجديدة ضد حليفهم بشار الأسد.
ما من شك أن التدخل العسكري الروسي في سوريا كان هدفه الأساسي المعلن “الحرب على الإرهاب” و”الإرهابيين”، وهو ما تجلى حقيقة على الأرض بعد أيام، بعدما بدأت أسراب الطائرات الروسية بقصف كل جامد ومتحرك داخل المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الجهادية المسلحة في إدلب وحلب والرقة وحماة ودير الزور، والتي كان في مقدمتها مناطق نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة الفرع السوري لتنظيم القاعدة.
لسنا من المنساقين للروايات الأمريكية ونظيرتها الإعلامية العربية التي ما فتئت تردد أن “الروس لم يستهدفوا الإرهابيين وإنما استهدفوا المعارضين المعتدلين”، لأننا شاهدنا وتابعنا وقرأنا وسمعنا مثلنا مثل جل المتابعين تلك الصور والأخبار الواردة من الرقة وحماة وريف دير الزور وريف حلب وغيرها من المدن السورية التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القصف الروسي استهدف بالأساس مناطق سيطرة الجماعات الجهادية.
بعد هذا القصف الذي دفع البعض إلى القول أن تنظيم الدولة سيفنى ويتبدد خلال أشهر معدودة، خسر التنظيم مناطق متفرقة في ريفي الرقة وحلب بالإضافة إلى تقهقره وتمكن قوات النظام في شهر نوفمبر الماضي من فك الحصار عن مطار كويرس العسكري بريف حلب الشرقي بعد عامين من الحصار، ناهيك عن استعادة القوات الكردية “قوات سوريا الديمقراطية” لمدن عديدة على غرار بلدة الهول بريف الحسكة.
تداعيات القصف الروسي على تنظيم الدولة تجاوزت سوريا، بل مكنت القوات العراقية هي الأخرى وقوات البشمركة الكردية من استعادة السيطرة على مدن عراقية كبرى، عل غرار بيجي وجرف الصخر وسنجار وأجزاء واسعة من مدينة الرمادي، وذلك بسبب تقهقر التنظيم في سوريا التي تعتبر أرض مدد له بالإضافة إلى حجم خسائره المادية والبشرية وهو ما أثر سلبًا على الجبهة العراقية التي كانت تستمد قوتها من الجبهة السورية.
بعد كل هذه الخسائر المادية والبشرية التي تسبب فيها الطيران الروسي رفقة حليفه الأمريكي، أصبح تنظيم الدولة في مواقع دفاع وتقوقع حول أراضيه، بل عاد التنظيم لممارسة تكتيكاته العسكرية التي كان يتبعها سابقًا قبل مرحلة التمكين وهي “حرب العصابات” فأضحت هجماته خاطفة ومتزامنة ضمن مجموعات متفرقة لتشتيت جهود العدو وإنهاكه وعدم إتاحة الفرصة له لكي يلحق به خسائر أكبر.
التدخل العسكري الروسي الذي أنقظ نظام الرئيس بشار الأسد من السقوط وأعاد توزيع موازين القوى، أثر سلبًا على تنظيم الدولة كما سبق وقلنا ليس فقط داخل سوريا وإنما أيضًا على مستوى الجبهة العراقية، لهذا فإن أول الفرحين – مع تحفظ وحساب أكثر من ألف حساب – بهذا القرار المفاجئ سيكون مقاتلو التنظيم وعلى رأسهم زعيمهم أبو بكر البغدادي، والسبب الرئيسي لهذا الفرح المبرر يرجع أساسًا للراحة النسبية التي ستعيشها أجواؤه الجوية بعد الخلو المفترض والمؤقت والمحدود من طائرات الميغ الروسية.
صحيح أن المسؤولين الروس صرحوا بأن قرارهم بسحب طائراتهم وجنودهم لا يعني عدم مواصلة قتال “الإرهابيين”، لكن من واجبنا التفريق بين قتال لا هوادة فيه بالليل والنهار وبين آخر محدود ساعة بعد ساعة، لهذا فإن التنظيم يعلم جيدًا أن هذه “الهدنة” مع الطيران الروسي ستكون مؤقتة وستسمح له بإعادة ترتيب أوراقه وتجديد أثاث بيته الداخلي الذي خسر العديد من القيادات البارزة والمهمة في الصفين الأول والثاني.
لا نعلم ماذا يخفي المستقبل القريب للشعب السوري والعراقي وذلك لجهلنا بالغيب، ولكن في مقابل ذلك نجتهد قدر المستطاع في قراءة الأحداث المتسارعة، فكما فاجأنا القرار الروسي الأخير رغم أننا لازلنا متحفظين على أهم بنوده، فنحن متيقنون أن تنظيم الدولة الإسلامية سيفاجئنا هو الآخر، لكن هل تكون المفاجأة بالتمدد أم بالتبدد؟
لا نعلم تحديدًا الإجابة الصواب، لأن تفاصيل الانسحاب الروسي لازالت غامضة، لكننا متيقنون من أن طائرات التحالف الدولي لن تترك التنظيم وشأنه وستملأ الفراغ الذي ستتركه نظيرتها الروسية بعد أن أبلت الأخيرة البلاء الحسن وشكرها وثمن مجهوداتها العرب والعجم في الخفاء وإن كانوا قد أنكروا فضلها في العلن، وفي مقابل ذلك، نعتقد أن الأيام حبلى بالمفاجآت من جانب تنظيم الدولة الذي لازال يثابر ويسعى بشتى الطرق للحصول على صواريخ مضادة للطائرات من السوق السوداء كحل أول وأخير لتحييد سلاح الجو حتى وإن كلفه ذلك نصف خزينته العامة.
تنظيم الدولة الإسلامية هو الحل والمشكل لدول التحالف ولروسيا، فالحل لمواصلة التواجد وفرض الوصاية على الدول العربية، وهو المشكل بسبب اشتداد عوده وصلابته وانتقاله في بعض الأحيان لمهاجمة العدو البعيد، بالإضافة لتصعيده ضد خصومه واستعماله الأسلحة الكيماوية ضدهم وفق ما نقلت ذلك تقارير إعلامية مؤخرًا ما ينذر بخطر داهم عليهم وعلى حلفائهم إذا ما خلت السماء من طائرات الـF والميغ والرافال بأنواعها والأباتشي ومشتقاتها.
في الأخير من حقنا بعد كل هذا أن نتساءل، ماذا يخفي المستقبل القريب للسوريين والعراقيين والعرب أجمعين بعد الخروج النسبي للروسيين من الأراضي السورية؟
فلننتظر ونراقب بحذر شديد وهدوء كبير!