ترجمة حفصة جودة
في كل مرة أزور فيها مومباي، أقوم بزيارة مبنى قديم من خمسة طوابق به شرفات متداعية، يقع في شارع “نيبيان سي”، هناك حيث عشت في الستينات والسبعينات أول عقدين من عمري، لقد عدت مرة أخرى منذ عدة أسابيع، ووقفت هناك أتفكر في الاختلافات بهذه المدينة العالمية التي أعرفها، وكيف تبدلت تمامًا.
كنا نعيش في غرفة واحدة، ونتشارك المنزل مع عائلات أخرى، نحن هندوس أما الثلاثة الآخرون فكانوا مسلمين، وكان مالك البيت يعيش في الغرفة المجاورة ونشترك معه في نفس المطبخ، وفي آخر الردهة كان هناك دورتي مياه عموميتين، كانت العائلات المسلمة تعيش في الطابقين من فوقنا وفي الطابق الأخير تعيش عائلة هندوسية، بينما يسكن أصحاب المحلات في الطابق الأرضي.
اختلاف الأديان نادرًا ما كان يتسبب في الخلافات، في إحدى المرات فقط تضايقت أمي من رائحة اللحم البقري الذي تطهوه صاحبة البيت، وكنا نقوم في بعض الأحيان بشواء قطع صغيرة من سجق الخنزير فوق المحمصة كانتقام سري، بالرغم من ذلك، لم تظهر الأديان عادة إلا في سياق الأعياد، حيث كان الجيران يقدمون لنا اللحوم الطازجة عند ذبحهم للشاة في العيد (عيد الأضحى) وكنا ندعو أطفالهم لمشاهدة الألعاب النارية معنا عند الاحتفال بعيد ديوالي (عيد ديني يحتفل به الهندوس في الخريف ومعناه عيد الأنوار).
هذا لا يعني أننا كنا نعيش في وئام تام، فقد كان هناك مشادات متكررة (وأحيانًا مذهلة) حول المساحات في دولاب المطبخ، وقلة المياه في خزانات البيت، وفاتورة الكهرباء المشتركة وجرس الباب المشترك، وللمفاجأة، كان ترك الحمام غير نظيف يثير حفيظة البعض، وللأسف لم أقم أبدًا بدعوة زملاء الدراسة إلى البيت.
كانت التعويضات عنوان الحياة في جنوب بومباي، فقد كنا نعيش في أكثر المناطق عالمية بالمدينة، حيث يوجد أفضل المحال التجارية، ودور السينما والمطاعم، وكانت المباني بتصميمات “آرت ديكو” (تصاميم شعبية ظهرت في بداية القرن العشرين) تصطف على طول شارع “مارين درايف”، وفي كل مساء كنا نسير إلى حي “بريش كاندي” بجوار القنصلية الأمريكية الموجودة في قصر المهراجا السابق، ونستمتع بالنسيم الذي يهب من جهة بحر العرب.
وبالرغم من قلّته، فقد حاول والدي دائمًا توفير المال لشراء شقة صغيرة في إحدى الضواحي، لكن بدا ذلك مستحيلًا لأنها كانت ريفية وبعيدة، وكانت زيارة الأقارب في الضواحي تتطلب السفر لمسافات طويلة في قطارات مزدحمة وكنت دائمًا ما أعود وأنا مغطى بلدغات البعوض.
الآن، بعد أن أصبحت الضواحي البعيدة تفيض بمراكز التسوق ودور السينما، يبدو احتقارنا أمرًا غريبًا، في عام 1971، كان تعداد السكان في بومباي الجنوبية وضواحيها يبلغ حوالي 3 ملايين نسمة، بحلول عام 2011، تضاعف عدد سكان الضواحي ثلاث مرات (وازداد العدد بشكل أكبر قرب محطة المترو) بينما ظل تعداد السكان في الجنوب ثابتًا، وبعد أن قامت حكومة الولايات المتحدة ببيع قصر المهراجا ونقلت قنصليتها إلى الشمال في “باندرا – كورلا”، أصبح المبنى مركزًا جديدًا للمدينة، ويُعرف باسم مومباي.
لكن المشكلات القديمة مازالت قائمة، فأكثر من نصف السكان يعيشون في الأحياء الفقيرة، أما نظام السكك الحديدية فقد أصبح لا إنسانيًا أكثر، فحوالي 800 راكب يموتون سنويًا من السقوط جرّاء الازدحام في المقصورات.
كانت الاستثمارات الكبيرة في مشاريع الطرق، والتي تميل بشدة لصالح الأغنياء، قد أدت إلى ازدهار ملكية السيارات وتعدد مناطق الاختناق المروري، وأصبحت البنايات الشاهقة التي لا روح فيها تنتشر بشكل عشوائي على الساحة، مع القليل من الاهتمام بالبنية التحتية والجماليات.
بالرغم من ذلك، ما أثار قلقي بشكل أكبر هو كيفية فقدان المزيج الطائفي الذي عشته في سنواتي الأولى، وكما يصفها الكاتب ناريش فيرنانديز في كتابه “مدينة بلا هدف: سيرة ذاتية قصيرة عن بومباي”، فبعض الأحياء قد اكتسبت الطابع اليهودي، أما مومبرا، إحدى كبرى المناطق، فحوالي 90% من سكانها مسلمين، وهي تعاني من انقطاع الكهرباء المستمر يوميًا بشكل أسوأ من المناطق الهندوسية المجاورة، وفي الغرب، قام الهندوس بتسمية المناطق التي تم تحديدها للمسلمين في حي “جوشواري” بباكستان المصغرة.
ليس من الصعب العثور على قوائم إنترنت تحدد إذا ما كان العقار يقع في منطقة هندوسية أو مسلمة من ضاحية خارجية أو حتى في حالة العثور على شقة بنصف مليون دولار في أقرب المناطق بضاحية “أنديري”، فجميعهم يقولون بصراحة “مسموح لجميع الطواف ما عدا المسلمين”.
هذا التعصب أصبح موجودًا على كل المستويات، ففي أحد اللقاءات التليفزيونية، وصفت شبانة عزمي، إحدى أشهر الممثلات في الهند وعضو سابق في البرلمان، كيف أنها وزوجها كاتب السيناريو الشهير لم يستطيعا شراء المنزل الذي أرادوه لأنهما كانا مسلمين.
في شارعي الذي كنت أسكن فيه، حيث اعتدت على ركوب الدراجة وراء القصور الكبيرة التي تهدمت، تحولت المناطق التي يسكنها الجاينية (أحد الديانات الهندية) من مجمعات سكنية حديثة إلى مناطق خالية من اللحوم، ولا تجرؤ أي من المحال القريبة على بيع منتجات غير نباتية.
ذهب العالم الذي كنت أعرفه، وبدا المكان رمزيًا في زيارتي الأخيرة، فقد بدا بيتنا وكأنه ضريح، فهناك ملصقات على النوافذ وتم إزالة الزخارف، وأصبحت الأدوار الثلاثة العليا مطمورة كأنها داخل خرسانة، وقامت شركة تطوير بشراء السكن من المستأجرين، ومن المفترض أن تبدأ أعمال التجديد.
كنت أتساءل عن الثمن الباهظ الذي سيتطلبه تجديد منزلنا، حيث لا يمكن بالتأكيد استعادة المدى الاقتصادي الاجتماعي الذي كان يمتلكه المبنى؛ فأصحاب محلات البقالة الذين اعتادوا العيش في تلك الأماكن المكتظة وكانوا مرتبطين بمحلاتهم في الطابق السفلي، تخلوا عنها بلا سبب وأصبحت محال أزياء وإلكترونيات، وسلالم الدرج التي اعتاد الرجال والنساء النوم فيها مساءً، تم غلقها بحواجز حديدية، قد تقولون بأنهم مشردون، لكنهم في ذلك الوقت كانوا جيراننا بالرغم من أنهم فقراء.
هل ستصبح المنطقة بأكملها مجمعات سكنية مغلقة مصممة لتصفية التنوع بالمدينة؟
في عام 1958 عندما جاء والدي إلى هذه المدينة، قام باستئجار غرفة في الباطن بـ 150 روبية في الشهر (حوالي 31 دولارًا في ذلك الوقت)، ولم يكن يعلم أنه سيعيش هنا حتى وفاته عام 2002 ووالدتي حتى عام 2005، لقد جاء من روالبيندي، التي كانت تابعة للهند وأصبحت تابعة لباكستان، وبالرغم من أنه فقد منزل عائلته في الصراع الدامي مع المسلمين لمدة 11 عامًا والذي أدى إلى تقسيم البلاد، إلا أنه عندما وصل إلى بومباي، بدا معقولًا أن يعيش بينهم، وهذا ما يدهشني كثيرًا بشأن تلك المدينة الغابرة التي نشأت فيها.
المصدر : نيويورك تايمز